هل الذكاء الاصطناعى الفائق، مخاطرة فائقة أيضا؟

تعتقد "شانون فالور" وهى رئيسة قسم أخلاقيات البيانات والذكاء الاصطناعى في جامعة إدنبرة, ومديرة مركز مستقبل التكنولوجيا الأخلاقية، بأن الذكاء الاصطناعى "الخارق أو الفائق" سيمحو أهم ما يميز الإنسان.

وأحدث كتبها هو "مرآة الذكاء الاصطناعى: كيف نستعيد إنسانيتنا فى عصر التفكير الآلى" (دار نشر جامعة أكسفورد، 2024).

ورغم نظرتها المتشائمة ، إلا ان تركيزها على الجانب الاخلاقى والانسانى لهذا الموضوع الشائك، يمثل فى حد ذاته وجهة نظر جديرة بالاهتمام:

توصف أنظمة الذكاء الاصطناعى مثل ChatGPT وGemini  بأنها المقدمة الطبيعية للوصول الى الذكاء الاصطناعى "الخارق للطبيعة". 

وسواءا كان ذلك وعدا بالانتصار أم بالهلاك، فان العقيدة الأساسية لهذا الذكاء الاصطناعى "الخارق"، هى خفض الاعتماد على الإبداع البشرى ومحو التمييز ما بين عقولنا الواعية وتلك الأدوات الميكانيكية التى قمنا ببنائها.

تفتقر أنظمة الذكاء الاصطناعة المتاحة اليوم إلى أكثر السمات المميزة للعقول البشرية؛ انها لا تمتلك ما نطلق عليه الوعى البشرى، ولا المشاعر الإنسانية كالألم والفرح والخوف والحب. 

نعم يمكنها الإجابة على الأسئلة التى نختار طرحها، ورسم صور جميلة لنا، وإنشاء مقاطع فيديو وغير ذلك الكثير. 

لكن أنظمة الذكاء الاصطناعى تلك، لا تمتلك داخلها سوى روح مفعمة بالظلام.

إن البشر يخاطرون "بفقدان السيطرة" على الذكاء الاصطناعى فى غضون بضعة سنوات.  

إن المخاطر التى تمثلها أنظمة الذكاء الاصطناعى، حين تتدخل فى إنشاء البنية التحتية الحيوية الخاصة بأنظمة الدفاع، تبث الرعب، وتظهر الحاجة الملحة إلى ضمان إدارة مثل هذه الأنظمة بشكل أكثر فعالية.

ان الذكاء الاصطناعى والأنظمة المنتجة له، تفتقر القدرات والميزات الأساسية للعقل البشرى، كالقدرة على التأمل الذاتى الواعى أو التعاطف أو الذكاء الأخلاقى.

فكرة أن أجهزة الكمبيوتر تعمل على نفس المبادئ الأساسية التي تعمل بها أدمغتنا ليست جديدة. فقد كانت النظريات الحسابية للعقل متداولة منذ نشأة علوم الكمبيوتر فى القرن العشرين. 

فمن الممكن وصف الدماغ البشرى، على المستوى  الأساسى، بأنه يقوم بنوع من الحساب البيولوجى.

إلا أن  الذكاء البشرى ــ سواء كان حاسوبيا في جوهره أم لا ــ ينطوى على مجموعة ثرية من القدرات التى تتخطى إلى حد بعيد مما تفعله حتى أكثر أدوات الذكاء الاصطناعي تطوراً. 

نحن لسنا مجرد آلات حسابيه او علماء رياضيات أكفاء وعباقرة محتملين فى فك الشفرات.

ما هو الذكاء الاصطناعي الخارق؟:

يتم تعريف "الذكاء الاصطناعى الخارق" بأنه نظام ذكاء اصطناعى "يتفوق على البشر في مجموعة واسعة من المهام". 

لعقود من الزمان، تم تعريف أهم أهداف أبحاث الذكاء الاصطناعى بأنها الوصول للذكاء العام الاصطناعى (AGI) بما يتوافق مع العقل البشرى. 

وحسب تعريف شركة IBM لبرنامج البحث الذى يهدف الوصول إلى الذكاء الاصطناعى العام:

[الذكاء الاصطناعي العام] يتطلب ذكاءً مساوٍ للبشر؛ سيكون لديه وعى ذاتى. لديه القدرة على حل المشكلات والتعلم والتخطيط للمستقبل. ... يهدف الذكاء الاصطناعى القوى إلى إنشاء آلات ذكية لا يمكن تمييزها عن العقل البشرى.

ولكن "OpenAI" والباحثين مثل "جيفرى هينتون" و"يوشوا بينجيو" يروجون الآن لقصة مختلفة. 

فلم تعد الآلة الواعية بذاتها والتي "لا يمكن تمييزها عن العقل البشرى" هى الطموح المحدود للذكاء الاصطناعى العام. 

الهدف أصبح الآن، الآلة التى تضاهينا أو تتفوق علينا فى مجموعة واسعة من المهام ذات القيمة الاقتصادية. 

لقد أصبح تعريف شركة OpenAI الجديد هو:

"أنظمة عالية الاستقلالية تتفوق على البشر فى العمل ذى القيمة الاقتصادية القصوى".

إن أسلوب OpenAI في استخدام الذكاء الاصطناعى العام ينزع صفة الذكاء عن أى شىء لا يحقق قيمة اقتصادية. 

ان مثل هذا التوجه يعد إهدارا هائلاً لقدراتنا البشرية وتقليل من قيمتنا كبشر. 

فهل يمكن استساغة أنك لست أكثر من العمل الذي أنجزته اليوم؟ 

وهل أنت أقل إنسانية أو أقل ذكاءً إذا قضيت ساعات يقظتك فى القيام بأشياء لا يوجد لها سعر فى السوق؟

ان نشر مثل هذه النوعية من التفكير وتغذيتها لتصبح هى الثقافة الأوسع انتشاراً، سوف يؤدى ببطء إلى تآكل فهمنا لأنفسنا ككائنات بشرية تمتلك عواطف، واحاسيس، ومشاعر.

فمثل هذا النهج من التفكير يرى فى تصرفات البشر بحكمة، أو مرح، وسواء كانوا مبتكرين، أو مبدعين، أو متأملين، أو تميزوا بالشجاعة، أو التعاطف، أو امتازوا بحس العدالة، فكل ذلك ليس أكثر مجرد مشاعر شاعرية لا طائل من ورائها. 

الآله الخارقة:

إن الطموح لجعل الذكاء الاصطناعى خارقًا للطبيعة يعنى أن يكون لديه نفس القوى التى يتمتع بها البشر، بالإضافة إلى قوى أخرى نفتقر إليها ــ أو أن يكون لديه قوى بشرية بدرجة لا نملكها. 

نحن نستخدم مصطلح خارق للطبيعة ونفهمه على أنه يعني شيئًا يشبهنا كثيرًا، ولكنه أفضل. ربما تكون شخصية سوبرمان الخيالية هى أفضل تعبير معروف عن فكرة خارق للطبيعة. لم يولد سوبرمان على الأرض، لكنه يجسد ويتفوق كثيرًا على الحدود الإنسانية للقوة البدنية والفكرية والأخلاقية. إنه ليس خارقًا للطبيعة لمجرد أنه يطير؛ فالصاروخ يفعل ذلك.  إنه ليس خارقًا للطبيعة لأنه قادر على نقل أشياء ثقيلة؛ بل إن الرافعة الشوكية تكفي لهذا الغرض. ولا هو خارق للطبيعة لأنه يتفوق في "مجموعة واسعة" من مثل هذه المهام. بل لانه بدلاً من ذلك يمثل تضخيما طموحا لامكانياتنا باعتبارنا بشر.

يظل سوبرمان كائن يرغب، ويعانى، ويحب، ويحزن، ويأمل، ويهتم ويشك؛ إنه يختبر كل هذا بشكل أكثر كثافة وعمقًا مما نختبره نحن، إنه أبعد ما يكون عن كونه منتجًا بلا عقل للكفاءات.

أما ما يبشرونا به فهو كائن لا يمتلك أى حس، هو كائن بلا رغبة أو أمل بل مجرد منتج قابل للتكيف مع المهام الاقتصادية القيمة الموكلة إليه باعتباره خارق للطبيعة.

إننا نمحو أو نقلل من قيمة مفهوم "الإنسان" وكل ما يمكن للإنسان أن يفعله ويسعى إليه. 

وبطبيعة الحال، فإن محاولات محو وجودنا الإنسانى ليست بالأمر الجديد؛ وليس الذكاء الاصطناعى اكثر من مجرد عذر جديد للقيام بذلك.

فطوال العصر الصناعى بأكمله، قام المستثمرون باستغلال البشر للقيام بأعمال التصنيع والخدمات وغيرها لإنتاج السلع عبر أقصى قدر من الاستغلال للبشر بينما يحاولون جعلنا ننظر إلى أنفسنا ــ والأهم من ذلك، إلى بعضنا البعض ــ باعتبارنا آلات معيبة وغير فعالة وقابلة للاستبدال ومصيرها أن يتم التخلص منها بمجرد انخفاض معدل إنتاجنا إلى ما دون النتائج المتوقعة أو بمجرد العثور على آلة أكثر إنتاجية لتحل محلنا.

لقد كان النضال ضد هذه الإيديولوجية الاستغلالية صعباً لعدة مئات من السنين بفضل المقاومة القوية من جانب حركات العمال وحقوق الإنسان التى صاغت ودافعت عن معايير إنسانية وغير ميكانيكية وغير اقتصادية لمعاملة البشر وتقديرهم ــ معايير مثل الكرامة والعدالة والاستقلال والاحترام.

ولكن لإقناعنا أخيراً بأن البشر ليسوا أكثر من مولدات ميكانيكية لمخرجات ذات قيمة اقتصادية، يبدو أن الأمر لم يتطلب سوى الحصول على أدوات آلية تنتج مثل هذه المخرجات عبر وسائل ميكانيكية.  

استعادة إنسانيتنا:

ولكننا لم نخسر المعركة بعد. وكما كتب الفيلسوف "ألبرت بورجمان" فى كتابه الصادر عام 1984 بعنوان "التكنولوجيا وطبيعة الحياة المعاصرة"، فإننا حين تحل التكنولوجيا محل احد مجالتنا الحيوية، قد نشعر بالحزن على ما سُلب منا. وفى تلك اللحظة غالباً ما نبدأ مقاومة مثل هذه التكنولوجيا واستعادة دورنا الإنسان .

من أمثلة ذلك الطريقة التى تم بها إحياء فن الطهى بعد اختراع الميكروويف باعتباره ممارسة إبداعية واجتماعية عزيزة، لا يمكن الاستعاضة عنها. وعلى نحو مماثل، لم يقض جهاز المشى على رياضة الجرى والمشى فى الهواء الطلق. 

ولعل أيديولوجية الذكاء الاصطناعى "الخارق للطبيعة"، حيث يبدو البشر مجرد بطيئين وغير فعالين، قد تشعل شرارة إحياء أوسع وأكثر أهمية سياسيا للمعانى والقيم الإنسانية. وربما يعمل الفقر الأخلاقى والتجريبى للذكاء الاصطناعى على إعادة الإعتبار للأبعاد الإنسانية الأكثر حيوية لذكائنا الفطرى.

وفى كل الأحوال فإن هذا لا يعنى أن الذكاء الاصطناعى ليس له مكان فى العالم المنشود الأكثر إنسانية. نحن بحاجة إلى الذكاء الاصطناعى لتولى مهام غير آمنة أو غير مناسبة للإنسان بطبيعتها، مثل تنظيف البيئة واستكشاف الفضاء؛ نحن بحاجة إليه لمساعدتنا في خفض التكاليف والتكرار الآلى والعمليات الإدارية الدنيوية؛ نحن بحاجة إلى الذكاء الاصطناعى لتوسيع نطاق صيانة وإصلاح البنية التحتية؛  نحن بحاجة إلى الذكاء الاصطناعى للتحليل الحسابى للأنظمة المعقدة مثل المناخ والجينات والزراعة وسلاسل التوريد.

ويبقى السؤال المطروح، هل نحن مستعدين الأن وقبل فوات الاوان لإيقاظ أنفسنا ؟ حتى لا ينتهى بنا المطاف الى عصر يكافئ ويعترف فقط بالتفكير الميكانيكى.

هل مازلنا نتذكر ونعى حقيقة وعينا وقيمنا الإنسانية الرفيعة.

 لا أعتقد أنه فات الأوان. 

بل أعتقد أن الآن قد يكون الوقت المناسب تمامًا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

حوار عن "الوعى" مع الذكاء الاصطناعى

مصر والنوبة : قصة الكوشيون، الأسرة الخامسة والعشرون