مصر والنوبة : قصة الكوشيون، الأسرة الخامسة والعشرون

 كان ملوك النوبة (الكوشيون) فى السابق رعايا تابعين للفراعنة المصريين. ومع أفول شمس الحضارة المصرية، وانتهاء عصر الأسر حوالى عام 750 قبل الميلاد، حكموا البلاد لمدة تقرب من قرن من الزمان. 

ومن خلال تبنيهم للطقوس المصرية، خلقوا ثقافة متناغمة أثرت على الحضارتين.

إلى الجنوب من مصر، يتعرج النيل عبر مشهد صحراوى شاسع: حيث منطقة النوبة القديمة، التى تقع الآن داخل السودان. 

منذ العصور القديمة، تميزت النوبة بوجود ستة شلالات على طول نهر النيل. عند هذه النقاط، يجبر مجرى النهر الصخرى مياه النيل على الدوران فى منحدرات قوية، مما يجعل الملاحة المستمرة مستحيلة. 

ولهذا السبب ظلت النوبة لفترات طويلة على مر التاريخ معزولة عن جارتها الشمالية القوية، مصر. 

ولكن بدءًا من القرن الثامن قبل الميلاد، حكم مصر فراعنة نوبيين من مملكة كوش، الواقعة الآن شمال السودان. 

لأكثر من مائة عام، أحيوا وتكيفوا مع العادات المصرية القديمة، مما أثر على تطور مصر لقرون قادمة.

كانت أول سلالة ملكية موثقة فى النوبة العليا هى "ملكية كرمة المستقلة"، والتى تسمى أيضًا "كوش". 

ازدهرت تلك الملكية خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث مارس الملوك الكوشيون الطقوس الدينية فى المبانى المصنوعة من الطوب اللبن مثل الدفوف الهائل الذى يتوسط مدينة كرمة.

ونظرًا لصعوبة الوصول إلى النوبة عن طريق النهر، فقد كانت الاتصالات والتفاعلات الاقتصادية والثقافية وحتى العسكرية بينها وبين جارتها الشمالية مصر تتم من خلال طرق عبر الصحراء. 

خلال المملكة القديمة، كان التجار المصريون يسافرون إلى النوبة لبيع بضائعهم والحصول على الذهب والعاج والبخور والعبيد. 

ففى رسالة كتبت حوالى عام 2200 قبل الميلاد، قال الفرعون بيبي الثانى لحرخوف، حاكم صعيد مصر الذى سافر عبر النوبة: 

"تعال شمالاً إلى المقر على الفور!  اسرعوا وأحضروا معكم هذا العبد القزم الذى أحضرتموه من أرض سكان الأفق حياً ومعافى من أجل رقصات الإله، لإسعاد القلب، ولإسعاد قلب الملك نفر كا رع الذى يعيش إلى الأبد!"

وفى وقت لاحق، خلال عصر المملكة الوسطى (حوالي 1975-1640 قبل الميلاد)، أنشأ المصريون تحصينات فى النوبة السفلى، مما جعل الأراضى الكوشية الواقعة بين الشلال الأول والثانى (من أسوان إلى ما بعد أبو سمبل) تحت سيطرة الفراعنة المصريين. وكان الغرض من ذلك هو السيطرة على التجارة فى المنطقة وتأمين الحدود الجنوبية لمصر.

خلال عصر المملكة الحديثة (حوالي 1539-1075 قبل الميلاد)، ضم أول فراعنة الأسرة الثامنة عشرة الأراضى النوبية حتى الشلال الرابع. وعين الفراعنة نوابًا للملك حكموا الأراضى النوبية -التي أطلقوا عليها اسم كوش- من حوالي عام 1550 إلى عام 1069 قبل الميلاد. وكلف هؤلاء النواب ببناء حصون مهيبة ومعابد رائعة، مثل تلك الموجودة فى أبو سمبل.

خلال العصر المعروف بالفترة الانتقالية الثالثة (حوالي 1075-715 قبل الميلاد)، كانت حكومة مصر فى خضم الفوضى السياسية والانحدار. بحيث تُركت النوبة خالية إلى حد ما من النفوذ المصرى الفرعونى، وازدهرت حينها العديد من الممالك الكوشية المستقلة الجديدة. 

فى واحدة من تلك الممالك، وبالقرب من الشلال الرابع، ظهرت فى منتصف القرن الثامن قبل الميلاد سلالة من الحكام، أسست عاصمة لتلك المملكة فى نبتة ومقبرة فى إل كرو القريبة. 

وفى نهاية المطاف، استطاع حكام هذه المملكة الكوشية ان يحكموا أولئك الذين استعمروهم ذات يوم.

لقد أصبحوا هم أنفسهم فراعنة مصر.

طهارقة الفاتح

أسس هذه المملكة الكوشية الجديدة ملكان، "ألارا" و"كاشتا". وفى وقت لاحق، دفع ابن كاشتا، "بيا"، حدود الإمبراطورية حتى إلفنتين، أو أسوان الحالية، وبالتالى وضع مصر السفلى تحت سيطرة الكوشيين. 

كما وضع "بيا" أنظاره على صعيد مصر، وفي حوالي عام 727 قبل الميلاد، أطلق حملة عسكرية استولى فيها على هرموبوليس ونهب ممفيس. لكن "بيا" عاد إلى نبتة دون توطيد السيادة الكوشية على مصر. 

وقد أنجز هذه المهمة خليفته "شباكا" (المعروف أيضًا باسم شباكو) و"شبيتكو" (المعروف أيضًا باسم شباتاكا). 

وباعتبارهم ممثلين لسلالة مصرية جديدة، وهى السلالة الخامسة والعشرون، نقل هؤلاء الملوك النوبيون عاصمتهم إلى "طيبة" وأمنوا السيطرة على البلاد حتى أقصى الشمال حتى دلتا النيل.

وكان الفرعون الأكثر شهرة في الأسرة الخامسة والعشرين بلا شك "طهارقة"، شقيق شبيتكو.  

طهارقة البنّاء

أصر "طهارقة" على أن مطالبته بالسلطة لم تكن وراثية فحسب، بل كانت إلهية أيضًا. ففى لوحة من معبد آمون في "كاوا"، أعلن:

"لقد تلقيت التاج فى ممفيس بعد أن صعد الصقر إلى السماء وأمرنى والدى آمون بوضع كل الأرض ... تحت اقدامى". 

وهذا يشير إلى أن الفرعون قد خلف سلفه بعد وفاته. 

لم يتم تحديد هوية الملك المرتبط بالصقر - أو بعبارة أخرى، بالإله حورس (الذي غالبًا ما يرتبط بإله صقر آخر، (هيمن) - ولكن العبارة تشير على الأرجح إلى "شبيتكو"، الذى، وفقًا لنفس اللوحة، "أحبه "طهارقة" أكثر من جميع إخوته الآخرين".

خلال حكم "طهارقة"، الذي دام ما يقرب من 26 عامًا، كلف الفرعون ببناء العديد من المعالم والمبانى الدينية.  

وفى طيبة أضاف مساحات جديدة إلى معبد آمون العظيم فى الكرنك، ولا سيما مبنى يسمى كشك طهارقة فى الفناء الأول. كما أعاد بناء حرم آمون فى نبتة وشيد معبدًا لآمون فى "كاوا" حوالى عام 680 قبل الميلاد. 

وفى حرم كاوا، يقرأ نقش تذكارى: 

"لاحظوا، إن عقلى [مصمم] على [إعادة] بناء مجمع معبد والدى، آمون رع من كاوا، لأنه مبنى من الطوب [فقط] ومغطى بالتراب".

وقد بنى طهارقة هرم دفنه فى "نورى"، على الضفة المقابلة لمقبرة الكرو، حيث يرقد أسلافه. ومن غير الواضح ما الذى دفعه إلى تغيير الموقع، ولكن من المرجح أن موقع المقبرة كان مرتبطًا بجبل البركل، "الجبل النقى" في نبتة، وهو تلة من الحجر الرمليدى الطبيعى تطل على العاصمة النوبية. ويقال إن قمة هذا التل، التى يصل ارتفاعها إلى ما يقرب من 250 قدمًا، تشبه أفعى الكوبرا، أو الصل، رمزًا للملكية.

وعند رؤيتها من جبل البركل في يوم رأس السنة المصرية، يبدو الأمر كما لو كانت الشمس تشرق مباشرة فوق قمة هرم طهارقة. ولأن تلك العطلة تتزامن مع الفيضان السنوى لنهر النيل، فقد ربط هذا "طهارقة" ليس فقط بإله الشمس رع ولكن أيضًا بأوزوريس، إله الحياة الآخرة والخصوبة.

إرث طهارقة

كانت وفاة "طهارقة" فى عام 664 قبل الميلاد بمثابة إشارة إلى تراجع الحكم النوبى فى مصر. فقد كان "طهارقة" قد فقد السيطرة على مصر السفلى لصالح آشور بانيبال فى عام 667 قبل الميلاد. 

واستعاد خليفة طهارقة، ابن أخيه تانوت آمانيدى، السيطرة على مصر العليا لفترة وجيزة قبل أن يهزمه آشور بانيبال مرة أخرى فى عام 663 قبل الميلاد. واضطر تانوت آمانى إلى العودة إلى النوبة، حيث بقى حتى وفاته.

بعد سقوط الأسرة الخامسة والعشرين، تأسست فى النوبة مملكة مروى الجديدة، التى أشعلت شعلة الثقافة المصرية حتى القرن الرابع الميلادى. وهناك، يمثل معبد نجا، حيث يتم تمثيل الآلهة النوبية مثل إله الأسد أبادماك إلى جانب الإله المصرى حورس، الثقافة التوفيقية التي رعاها الكوشيون والطرق التى ربطت بين النوبة ومصر .


عن ديفيد رول ريبو


 آخر فرعون مصرى حقيقى والذى يُشار إليه غالبًا باعتباره آخر حاكم "مصرى خالص"، هو **نختنبو الثاني** (حوالي 360-342 قبل الميلاد) من الأسرة الثلاثين. وقد شهد حكمه نهاية حكم المصريين الأصليين قبل الغزو الفارسى عام 342 قبل الميلاد. وبعد هزيمته على يد الملك الفارسي أرتحشستا الثالث، دخلت مصر فترة من الهيمنة الأجنبية تحت حكم الفرس الأخمينيين، ثم سلالة البطالمة الهلنستية (الإغريق المقدونيون مثل كليوباترا السابعة) ثم الرومان لاحقًا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

حوار عن "الوعى" مع الذكاء الاصطناعى