مصر والنوبة- التجارة والحرب والدبلوماسية

تميزت علاقات مصر القديمة مع النوبة بفترات مختلفة من السلم ومن العداء. 

فقد كانت مناطق النوبة السفلى تمثل لمصر مصدراً هاماً لجلب مواد وموارد أساسية.

كما أنها وفرت إمكانية الوصول النهرى والبرى إلى السلع القادمة من جنوب الصحراء الكبرى، بما في ذلك الحيوانات والنباتات والمعادن والأحجار الكريمة وشبه الكريمة وكذلك العمالة. 

ومنذ عصر ما قبل الأسرات فى مصر، سافر الناس على طول وادى النيل، وهم ينقلون البضائع المختلفة.

وبينما أدى وجود السهول الفيضية المصرية الواسعة الخصبة، والغنية بالموارد الحيوانية والنباتية والمعدنية، ونهر النيل الصالح للملاحة بين أسوان والبحر الأبيض المتوسط، إلى زيادة عدد السكان وثراءهم واستقرارهم وتكوين دولة موحدة. كانت السهول الفيضية الأضيق و الممتلئة صخورًا والأقل ثراءً زراعيًا فى النوبة تعوق مثل هذا التطور. 

كما كانت مناطق النوبة مقسمة بين عدة مجموعات قبلية، الأمر الذى جعلها الشريك الأضعف فى أى علاقات تفاعلية بينها وبين مصر.

فى فترة ما قبل الأسرات (3500-3000 قبل الميلاد) بدت تلك العلاقات فى مراحلها المبكرة محدودة وغير رسمية. 

ففى مملكة متوسعة جنوب مصر (مقرها أبيدوس ونقادة وهيراكونبوليس) حدث تفاعل مع مجموعات ثقافية من النوبة السفلى (شمال السودان الآن). 

وتعكس مبخرة من مقبرة نخبوية في قسطل، موقع مشيخة محلية ثرية، تصور حاكمًا مصريًا من "الأسرة 0" جالسًا داخل سفينة.

الفترة المبكرة من الأسرات (3000-2700 قبل الميلاد):

أدى توحيد الملك نارمر لمصر، حوالى عام 3000 قبل الميلاد، إلى حدوث تغيير فى طبيعة علاقات مصر مع النوبة. فقد تم تحصين "إلفنتين- أسوان الآن" وأصبحت البعثات المرسلة إلى النوبة السفلية أكثر تواتراً، وغالبًا ما تضمنت أنشطة عسكرية وأنشطة تهدف لاستعادة الأسرى. 

وقد أدت هذه البعثات العسكرية إلى استنزاف وتشتيت معظم مستوطنات النوبة على طول السهول الفيضية في النوبة السفلية. 

توجد لوحات للملك المصرى "آها" وهو يرسل قوات ضد "تاسيتى"، ويصور نص صخرى مصرى مخصص للملك "جر" فى جبل الشيخ سليمان، عند الشلال الثانى، سفينة وأعداء مقتولين وسجين مقيد مع رمز تاسيتى، فيما يبدو انه إحياء لذكرى إخضاعه العسكرى لتلك المناطق من النوبة حتى أقصى مكان وصل اليه جنوباً.  

وبعد مرور ما يقرب من 300 عام، تشير لوحة من "هيراكونبوليس" إلى أن "خعسخموى"، أحد ملوك أواخر الأسرة الثانية، هزم تاسيتى، في حين تشير نصوص أخرى إلى إذلاله "للأراضى الأجنبية". 

كما كثفت مصر استغلالها المباشر ولتأمين الوصول إلى الموارد الرئيسية فى النوبة السفلى. بحيث ألحقت الهزيمة بالمقاومة المحلية وبالوسطاء المنافسين فى التجارة مع جنوب النوبة. 

على سبيل المثال، كان "النيس" وهو نوع من أنواع الأحجار المتحولة, مادة شائعة فى مصر فى أوائل عصر الأسرات. 

وعلى حين لا يوجد دليل مباشر على سيطرة مصر على مناجم الذهب فى الصحراء النوبية الشرقية، فقد وضعت بعثة مبكرة من الأسرة الثانية اسم "نينتجر" فى نص صخرى في جبل "الجرجاوى"، ليس بعيدًا عن نقاط الوصول إلى منطقة تعدين الذهب.

قد تجعل تلك الحملات العسكرية الأمر يبدو وكأن التفاعلات على طول وادى النيل امتازت فقط بالعنف، لكن استمرار الواردات المصرية، بما فى ذلك الكتان والفخار وطابعات الأختام الأسطوانية، يعنى وجود بعض التفاعلات السلمية أيضاً. 

وقد يعكس تفكيك التحصينات فى "إلفنتين" خلال عصر الأسرة الثانية واستبدالها بمستوطنة موسعة وغير محصنة، الشعور بأن المصريين استشعروا تهديدًا أقل من سكان تلك المجموعات. 

مع ذلك، فقد كشفت الدلائل الأثرية عن اختفاء تلك المستوطنات الأصلية تمامًا من سهل فيضان النوبة السفلى بحلول نهاية الأسرة الثالثة.

 كما ان سكان تلك المجموعة النوبية تحولوا إلى نمط حياة شبه بدوى متنقل كرد فعل على الغزوات المصرية المتزايدة.


المملكة القديمة المبكرة (2700-2400 قبل الميلاد):

بحلول الأسرة الثالثة، وصلت مصر إلى ذروة قوتها، وكثفت وجودها وسيطرتها على أجزاء من النوبة السفلى.  

وتؤكد نصوص صخرية تعود إلى الأسرة الثالثة أن الملكين "سخمخت" و"ساناختى" أرسلا بعثات تعدين إلى توماس (200 كيلومتر جنوب أسوان). ووفقاً لحجر باليرمو، أرسل الملك "سنفرو" من الأسرة الرابعة بعثة كبرى إلى النوبة، فأسر 7000 رجل وامرأة، بالإضافة إلى 200 ألف رأس من الأغنام والماعز. 

ويسجل نصان صخريان من خور العقيبة في صحراء النوبة الشرقية، من الأسرة الرابعة أو الخامسة، قيام مسؤولين مصريين بإحضار "20 ألف رجل"، وأسر "17 ألف نوبى"، فيما يبدو انه اشارة الى حملة "سنفرو". ويمثل هولاء الأسرى القبائل الصحراوية شبه البدوية، التى قاومت على الأرجح التوغلات المصرية التى قامت باستغلال أراضيها ومواردها. 

ويشير المجمع الجنائزى لساحو رع، أحد ملوك الأسرة الخامسة، إلى نشاطات واسعة النطاق فى الخارج، حيث يضم مشاهد ضرب واخرى لسجناء من النوبة وليبيا.  

وتتعزز هذه الإشارات من خلال ظهور اسمه فى نص صخرى فى توماس، وعلى أشياء أخرى من جبل العصر وكور (بوهن جنوباً)، مما يؤكد قيام "ساحو رع" بعمليات استغلال واسعة النطاق للنوبة السفلى.

إن النشاط المتزايد لمصر في النوبة السفلى خلال الأسرتين الخامسة والرابعة يتجلى في الكثير من الفخاريات التي تعود إلى المملكة القديمة، بالإضافة إلى الأسماء الملكية على التماثيل والشواهد وغيرها من العناصر، في محاجر النيس في جبل العصر. وقد تم استخدام النيس من جبل العصر على العديد من حاويات المملكة القديمة في مصر، بالإضافة إلى تماثيل "خفرع" و"ساحو رع". بالإضافة إلى ذلك، فإن اكتشاف بعض قطع الفخار التي تعود إلى المملكة القديمة تحت حصن من المملكة الوسطى فى كوبان قد يشير إلى نشاط سابق في مرسى النيل الرئيسي والمعسكر الأساسى الذى سهّل الوصول إلى مناجم الذهب فى وادى العلاقى.

وبحلول أوائل الأسرة الرابعة، تم إنشاء مستوطنة محصنة دائمة على طول ضفاف النيل في "كور"، عند الطرف الشمالى من الشلال الثانى. تميزت بجدار "دفاعى" بعرض 2 متر، وبوابة، ومساكن، وهياكل إدارية، ومخازن، واسطبلات للحيوانات، وأفران صغيرة لصهر النحاس (قد يكون بقايا النحاس نتيجة لمعالجة الذهب).  

وقد حوت المستوطنة على فخار من المملكة القديمة وقوالب سبائك وأختام تعود إلى الملوك "خفرع" و"منقرع" و"وسرف" و"ساحو رع" و"نفر إر كارع" و"نيوسر رع". 

وقد يرجع تاريخ بعض الفخار إلى ما قبل المملكة القديمة، فى حين قد تمتد شظايا فخارية أخرى إلى أواخر الأسرة الخامسة. 

كما كشفت اثار "كور" عن بعض الفخار الخاصة بالمجموعة النوبية، مما يشير إلى أنها قد تكون موقعًا سابقًا لهم، فى حين يشير وجود نوع اخر من الفخار  إلى وجود بعض التفاعلات و/أو التجارة مع النوبة العليا، والتى قد تعكس إحدى مزايا "كور" الرئيسية باعتبارها موقعاً جنوبيا معزول وهام.


المملكة القديمة المتأخرة (2400-2200 قبل الميلاد):

بحلول أواخر الأسرة الخامسة، حوالى 2400 قبل الميلاد، استوطنت قبائل من الرعاة النوبيين شبه الرحل، والذين نشأوا فى النوبة العليا، الكثير من سهل الفيضان فى النوبة السفلى. 

تصف بعض نصوص الأسرة السادسة العديد من التجمعات القبلية والأقاليم فى شمال النوبة، مثل "واوات"، و"إرتجت"، و"ستجو"، كل منها يحكمها زعيم.

شجعت عملية إعادة الاستيطان تلك مصر  على التخلى عن "كور"، رغم النقص المحتمل فى استخراج الأحجار من جبل العصر. ومع ذلك، استمر استخراج الأحجار في توماس خلال الأسرة السادسة، كما تشهد بذلك النصوص القصيرة التى تركها المسؤولون المصريون هناك.

كما شهدت عودة ظهور تلك المجموعة النوبية فى المنطقة،  زيادة فى النشاط المصرى، تزامن مع سفر البعثات التجارية إلى ما وراء النوبة السفلى.

يذكر "وينى" فى سيرته الذاتية، أنه تم دمج قوات جنوبية مساعدة من "واوات"، و"إرتجت"، و"ميدجا"، و"كامى"، و"يام"، وأراضى "تيجميه" (ليبيا) في قوة استكشافية مصرية كبيرة فى عهد "بيبى الأول". 

ويشير "وينى" إلى أنه في عهد الملك "مرين رع الأول"، تم شق قناة بالقرب من "إلفنتين"، ربما لتسهيل الشحن فى منطقة الشلال؛ وقد كلفه نفس الحاكم بتوظيف النوبيين من "واوات"، و"إرتجت"، و"ميدجا"، و"يام" لبناء أربعة زوارق من أشجار السنط النوبية لنقل الحجارة لمجمع هرمه. 

كما عمل النوبيون فى مرسى مصر على البحر الأحمر فى مرسى جواسيس، حيث يعود تاريخ أوانى الطهى النوبية إلى 2500-1500 قبل الميلاد.  وتشهد النقوش في صحراء مصر الجنوبية الشرقية وجنوبها فى النوبة، بما في ذلك "وادى دنجش" و"بير مويلحة" (وادى أم هدى)، على أنشطة أخرى تعود إلى الأسرة السادسة، والتي تعكس التنقيب المصرى عن مواد أخرى غير الذهب.

قاد حكام "إلفنتين - أسوان الأن" وأبناؤهم، خلال الأسرة السادسة، قوافل تجارية برية ونهرية عبر النوبة السفلى إلى "يام" فى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولا يزال موقع "يام" محل جدال: ربما يشمل المستوطنة المبكرة فى كرمة (حوالي 2500-2050 قبل الميلاد). وتُظهِر مستوطنة كرمة وتلال الدفن المجاورة لها اتصالاً وثيقًا بين مجموعة النوبة السفلى وبعض العناصر المصرية في أواخر المملكة القديمة. ويُظهِر لوح يحمل أسماء قائدى سفينتين وصول بعثة نهرية من المملكة القديمة؛  وتشهد حاويات "مرهم الكالسيت" العديدة التى تحمل أسماء "بيبى الأول" و"مرن رع الأول" و"بيبيى الثانى" على الهدايا الملكية، كما تعكس الخناجر النحاسية ورؤوس الفؤوس والمرايا الهدايا والتجارة الإضافية. 

وتحتوي مقبرة كرمة المبكرة، على بعد 100 كيلومتر جنوب كرمة، على عدد قليل من القبور التى تحتوي على واردات مصرية فاخرة. كما تظهر المرايا المصنوعة من سبائك النحاس المصرية، وغيرها من العناصر، في مواقع كرمة المبكرة التي تصل إلى الشلال الرابع، مما يشهد على انتشار واسع النطاق لعدد قليل نسبيًا من السلع المصرية في سياقات معزولة. 

لقد حدثت أعمال عدائية ومصائب متزايدة خلال الأسرة السادسة. فقد توفى "ميخو الأول"، زعيم القوافل، فى النوبة السفلى لأسباب غير محددة، كما توفى ابنه وخليفته، "سابنى"، فى نهاية رحلته الخاصة إلى النوبة. 

وتسلط هذه المآسى الضوء على مخاطر ومصاعب السفر إلى الخارج إلى جانب القيمة العالية للمواد التى سعت مصر للحصول عليها.  

وقد تفاوض المسؤولون المصريون مع السكان المحليين لاستعادة جثث القادة: أحضر "سابنى" 100 حمار، بما في ذلك هدايا من الزيوت والعسل والكتان وأوانى الفخار لدفعها للأشخاص المعنيين في "واوات". ويضيف أنه تمكن من استعادة كل الجزية التي كان والده ينقلها إلى مصر، بما في ذلك البخور، وناب فيل ضخم يبلغ طوله 1.5 متر، و بشكل خاص جلد أسد كبير.

من ناحية أخرى، يجب الإشارة الى "حارخوف" حاكم صعيد مصر، الذى قاد عدة بعثات إلى "يام" فى عهد "مرين رع الأول".  فى البداية كان يرافق والده فى تلك البعثات، ثم أصبح لاحقاً القائد الوحيد لها، بدءًا من مقاطعة ثينيت (أبيدوس). 

استخدم "حارخوف" فى رحلاته التى استمرت من سبعة إلى ثمانية أشهر إما طريق الفيل أو طريق الواحات لعبور المناطق الغربية من "إرتجيت" و"ميخر" و"تيريريس" و"إيرتجيت"، وعاد عبر طريق مختلف عبر "سيتجو" و"إرتجيت" و"واوات".

استعاد "حارخوف" فى رحلاته كميات كبيرة من الجزية، من جميع أنواع العناصر والمكونات الفاخرة، كالبخور، والأبنوس ، وزيت هيكنو، والشسات، وجلود النمر، وأنياب الفيلة، والعصى، والماشية والماعز.  

ولعل مهمته الأكثر شهرة إلى "يام"، حدثت فى وقت مبكر من حكم "بيبى الثانى"، حين أحضر "حرخوف" "قزمًا من رقصات الإله"، وُصف بأنه حدث نادر للغاية لدرجة أن "بيبى الثانى" قدّره أكثر من حمولة البعثة بأكملها. 

كتب "بيبى الثانى" رسالة إلى "حرخوف" يحثه فيها على حماية القزم باستمرار أثناء عبوره النيل فى طريق عودته إلى مصر. 

خلال فترة حكم "بيبى الثانى" الطويلة، سجل حاكم آخر من "إلفنتين"، بيبيناخت، في سيرة قبره أنه قاد حملتين ضد "واوات" و"إرتجت" فى النوبة السفلى، مما أسفر عن مقتل العديد من الأعداء واستعادة العديد من الأسرى (بما فى ذلك الزعماء) والماشية والأغنام والماعز.


خاتمة:

شكلت الفترة من أواخر عصر ما قبل الأسرات وحتى المملكة القديمة فترة حاسمة فى تحديد وعى مصر، وانعكس ذلك على اهتمامها بالتجارة، وسعيها للسيطرة على أجزاء واسعة من شمال النوبة كلما كان ذلك ممكنًا. 

وفى وقت لاحق، فى المملكة الوسطى، أنشأت مصر تحصينات كبيرة فى جميع أنحاء النوبة السفلى، من أجل حماية طرق الوصول إلى مناجم الذهب في "واوات"، ومحاجر الحجر، وغيرها من الموارد والمواد الخام، على حين تم تأمين النوبة السفلى من غزوات القبائل الصحراوية المجاورة ومن مملكة ناشئة قوية كان مقرها تلك المدينة المحصنة فى "كرمة"، والتى كانت مصر تتاجر معها وتقاتل ضدها ايضا.


عن مقال "جريج مومفورد" أستاذ مشارك علم المصريات فى قسم الأنثروبولوجيا في جامعة ألاباما فى برمنجهام. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

حوار عن "الوعى" مع الذكاء الاصطناعى

مصر والنوبة : قصة الكوشيون، الأسرة الخامسة والعشرون