فى هذا الحوار يتحدث "روبرت شتيرن" مع "أمير على مالكى" عن الفلسفة بشكل عام، وعن "كانط" و"هيجل" بشكل خاص.
_أستاذ شتيرن، هل ترى هناك أى حاجة فى عصرنا الحالى لدراسة الفلسفة المثالية الألمانية؟ وهل يمكن لهذه الفلسفة تقديم أى إسهامات جديده؟
ربما يتعين علينا أولاً أن نوضح ما المقصود بالفلسفة المثالية الألمانية؟
وهل سنقوم بتضمين "كانط" باعتباره "مثالى ألمانى"، أم أننا فى المقام الأول نقصد "فيخده" و"شيلينج" و"هيجل"؟
["المثالية الألمانية" هى حركة فكرية ترى ان العقل او الوعى او الفكر هو اساس الوجود والحقيقة ، وان العالم المادى ليس سوى تجل للفكر المطلق او الروح الكلية، المترجم.]
وإذا ما قمنا بتضمين إيمانويل كانط (1724-1804) كاحد فلاسفة المثالية، فحينئذ لن أتخيل أن يوجد فيلسوف واحد يشكك فى أهمية المثالية الألمانية للعالم الحديث، بالنظر إلى تأثير "كانط" المستمر، والذى لا يزال واضحًا حتى يومنا هذا، وبشكل خاص فى الأخلاق.
وارجو الا يظن البعض خطأ أن مكانة الآخرين بالمقارنة هى أقل شأناً، سواء كان "جورج فيلهلم فريدريك هيجل" (1770-1831) الفيلسوف الرائد فى ألمانيا، أو حتى عندما تبنى المثاليون البريطانيون افكار هيجل مطلع القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، وكذا عندما دارت محاورات حول النظرية النقدية فى الخمسينيات والستينيات، وهكذا.
وليس هناك من شك فى أن الاهتمام بفيخته وشيلينج وهيجل آخذ أيضاً فى الاتساع، على الأقل عند قياس الأنشطة الفلسفية كالمؤتمرات والابحاث، فضلاً عن أعداد المحاضرين وطلاب الدراسات العليا المهتمين بأعمالهم.
فعلى سبيل المثال، عندما كنت أعمل على الدكتوراه فى الثمانينيات كانت دائرة اهتمامى تعد معزولة إلى حد ما. أما الآن فقد أصبحت أكثر شعبية ومركزية من السابق.
ولكن ما الذي يفسر هذا التغيير؟
أعتقد أن هناك بعض التفسيرات النابعة من داخل الفلسفة نفسها.
أحدها أن الثقة فى الفلسفة التحليلية البحتة بدأت تصبح عرضةللتساؤل، الأمر الذى نتج عنه تنوع أكبر فى وجهات النظر والاهتمام بالبحث عن طرق أخرى لممارسة الفلسفة، وأصبحت دراسة "هيجل"، ومعه آخرين، تعبيرا عن هذا الاتجاه.
ونتيجة لهذا، قام اشخاص من امثال "تشارلز تايلور"، و"ريتشارد رورتى"، و"ألاسدير ماكنتاير"، و"جون ماكدويل"، و"روبرت براندون" بتضمين أفكار"هيجل" فى مناقشاتهم.
وبدأ الناس ينظرون إلى تجاهل "هيجل" باعتبار أنه ربما كان خطأً فى التقدير.
وعلى هذا، فبينما كان يبدو سابقا وكأن افكارة "هيجل" اصبحت غير ذات صلة وانه تم تخطيها بالفعل، لم تعد مثل هذه النظرة مطروحة بنفس تلك الثقة.
وقد أدى ارتفاع الاهتمام بهيجل إلى اهتمام مماثل بزملاءه "فيخته" و"شيلينج"، باعتبارهما يقدمان نماذج ذات صلة ولكنها مختلفة حول كيفية دفع التقليد الفلسفى المثالى إلى الأمام.
وعلى هذا النحو، أعتقد أن المثالية الألمانية عادت بالفعل إلى تقديم بعض وجهات النظر البديلة المهمة فى عالمنا الفلسفى المعاصر على نطاق أوسع. وفي اعتقادى أن الأهمية الأكبر لفكر "هيجل" تكمن فى محاولته التوفيق بين مجموعة متنوعة من الصراعات الظاهرية ــ على سبيل المثال، ما بين الدولة الشمولية وحرية الفرد، أو ما بين الدين والعلم.
وأود أن أشير أن هناك افكاراً مستفادة مهمة يمكننا استكشافها على هذا المستوى أيضاً.
_ بعد كل هذا الوقت الذي عملت فيه على دراسة الفلسفة المثالية الألمانية، ما هى الطريقة المثلى التى تعتقد أنها تصلح لدراسة هذه الفترة التاريخية؟
علينا أولا الإقرار بأن اشراك "كانط" ضمن مجموعة المثالية الألمانية له أهمية واضحة بحد ذاته.
لأنه كان الشخصية الأكثر أهمية فى ذلك التوقيت، سواء من حيث عرضه للمشاكل المختلفة بطريقة مميزة - فيما يتعلق على سبيل المثال بالمعرفة الأولية، والإرادة الحرة، والعلاقة بين الفلسفة والدين. - وكذلك اقتراح خيارات من قبيل المثالية المتسامية، والقيود المفروضة على المعرفة النظرية.
كان "كانط" هو السبب الأخر لإهتمامى بالمثالية الألمانية، فقد بدأت فى قراءة "هيجل" بسبب انتقاداته لكانط.
مع ذلك، فمع "كانط"، هناك خلفية أوسع يمكن قراءتها: فلاسفة مثل "أفلاطون" و"أرسطو" و"سبينوزا"، وكذلك علماء الدين مثل "مارتن لوثر"، ومفكرين وكتاب أوسع نطاقًا مثل "جوته" و"هولدرلين" و"شيلر".
وهناك حاجة أيضاً إلى فهم السياق التاريخي الأوسع، مثل القضايا المتعلقة بالسياسة والفن والدين: على سبيل المثال تأثير الثورة الفرنسية على الفكر الألمانى فى ذلك الوقت.
ومن الواضح أنه لا يمكننا تناول ذلك كله فى وقت واحد، ولكن لا شك أن هذا هو السبيل الذى من المرجح أن تتطور به الابحاث لدراسة بعض الجوانب الاكثر دقة مع مرور الوقت.
_ فى رأيى، ان الفلسفة هى فكر دائم التطور بشكلٍ مستمر، ولا يمكن حصرها فى أمة معينة. ومع ذلك، يعتقد بعض المفكرين أن الفلسفة الألمانية تمثل قمة الكمال الفكرى. هل تعتقد أن هذا صحيح؟
أتفق معك تمامًا.
الفلسفة لا ينبغى أن تقتصر على المثالية الألمانية؛ وبالمثل، لا أعتبر هذه الحقبة الفلسفية تمثل ما قد يطلق عليه"كمال الفكر".
تظل هذه الفلسفة، مثل أى موقف فلسفى مهم، فى محاوره جدلية مع الفلسفات الأخرى.
لا شك أن عوامل مثل اللغة والسياسة والتاريخ وما إلى ذلك لها تأثير، مما يجعل هذه اللغة "الجغرافية" ذات معنى – كما هو الحال في مصطلحات مثل "المثالية الألمانية"، "البراجماتية الأمريكية"، أو "التجريبية البريطانية". لكننى لا أعتقد أن هذه التقاليد تقتصر على بلد واحد. لقد أثرت كل واحدة منها على العديد من التقاليد الوطنية الأخرى أيضًا.
_ بعد قراءة كتابك "الأخلاق الكانطية: القيمة والفاعلية والالتزام" (2015)، نشأ سؤال في ذهنى: ما هو الهدف الأخلاقى الذى قد يتبناه "كانط" اليوم؟
وهل يمكننا اعتبار أن "كانط" تبنى نهجاً عقائدياً فى أخلاقه، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ينبغى لنا أن نفسر ذلك اليوم؟
هذه أسئلة كبيرة للغاية!
وبدءاً من استفسارك الأول، ربما تكون إحدى الطرق لمعالجة هذا الأمر هى استخدام التمييز الثلاثى الشائع الآن بين
الأخلاقيات الفوقية ــ أي طبيعة المعرفة الأخلاقية.
والأخلاق المعيارية ــ التي تعامل الأفعال المختلفة باعتبارها صواباً وخطأ، وبالتالى تتسأل عن النهج الأخلاقى الواسع الذى ينبغى اتباعه.
والأخلاق التطبيقية ــ التى تتسأل عن الكيفية التي ينبغي بها حل القضايا الأخلاقية المختلفة فى حياتنا؟
بعد ذلك، أفترض أنه وكما كان يفعل خلال حياته، سيظل "كانط" اليوم يهدف إلى تحليل كل هذه المستويات بطريقته المميزة، والرد على الاعتراضات المختلفة التى وجهت الى أفكاره ــ مثل ايمانه الشهير بأن الكذب مستبعد فى جميع الظروف، ورؤيته حول مركزية القيام بما هو صحيح وواجب بغض النظر عن اى من الدوافع الإنسانية الأخرى.
في المجمل، وفيما يتصل بسؤالك الثانى، هناك أيضاً مسألة دفاع "كانط" الواضح عن الأخلاق حتى فى مواجهة وجهات النظر القائمة على الافتراضات الدينية، والى أى مدى تمكن من دمج الدين مع التفكير الأخلاقى، بحيث تكون الأخلاق مهيمنة على الدين.
ولا شك أن كتابه "الدين في حدود العقل المجرد" (1793) أثار هذه المسألة. وفي المجمل، فإننى أؤيد الرأى الأخير.
وعندئذ قد يبدو الخيار الأكثر علمانية مقنعاً اكثر ــ كما يعتقد أغلب أتباع كانط المعاصرين ــ وإن كانت مكانه الدين لا تزال تشكل سؤالاً معلقاً فوق موقفه الأخلاقى.
_ لقد قمت بتناول فكر "هيجل" فى عمل آخر بعنوان "الميتافيزيقا الهيجلية" (2009).
هل تعتقد أن الميتافيزيقا لم تنته بعد بالنسبة للعالم الحديث؟ في رأيى، الميتافيزيقا أصبحت مجرد تعبير لفظى يطلقه الناس، وكل شىء يعود فى النهاية إلى الفيزياء. ما رأيك؟
أخشى أن وجهة نظرى فى الميتافيزيقا أكثر إيجابية وطموحًا من وجهة نظرك، رغم أن ذلك قد يبدو نوع من السذاجة!
بطبيعة الحال، كان "هيجل" مدركًا تمامًا للقيود المفروضة على الميتافيزيقا التي اقترحها "كانط" [الذي زعم أننا لا نختبر الواقع نفسه بشكل مباشر، بل مجرد تمثيل للواقع]، والمشاكل التى أثارها كانط فيما يتعلق بنوع المعرفة التى يبدو أن الميتافيزيقا تنطوى عليها، والتى ستصبح بعد ذلك واحدة من الحجج الرئيسية لمثاليته المتعالية.
أعتقد أن تعليقك بأن "الميتافيزيقا مجرد تعبير لفظى" مقصود فى هذا الاتجاه الكانطى الواسع، حيث يمكننا القول إن الميتافيزيقا بالنسبة لكانط تخبرنا عن حدود التفكير البشرى وليس عن الواقع أو الوجود نفسه.
ولكننى أعتقد أن "هيجل" يرى فى نهاية المطاف أن هذا النوع من المفاهيم المتواضعة المظهر للميتافيزيقا غير مبرر في النهاية. فمن ناحية، ليس من الواضح أن تحديد حدود الفكر الإنسانى أسهل من تحديد حدود الوجود.
ومن ناحية أخرى، ليس من الواضح لماذا تعتبر بعض مزاعم "هيجل" بشأن هذه الحدود الأخيرة غير معقولة ــ مثل الادعاء بأن الوجود الخالص هو شكل من أشكال العدم الذى لابد أن يتخذ شكلاً أكثر بنيوية بدلاً من ذلك، والذى يتم وصفه فى البداية بأنه وجود محدد، ولكنه يعانى من مشاكله الميتافيزيقية الخاصة. وهكذا يستمر الجدل الهيجلى...
وفيما يتصل بفكرتك القائلة بأن الميتافيزيقا لابد أن "تعود" إلى الفيزياء، لست متأكداً من أن هذا يمكن أن يكون الحال، لأن الفيزياء تركز على الطريقة التى يكون عليها العالم على المستوى التجريبى، فى حين تحاول الميتافيزيقا على النقيض من ذلك فهم الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم بمعنى فوق تجريبى ــ لذا يبدو أن مسارات الاثنين مختلفة بشكل كبير.
إن كنت كانطياً فقد تحاول أن تحصر الادعاءات الميتافيزيقية في كيفية ظهور الواقع لنا وليس فى كيفية ظهوره في الواقع. ولكنني أعتقد أن "هيجل" يقترح أن هذا التموضع زائف، لأنه بعض المضللين من المذهب الديكارتى هم فقط من قد يجعل الأمر يبدو وكأن الادعاءات حول طبيعة المظهر أسهل إثباتاً من الادعاءات حول طبيعة الواقع.
وفي رأيى، هذا هو ما يجعل كتاب هيجل "علم المنطق" (1812) نصاً ميتافيزيقياً وليس نصاً متعالياً ـ بالمعنى الكانطي لـ "المتعالى".
_ فى رأيك ما هو نهج "هيجل" البحثى؟ وهل يمكن أن تكون طرقه البحثية واعماله "مفيدة اليوم، أم أن دوره انتهى ولم يعد يترك أى إسهامات باقية؟ كما أن كثيرين يعتبرون لغة هيجل صعبة: فما هى الطريقة الصحيحة لدراسته فى ضوء كل هذا؟
سأحاول الإجابة على أسئلتك بترتيبها.
أعتقد أن إحدى السمات الأساسية لطريقة "هيجل" هى نهجه الذى يسمى "النقد او التناقض الداخلى" [الديالكتيك]: فبدلاً من افتراض أن بعض الآراء صحيحة بشكل قاطع، فإن نهجه يتلخص فى البحث عن وجهات نظر بديلة وإظهار متى تصبح تلك الاراء مقوضة للاصل.
على سبيل المثال، فى بعض وجهات النظر حول الفعل، تُعامل الأفعال باعتبارها حتمية بطريقة تجعل الحديث عنها باعتبارها "أفعالًا" [أى حركات إرادية] نهج غير متماسك، وبالتالى فإن الأمر يتطلب المزيد من التطوير.
كل هذا يتعلق بمزاعم "هيجل" حول أن طريقته جدلية، بمعنى أن فكرة محددة يمكن أن تتحول إلى نقيضها، وبالتالي فإن الأمر يتطلب إيجاد طريقة ما لتجاوز التناقض. أو، على سبيل المثال، يعنى هذا أن وجهة نظرنا فى الفعل وأسبابه لابد وأن تصبح أكثر تعقيداً.
وفيما يتصل بسؤالك الثانى، أود أن أشير الى أن إحدى الطرق التى يظل بها "هيجل" ذا أهمية اليوم هى أن محاولاته الخاصة لتجاوز هذه الثنائيات المختلفة ــ مثل الحرية والحتمية، والفرد والدولة، والجواهر والخصائص، وما إلى ذلك ــ لا تزال تقدم لنا نهجاً قيماً في التعامل مع مجموعة متنوعة من القضايا الفلسفية. وحتى إذا رفضنا إجاباته، فإن هدف مناقشة هذه الثنائيات يظل جذاباً للغاية.
وأخيراً، فيما يتصل بقضية لغة "هيجل"، ربما لدى وجهة نظر غريبة بعض الشىء، وهى أن لغة "هيجل" ليست أكثر صعوبة كثيراً من لغة العديد من الفلاسفة الآخرين، مثل أرسطو، أو سبينوزا، أو كانط ــ ولكننا اعتدنا على قراءة أعمال هؤلاء الفلاسفة الآخرين، لذا نجدها أسهل. وبطبيعة الحال، قد يعترض المرء على الفلسفة بشكل عام بأنها غامضة ومتطلبة للغاية، وينبغى أن يتم توصيلها بطريقة أكثر بساطة.
ولكن هنا قد تكون إجابة "هيجل" هى أن الفلسفة تقدم طريقة للتفكير يجدها من يمارسون التفكير التقليدى صعبة، حيث تعمل الفلسفة مع التمييز الدقيق - على سبيل المثال بين الحرية من ناحية وطاعة القانون من ناحية أخرى - بحيث يبدو عرض وجهة النظر الأكثر فلسفية دائمًا صعبًا مقارنة بالطريقة التي تبدو بها الأشياء لنا فى البداية، ولكن يجب أن نتعلم قدر الإمكان كيف يمكن تجاوز هذا.
ومع ذلك، إذا فهمنا نهجه الجدلى، فقد نكون أقل رفضًا للغته الصعبة ظاهريًا من خلال رؤية أن أسباب الصعوبة ليست عدم الكفاءة في التواصل، بل تعكس بدلاً من ذلك الطموحات العميقة لمشروعه، حيث تبدو مثل هذه الصعوبات حتمية، وهكذا يمكننا أن نغفر له موضوع صعوبة اللغه.
_ هل تعتقد أن المثالية الألمانية على وجه الخصوص والفلسفة بشكل عام هى افكار معرفية مؤقتة بأزمانها وليس لديها ما تقدمه للمستقبل؟ وإذا كانت لديهم رسالة مستقبلية، فما هى الطريقة الصحيحة لدراسة الفلسفة دون تحيز؟
هذا سؤال مثير للاهتمام، وربما يحتاج إلى إجابة معقدة.
فمن المؤكد أن بعض الأفكار والمخاوف الرئيسية للفلاسفة التاريخيين قد تبدو قديمة - على سبيل المثال، فيما يتعلق بالافتراضات حول العالم الطبيعى، أو الجنس أو العرق.
ولكن من ناحية أخرى، وعلى الرغم من الابتعاد التاريخى، لا يزال بعض هؤلاء الفلاسفة يخاطبوننا.
يمكن ان تتغير أهمية بعص هؤلاء، فيبدو الغموض ملازماً لهم - كما حدث مع "هيجل" فى ثلاثينيات القرن العشرين - وقد يصبح آخرون أكثر بروزا، بينما يتم إعادة اكتشاف آخرين.
لذلك أعتقد أنه سيكون من السذاجة للغاية أن نفترض أنه بما أن المثالية الألمانية نشأت في الأصل قبل حوالي قرنين من الزمان، فلا بد أنها لا تتعلق بنا اليوم.
صحيح أن بعض القضايا التي كانت تهمهم في ذلك الوقت تختلف عن اهتماماتنا، والعكس صحيح ــ ولكن حتى القضايا الحديثة المميزة مثل تغير المناخ والتهديدات التي تتعرض لها البيئة يمكنها الاستفادة من موقف مثل موقف "شيلينج" المميز تجاه الطبيعة. وهذا لا يعنى أننا ينبغى لنا أن نسعى إلى تحريف وجهات نظرهم، لأننا حينئذ لن نتعلم منهم أى شيء؛ ولكننا لا نضطر بالضرورة إلى قراءتها باعتبارها مقتصرة على عصرهم ومنفصلة عن عصرنا، لأن هذا التمييز يبدو فظا للغاية.
_ لكن ماذا الذى يمكننا أن نتوقعه من الفلسفة فى المستقبل؟ وماذا ينبغ لها أن تقوم بتقديمه؟
أتصور أن هناك منطقتين سوف تكتسبان اهتماما متزايدا بسبب أهميتهما الفائقة ــ وهما تغير المناخ والذكاء الاصطناعى.
والواقع أن الفلسفة تتعامل بالفعل مع القضيتين. وربما ستظل القضايا الاجتماعية أيضا نقطة محورية.
وستظل القضايا الفلسفية الأكثر تقليدية المتعلقة بأساسيات الوجود الإنسانى نقطة محورية، حيث أشك فى أنها سوف تحل مرة واحدة وإلى الأبد.
مع ذلك، فإن هذا يشكل بلا شك قوة الفلسفة العظيمة وليس ضعفها ــ وهو شهادة على مركزيتها فة حياتنا.
وهذا لا يعنى أن خيارات جديدة اخرى عوضا عن الفلسفة لن تنشأ، ومع ذلك، فإن أى ادعاءات بأن الخيارات الجديدة قادرة على تسوية الأمور مرة واحدة وإلى الأبد ــ كما زعمت الوضعية المنطقية، أو البراجماتية، أو حتى المثالية الألمانية ــ ربما تكون سابقة لأوانها، ومحكوم عليها بالفشل.
_ ما هى الرسالة التى توجهها إلى الباحثين الشباب فى الفلسفة، وخاصة فى فلسفة المثالية الألمانية؟
أعتقد أن هذا وقت مثير لدراسة الفلسفة، وخاصة المثالية الألمانية، حيث يوجد الآن الكثير من النشاطات المثيرة للاهتمام. وكما ذكرت، فإن هذا يختلف تمامًا عن كيفية سير الأمور عندما بدأت أنا فى الثمانينيات.
فى ذلك الوقت، بينما كان "هيجل" لا يزال يحتفظ بشيء من مكانته فى الفكر الألمانى، فقد تم تجاهله إلى حد كبير في العالم الأنجلوأمريكى.
لكنه اليوم شخصية أكثر أهمية بكثير، سواء بالنسبة لمؤرخى الفلسفة مثل بيبين وبينكارد، ولكن أيضًا بالنسبة لأولئك الذين يطورون خطوط فكرية معاصرة مختلفة، مثل ماكدويل وبراندوم.
آمل أن يشجع هذا الباحثين الشباب على المضى قدمًا فى هذه التطورات. كما يتم التعامل مع التقليد المثالى الألمانى بطريقة أكثر تعقيدًا مما كان عليه فى العالم الناطق باللغة الإنجليزية، كما هو الحال في العمل الذي قام به بيتر ديوز حول شيلينج، ودانييل بريزيل حول فيشته. أتوقع أن يتم تطوير هذا بشكل أكبر في المستقبل. وفي الوقت نفسه، لا تزال العديد من القضايا الأساسية قيد المناقشة، مثل طبيعة المثالية التي تبناها هيجل، أو أهمية انتقاد شيلينج له. لذا فإن هذه القضية تظل مجالاً مثيراً للاهتمام، وأعتقد أن الباحثين قد يجدونها ذات أهمية بالغة لسنوات عديدة قادمة.
"روبرت شتيرن" (1962-2024) فيلسوف بريطانى عمل أستاذًا للفلسفة فى جامعة شيفيلد. توفى للأسف بسرطان المخ في 21 أغسطس 2024 عن عمر يناهز 62 عامًا. نشرت هذه المقابلة تكريمًا لأعماله، وخاصة فى مجال الفلسفة الألمانية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
"أمير على مالكى" باحث فى الفلسفة ورئيس تحرير موقع PraxisPublication.com. ويعمل فى مجالات الفلسفة السياسية والفلسفة الإسلامية والتأويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق