الخميس، يناير 16، 2025

سينيكا وطروحاته عن الغضب

يأخذنا "ماسيمو بيجليوتش" هنا فى رحلة حول كيفية تجنب الغضب.

هل تعانى من مشكلة خاصة بالغضب؟ 

عليك اذا ما قررت أن تقرأ كتاباً واحداً فقط حول هذا الموضوع، أن يكون كتاب: "عن الغضب"  للفيلسوف الرواقى "لوسيوس آنيوس سينيكا" ( عاش بين عامى ٤ قبل الميلاد و٦٥ بعد الميلاد). 

لدرجة أن صفحة الويب الخاصة بجمعية علم النفس الأمريكية والمتخصصة فى إدارة الغضب، لا تفعل أكثر من إعادة صياغة نفس النقاط الأساسية التى طرحها "سينيكا"، وإعادة بناءها على أسس من البحث المنهجى الحديث. 

الا ان كتابات "سينيكا" تبقى بالتأكيد أكثر جاذبية من تلك التى تم تحريرها بواسطه الجمعية.

الغضب مشكلة معروفة منذ العصور القديمة، وقد ارقت فكر العديد من المدارس الفلسفية. 

على سبيل المثال، لدينا كتابات عن الغضب كتبها الرواقى "كريسيبوس" من سولى (279-206 قبل الميلاد)، والأبيقورى "فيلوديموس" من جادارا (110-40/35 قبل الميلاد)، والمتشكك "ماركوس توليوس شيشرون" (106-43 قبل الميلاد)، والأفلاطونى "بلوتارخ" من خيرونيا (46-119 بعد الميلاد). 

بالنسبة للرواقيين، تم وصف الغضب على أساس انه تعبير حسى على ما يطلق عليه"الشغف" (pathos). 

لا شك ان الأمر مختلف فى وقتنا الحالى، حيث يتم استخدام هذه الكلمة بمدلولها الإيجابى (كأن اقول "لدى شغف بموسيقى الجاز")، ولكن بالنظر إلى أن كلمة pathos هى جذر كلمة "علم الأمراض"،pathology ، فمن الواضح أنها كانت تشير فى ذلك الزمان إلى حالة غير مرغوبة فيها. 

في الواقع، كانت pathos تتعارض مع ما أطلق عليه الرواقيون "المشاعر الطيبة" (eupatheiai).  

كانت الفكرة السائدة هى أن الحياة الجيدة تنتج عن تجنب pathê قدر الإمكان مع تنمية eupatheiai بشكلٍ نشط.

الأن كيف يمكننا أن نحدد ما إذا كانت العواطف تندرج تحت فئة pathê أو eupatheiai؟ 

بالنسبة للرواقيين كان الأمر بسيطًا: 

المجموعة الأولى تتعارض مع المنطق، فى حين أن المجموعة الثانية تتوافق مع المنطق. 

يقع الغضب تحت فئة pathê لأننا عندما نغضب نتصرف فى كثير من الأحيان، بشكل عشوائى وغير عقلانى، حيث لا نرتكز على المنطق. 

على النقيض من ذلك، يمكن تصنيف الحب الذى نكنه لشريك حياتنا أو أطفالنا تحت فئة eupatheiai لأنه منطقى ومبرر. 

(من الناحية الفنية، فى الرواقية القديمة، فقط الحكيم هو القادر على تجربة eupatheiai؛ لكننا نحن الرواقيون المعاصرون مهتمون بما يشعر به البشر العاديون). 

يعرف "سينيكا" الغضب بأنه رغبة قوية فى الانتقام، وخاصة عندما تشعر أنك قد تعرضت للأذى ظلماً. ولكن بالنسبة للرواقيين، فإن مفهوم الانتقام نفسه يعد مفهوماً غير عقلانى، كونه فى النهاية ليس شكلاً من أشكال تحقيق العدالة. 

حيث توجد طرق أخرى قد تكون أكثر منطقية لمعالجة مثل هذا الظلم المتصور.  

من ناحية أخرى، قد يكون تصورك عن الموقف من الأصل خاطئًا: فقد يتبين أنك لم تتعرض للأذى أصلاً، أو لم يتم التعامل معك بشكل غير عادل على الإطلاق.

وفقاً لسينيكا ـ وأيضا للعلوم الحديثةـ فهناك ثلاث مراحل للغضب: 

الأولى: تكون لا إرادية تماماً، مثل السخونة والاحمرار أو الإحساس بالرعشة وكأنه تم صب ماء بارد على وجهك. وهى احاسيس لا يمكن تلافيها او محاولة تلافيها. 

ويمكن وصف هذه المرحلة بردة الفعل الفسيولوجية التى تؤدى إلى اندفاع مفاجئ من الأدرينالين. الأمر الذى يشير إلى أن هناك خطأ ما يوجب عليك الانتباه، وربما اتخاذ إجراء.

المرحلة الثانية: وهى مرحلة تتضمن عنصراً إدراكياً. 

فبعد أن نستشعر ردة فعلنا الفسيولوجية، نبدأ فى نسج رواية تفسر سبب هذا الغضب، كى نضع خطة لما يجب أن نفعله حيال ذلك الشعور. 

على سبيل المثال: أنا غاضب لأننى تعرضت للإهانة؛ وهذه الإهانة جرحت إحساسى: لذا فأنا بحاجة إلى الرد بقوة! 

هذه هى اللحظة التى نقرر فيها إما قبول صحة مثل هذا الانطباع من عدمه. وفى هذه الحالة لا نملك سوى لحظات قصيرة لتحويل أنفسنا عن مسار قد يؤدى إلى عمل عنيف محتمل ونتائج من المرجح أن نندم عليها.

المرحلة الثالثة: هى الغضب الحقيقى. 

فى هذه المرحلة نكون قد فقدنا السيطرة على عقولنا تمامًا، ونستسلم للغضب من خلال التعبير عنه بطريقة ما. 

الشىء الوحيد الذي يمكننا أن نأمل فيه إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، هو ألا نتسبب فى الكثير من الضرر، بما لا يمكنا من اصلاح الأمور لاحقًا.

إذن، كيف يمكننا التعامل مع الغضب بالضبط؟ 

إليكم سلسلة من الاقتراحات التي قدمها "سينيكا" لمساعدتنا على كبح جماح الغضب، وذلك كما جمعها المترجم "روبرت كاستر" فى مقاله التمهيدى لطبعة جامعة شيكاغو للصحافة حول موضوع الغضب:

(أ) تجنب الأشخاص والأنشطة والظروف التى تعرف أنها من المرجح أن تثير الغضب.

(ب) ابذل قصارى جهدك للحكم بعدل على نوايا الآخرين وحاول التصرف بشكل حيادى ودقيق.

(ج) إذا أمكن، فكر فى أسباب يمكنها ان تبرر أخطاء الآخرين.

(د) قم بتقييم أفعالك انت نفسك بطريقة محايدة. ففى نهاية المطاف، قد تكون أنت المخطئ.

(هـ) استخدم روح الدعابة، وانظر إلى الأشياء بتروى وبطريقة منطقية.

(و) فكر فى عواقب الغضب الغير ضرورية.

(ز) ذكّر نفسك بأن من يخطئ فى حقك هو من سيعانى فى الواقع من خطئه، لأن ضميره سوف يؤنبه.

(ح) تذكر أن إيذاء مشاعر اى شخص آخر يتعارض مع الطبيعة الأساسية للإنسانية.

وينصحنا "سينيكا" أيضًا بالعمل على بناء بيئة مريحة حول أنفسنا، من خلال تزيين غرفنا بألوان تساعدنا على الاسترخاء، أو تشغيل الموسيقى. 

ويقول إنه لا ينبغى لنا أبدًا الانخراط في مناقشات هامة عندما نكون متعبين أو جائعين أو مرضى، لأن هذا يتعارض مع قدرتنا على التصرف بشكل معقول ومتعاطف مع الآخرين.

بعد كل هذا، إذا وجدت نفسك فى خضم نوبة غضب، فبإمكانك إنقاذ الموقف بالانسحاب السريع للحد من أى تصعيد. 

خذ نفس عميق؛ عد إلى مائة؛ اعتذر من الحضور واذهب فى نزهة - أي شىء يخرجك من المأزق الذى قد تجد نفسك فيه، ويكسبك بعض الوقت للهدوء، ويوقف مسار اى عمل غير حكيم قد تقدم عليه. 

بمجرد استعادة رباطة جأشك، فهذا هو الوقت المناسب للعودة والتفكير بشكل نقدى فى الموقف وردود أفعالك تجاهه.

وفقاً للرواقيين ــ وأيضاً وفقاً للعلم الحديث ــ فإننا من نستطيع  التحكم فى مشاعرنا، فهى من صنع أيدينا، والتعبير عنها ليس سوى نتيجة الانخراط الإدراكى لنا. 

وعلى هذا، فإننا وحدنا المسؤولين أخلاقياً عن  كل ما نفعله عندما نكون تحت تأثيرها. 

وبمثل ما لا يوجد عذر لما تفعله إذا كنت تقود السيارة وأنت فى حالة سُكر، فلا يوجد ايضا عذر لما تفعله وأنت تحت تأثير الغضب.


كاتب المقال هو: "ماسيمو بيجليوتشى",  وهو أستاذ الفلسفة في كلية مدينة نيويورك. ومن بين كتبه كتاب "كيف تكون رواقيًا" وكتاب "ما وراء الرواقية" (مع جريج لوبيز وميريديث كونز، التجربة). 

لمزيد من مؤلفاته، يرجى زيارة موقع massimopigliucci.org

ليست هناك تعليقات: