يسبر "جون ب. آيريش" فى هذا المقال أغوار المسار الفكرى الثورى لهذا الفيلسوف:
المقال:
على الرغم من إسهامات "فولنى" الهامة فى تاريخ الفلسفة السياسية، يظل هذا المفكر التنويرى المعروف شخصية مهملة فى تاريخ الفلسفة.
أن تأثير فكره التنويرى وخاصه على السنوات التكوينية الأولى للولايات المتحدة، تؤكد على أهمية أعمال هذا الفيلسوف المميزة.
برز "فولنى" كزعيم بارز فى الجناح المادى للحركة "الديستية"، متحديًا الهياكل الدينية والسياسية التقليدية.
[الديستية او الإلوهية حركة تؤمن بوجود إله خلق الكون ثم تركه يسير وفق قوانينه الطبيعية دون التدخل فى شئونه_ المترجم].
وُلِد "قسطنطين فرانسوا شاسيبوف"، الذي أُطلِق عليه فيما بعد اسم "كونت دى فولنى"، في الثالث من فبراير عام 1757 في بلدة "كرون" فى مقاطعة "مين" الفرنسية. وكان ابنًا ل"جاك رينيه شاسيبوف دى بواجيراس"، وهو محامٍ بارز، و"جين جيجولت دى لا جيراديس"، التي توفيت بشكل مأساوى عام 1759 عندما كان "فولنى" فى الثانية من عمره فقط. وقد ساهم هذا الفقد المبكر فى طفولة مضطربة، اتسمت ببيئة منزلية كئيبة وتجارب مسيئة من التنمر المدرسى.
في عام 1769، تبناه خاله "جوزيف جيجولت"، ونقله إلى كلية "أنجيه". وبحلول عام 1773، التحق "فولنى" بكلية الحقوق هناك.
ولكنه فى عام 1775، عندما بلغ سن الرشد وورث ثروته، غادر "أنجية" إلى "باريس"، حيث استقر في الحى اللاتينى.
وعلى الرغم من أنه كان مجتهداً بطبيعته بشكلٍ واعد، إلا أن افتقاره إلى عاطفة والديه ادى إلى نوع من الإعاقة فى تطور شخصيته، بما تركه منعزلاً وغاضباً وكئيباً.
وكانت شخصيته المتقلبة المزاج تدفعه غالبًا إلى الانفجار، وخاصة عندما يتم الاختلاف معه علناً.
في "باريس" درس الطب وأصبح صديقاً ل"بيير جان جورج كابانيس"، الفيلسوف المادى الرائد. كما طور "فولنى" اهتمامًا باللغة العربية.
وقام "كابانيس" بتقديمه إلى شخصيات بارزة فى عصر التنوير الفرنسى، مما جعل هذه الفترة حاسمة فى تطور "فولنى" الفكرى.
في عام 1782، انطلق "فولنى" من "مرسيليا" فى رحلة استغرقت ثلاث سنوات إلى الشرق الأوسط. وخلال هذه الفترة، غير اسمه إلى "فولنى"، والذى استوحاه تكريمًا لاسم بطله الأدبى والفكرى "فولتير".
أسفرت تلك الرحلة عن النشر الناجح لكتاب "رحلات في مصر وسوريا (1787)"، والذى تضمن روايات مفصلة عن الجغرافيا الطبيعية والاجتماعية للمنطقة، والمناخ، والتضاريس، والاقتصاد، والدين، والمؤسسات، والتاريخ الحديث.
قدمت هذه الرحلات رؤية أقل غموضاً للشرق، مبنية على الحقائق والملاحظات، على الرغم من أنها كانت ايضا مليئة بنظرة الازدراء الأوروبى الفوقية التقليدية للشرق.
مثلت أعمال "فولنى" المبكرة تحديا لأفكار "البارون دى مونتسكيو (1689-1755)"، وخاصة تلك الموجودة فى عمله الشهير "روح القوانين (1748)"، حين زعم "دى مونتسكيو" أن العوامل الطبيعية مثل المناخ تؤثر بقوة على تطور عادات المجتمع ومؤسساته. ومع ذلك، رأى "فولنى" أنه فى حين قد يؤثر المناخ على شكل الحكومة والثقافة، إلا أن ذلك بمثابة عامل مساهم وليس عاملاً حاسماً في التطور المجتمعى.
عند عودته إلى فرنسا فى عام 1785، تعرف "فولنى" على "توماس جيفرسون"، السفير الأمريكى فى فرنسا، الذى حافظ معه فيما بعد على صداقة وثيقة ومراسلات طويلة، استمرت طوال حياته.
في عام 1788، نشر فولني ثانى أهم أعماله التاريخية، "تأملات في الحرب التركية"، وهي دراسة فلسفية قارنت بين قوة الدولة الروسية ذات التوجه الغربى والحالة الضعيفة للإمبراطورية العثمانية.
وفى هذا العمل، حذر "فولنى" من الصعوبات المرتبطة بالحصول على مستعمرات في الخارج، والتى زعم أنها تؤدى إلى حلقة مفرغة من السلوك الاستهلاكى والحروب والأعباء العسكرية المنهكة للبلاد مالياً.
كما دعا إلى تحسين وزراعة الأراضى الخصبة في فرنسا.
فى نفس العام، حرر "فولنى" أيضاً صحيفة مثيرة للجدل مناهضة للأرستقراطية، تحت عنوان "حارس الشعب"، ونشرت هذه الصحيفة خمسة أعداد ما بين نوفمبر وديسمبر. مما لفت انتباه الشخصيات السياسية إليه، فتم تعيينه مديراً للزراعة فى جزيرة كورسيكا.
وفى عام 1789، انتُخب لعضوية الطبقة الثالثة من الطبقات العامة، وهى الجمعية التشريعية في فرنسا ما قبل الثورة، والتى تتألف من ممثلين عن الطبقات الثلاث: رجال الدين، والنبلاء، وعامة الناس.
وهناك أصبح معروفًا بآرائه السياسية المتطرفة.
في عام 1791، نشر "فولنى" كتابه "الأنقاض: تأملات فى ثورات الإمبراطوريات"، وهو أبرز أعماله التاريخية.
ومن الصعب تصنيف هذا الكتاب، ذلك أنه جسد فيه أفكاره التنويرية المتأثرة بمفهوم العقد الاجتماعى وفلسفة الديست (الإلوهية)، على حين استخدم بنية أدبية تذكرنا بالخيالات الرومانسية.
والكتاب بشكلٍ رئيسى، هو نقد للأشكال التقليدية للحكم والإدارة فى كل من الكنيسة والدولة، تم تقديمها ببراعة أدبية كبيرة على شكل قصة حلم تدور أحداثها في الشرق الأدنى عام 1784، أثناء رحلات "فولنى" فى الشرق الأوسط.
فنجده ينام فى أنقاض "تدمر" ويتلقى وحيًا من الجن.
ويتبع ذلك بتأملات فى أنظمة الحكم، وصعود الحضارات وسقوطها، وظهور الطبقات الطفيلية الأرستقراطية والكنسية، والتنافس ما بين الديانات المختلفة حول امتلاكها الحقيقة المطلقة - وكل ذلك مؤطر فى استعارة حية لعمليات التحول الثورى.
كان عرض "فولنى" شبه الشعرى لحججه الفلسفية، والذى جمع فيها ما بين الفلسفة الديستية والعناصر الأدبية التى جذبت اليها الرومانسيين، سبباً فى جعل تلك الحجج تلاقى شعبية لدى جمهور واسع.
ولعل أفضل توصيف لهذا الكتاب هو أنه دراسة لما يمكن أن نطلق عليه اليوم "الأديان المقارنة".
وتتلخص أطروحته المركزية فى أن كل الأديان هى نتاج سياقاتها الجغرافية والبيئية والتقليدية، وبالتالى فهى ترتكز على عوامل تاريخية وزمنية.
ويزعم "فولنى" أنه لا توجد أى عقيدة بعينها تحتكر الحقيقة المطلقة، بما فى ذلك المسيحية. بدلاً من ذلك، ورغم أن كل هذه العقائد تشترك فى بعض المعتقدات الأساسية، فإن كل دين هو نسبى بالنسبة لزمانه ومكانه.
كان الغرض من كتاب "الأنقاض" هو تحديد تلك العقائد الأساسية والولوج نحو تأسيس دين شامل، يكون جدير بالعقل البشرى.
في أوائل عام 1792، وأثناء وجوده فى "كورسيكا"، التقى "فولنى" هناك بضابط عسكرى شاب، هو "نابليون بونابرت"، حيث أمضيا بعض الوقت معًا. وقام "فولنى" حينها بشراء قطعة أرض زراعية للقيام باستصلاحها، إلا ان مشاعر العداء المحلية تجاه الغرباء أحبطت خططه، فعاد إلى باريس فى عام 1793.
في ذلك العام نشر الجزء الثانى من البيان (المنافيستو) الخاص به: "قانون الطبيعة، أو المبادئ الفيزيائية للأخلاق".
فى هذا العمل القصير، المقدم على شكل كتاب تعليمى أو قائمة من الأفكار، حدد الإطر القانونية الموكلة إلى المشرع فى نهاية كتابه "الأنقاض".
ونجد ان "فولنى" هنا قام بتقليد زملائه من فلاسفة التنوير الذين استخدموا صيغة الكتاب التعليمى للترويج لأفكارهم المتعلقة بالاخلاق الطبيعية.
وعلى عكس كتاب "الأنقاض"، يفتقر هذا العمل إلى السخرية الفولتيرية المتميزة، حيث قام فيه بتبنى نبرة جادة، حتى حينما انتقد جان جاك روسو (1712-1778) فى موضوع مثالية الحالة البدائية للبشر.
فى أعقاب الثورة الفرنسية، ونتيجة الاختلافات ما بين سياسات "فولنى" وسياسات اليعاقبة الصاعدين, أدى ذلك إلى اعتقاله وسجنه لمدة عشرة أشهر أثناء عهد الإرهاب الشهير.
وعلى الرغم من اتهامات الديون المدنية المتعلقة بممتلكاته الكورسيكية، وتهمة الإلحاد - الذي نفاها - فقد نجا، وأُطلق سراحه بعد سقوط "روبسبيير".
ثم انتقل إلى "نيس"، ولكن سرعان ما تم استدعاؤه إلى العاصمة، حيث تم تعيينه فى المدرسة العليا، المسؤولة عن تدريب معلمى المدارس.
ألقى سلسلة من المحاضرات، نُشرت لاحقًا في عام 1800 كدليل لتدريس التاريخ: تحت عنوان "محاضرات عن التاريخ".
أوضحت هذه المحاضرات، التي ألقيت في أوائل عام 1795، العديد من الانحرافات والأخطاء التاريخية. حيث جادل "فولنى" بضرورة فهم الرياضيات والجغرافيا قبل البدء فى دراسة التاريخ، وأكد على الطبيعة الاحتمالية المتغيرة للنتائج التاريخية - مما يدل على تأثير جون لوك (1632-1704) - وزعم أن دراسة التاريخ المحلى يجب أن تسبق الدراسات الأوسع.
كما حذر أيضًا من هؤلاء المتطرفين الذين يقدسون القدماء، معتبرًا أن النماذج القديمة لا علاقة لها بالواقع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الحديث.
وفي عام 1795 نشر "فولنى" أيضاً كتاباً بعنوان "تبسيط اللغات الشرقية"، اقترح فيه نهجاً جديداً فى التنقل ما بين الأبجدية العربية والأوروبية.
ولم يكن هذا مجرد اهتمام لغوى؛ بل نبع من اعتقاده أن التقارب بين اللغات العالمية قادر على تعزيز التواصل بين الحضارات وتعزيز لفكرة انتصار العقلانية على الخرافات الدينية.
في عام 1795، وبعد إغلاق المدرسة العليا، غادر "فولنى" فرنسا إلى أميركا، فوصل أولاً إلى فيلادلفيا، مركز التنوير الأميركى.
وبعد عام واحد سافر عبر البلاد، حتى وصل فى نهاية المطاف إلى منزل "توماس جيفرسون" في "مونتيسيلو" فرجينيا.
وقد أتاحت له هذه السفرية التعرف على مجموعات متنوعة من النماذج الاجتماعية، التى زودته برؤى وآفاق قيمة. فعلى سبيل المثال، لاحظ مجتمعاً من المستوطنين الفرنسيين ينحطون نحو حالة مزرية بدائية من البؤس وانخفاض الروح المعنوية وسوء الصحة ــ بما لا يمت بأى صله لأفكار "جاك روسو" عن الحياة البدائية المثالية.
في عام 1798 عاد "فولنى" إلى فرنسا. وتناول العشاء مع "بونابرت" فى منزل "نابليون" فى شارع النصر قبل أيام قليلة من انقلاب 18 برومير (٩ نوفمبر ١٧٩٩) الذى أوصل نابليون إلى السلطة.
وقد اعتُبر الانقلاب وسيلة لحماية مكاسب الثورة من تجاوزات اليعاقبة والملكية.
وفى حين سعى "نابليون" إلى تثبيت استقرار الثورة، فقد اتجه لعودة نفس نوعية النظام القديم، بدلاً من التواصل مع الشعب والجمهوريين.
وكان هذا التماهى مع النظام القديم الفاسد بمثابة خيبة أمل كبيرة بالنسبة لفولنى، مما أدى إلى خلاف بين الرجلين.
في عام 1803 نشر "فولنى" كتابه "حول المناخ والتربة فى الولايات المتحدة الأمريكية".
ويعكس هذا العمل تركيزه على العلاقة ما بين الطبيعة الجغرافية للبلاد وما بين المؤسسات الاجتماعية الخاصة بها.
وقد أكدت ملاحظاته عن حياة الأمريكيين الأصليين على رفضه لاعتقاد "روسو" الخاص بمثالية وسعادة المجتمعات البدائية.
فبدلاً من ذلك، لاحظ "فولنى" أن تلك الحالة البدائية الأمريكية، هى عبارة عن مزيج من الفقر والصراع وانعدام الأمن والاستعباد فقط من اجل تلبية الاحتياجات الأساسية.
وعلى هذا فقد فشلت تكهنات "روسو" فى مواجهة الدراسات الواقعية التجريبية التي أجراها "فولنى" لتلك المجتمعات البدائية الفعلية.
في عام 1808، عيّن "نابليون" "فولنى" كونتًا. وبعد عامين، في عام 1810، تزوج "فولنى" من ابنة عمه، "شارلوت جيجولت دي لا جيراودايس". الا ان إسهاماته ومساعيه الأدبية استمرت دون هوادة.
فى عام 1808، نشر دراسة عن "هيرودوتس"، المؤرخ اليونانى القديم، بعنوان "التسلسل الزمني لهيرودوتوس".
فى عامى 1813 و1814، أصدر نقدًا لاذعًا للادعاءات الخارقة للطبيعة الموجودة فى المسيحية فى أبحاث جديدة فى التاريخ القديم.
فى عام 1819، أعاد معالجة اهتمامه باللغة والتوفيق بين الأبجديات الأوروبية والشرق أوسطية من خلال كتاب "الأبجدية الأوروبية المطبقة على لغات آسيا".
ورغم عودة "آل بوربون" إلى الحكم في عام 1814، إلا ان "فولنى" احتفظ بالقابه. ورغم تعاطفه مع هذه الحركة، وخاصة فى مواجهة انقلاب "نابليون"، فقد اتخذ موقفاً ناقداً عندما أعلن "لويس الثامن عشر" فى عام 1819 عن نيته مسح نفسه بالزيت المقدس. ونشر "فولنى" كتيباً مجهلاً بعنوان "تاريخ صموئيل"، سخر فيه من هذه الممارسة باعتبارها طقوساً سخيفة تعود إلى عصور بدائية غارقة فى الوحشية والخرافات.
في الخامس والعشرين من إبريل عام 1820، توفى "فولنى"، تاركًا وراءه إرثًا من الشهرة الدولية.
برز "فولنى" كشخصية محورية في المشهد الفكرى لعصر التنوير والثورة الفرنسية. تميزت حياته بالسعى الدؤوب وراء المعرفة والالتزام العميق بالفلسفة العقلانية. أثرت رحلاته وملاحظاته الثاقبة على الثقافات المختلفة بشكل كبير على كتاباته.
تحدت أعماله، وأبرزها "الأنقاض" The Ruins، الهياكل الدينية والسياسية التقليدية، ودعت إلى منظور ديستى ونهج عقلانى للمؤسسات الإنسانية.
تقدم كتاباته، التي اتسمت بالدقة التجريبية والبصيرة الفلسفية، وجهات نظر قيمة تستحق اهتمامًا أكبر اليوم
كاتب المقال:
"جون ب. آيريش" هو معلم وباحث مستقل يعيش في "بريدجبورت"، تكساس. ■
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق