المشاركات

الزمن بين "فيزياء الكم" وفلسفة "المعتزلة": هل نحن صُنّاع الحاضر؟

صورة
"لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، بل بعدد اللحظات التى نضيئها بوعينا." أيها العابر فى ممرّ الأيام، هل ظننت أنّ الزمن طريقٌ واحد، معبّد بخطوات الماضى، ينتهى إلى باب المستقبل؟ لا، الزمن ليس نهرًا يجرى وحده، ولا هو كتابٌ مكتوب منذ الأزل، بل هو حديقة من احتمالات لا تزهر إلا حين نلمسها بوعينا. فى صمت المختبرات، حيث تترقّب الإلكترونات أنفاس العلماء، يحدث السحر: كل جسيمٍ ينتظر عينًا تراه، وقرارًا يُثبّت وجوده. ما لم نُراقبه، يظلّ سرابًا، كالحلم قبل أن يُروى. وهنا يُطلّ السؤال الذى أدهش الحكماء: هل حياتنا، مثل هذه الجسيمات، ليست واقعًا إلا حين نختار أن نراها، أن نصنعها، أن نمنحها فعلًا يوقظها من سباتها؟ لقد عرف "المعتزلة"، فى فجر الفلسفة الإسلامية، سرًّا قريبًا من هذا، حين قالوا إن الإنسان خالقٌ لأفعاله. لم يقبلوا أن يكون الإنسان ظلًّا عابرًا فى مسرح القدر، بل رأوه شعلةً تضئ الظلام وتترك أثرها فى صفحة الكون. إنهم قالوا لنا منذ قرون: "لا تنتظر أن يُكتب لك الطريق، بل اكتبه أنت." ألا ترى أن الزمن نفسه ينتظر؟ ينتظر وعينا ليكتمل، وينتظر قرارنا لنُعلن لحظة الحاضر كأنها ولاد...

الشك الميتافيزيقى

صورة
 يجادل "جاكوب بيل" هنا بأنه لا يمكننا تحديد الطبيعة النهائية للواقع. يمكن اعتبار أن "الميتافيزيقيا" هى البحث فى الطبيعة النهائية أو الجوهرية للواقع. بمعنى آخر، هى محاولة لكشف ووصف ماهية الأشياء وكيفية وجودها على مستوى أساسى.  يبدو أن أكثر أنواع "الميتافيزيقيا" شيوعًا يركز على تحديد ما إذا كان من الأفضل وصف العالم بأنه مادى، أو عقلى، أو محايد، أو هو مزيج من هذه العناصر. لا يوجد اختلاف حول أغلب الأسئلة التى تسعى "الميتافيزيقيا" لبحثها. ولكننا هنا معنيين بالمذاهب الميتافيزيقية التى تقوم بطرح ادعاءات كبرى، من قبيل أن "كل شىء مادى" أو "كل شىء عقلى".  من الأمثلة الشائعة على ذلك التوجه المذاهب "المادية" و"المثالية".  أما المذاهب الأقل شيوعًا والتى تكتسب شعبية، فتشمل "الأحادية المحايدة" و"الروحانية الشاملة".   سنكتفى بوصف موجز للموقفين الأكثر شيوعًا.  تشير "المادية" إلى أن كل ما هو موجود هو "مادى"، بما فى ذلك الأفكار والأرقام والعقول والوعى (إن وُجدت هذه الأشياء من الأصل بال...

الإسلام بين العقل والروح والبحث عن المعنى

صورة
 أحسب أن الدين، أى دين، ليس فقط نصوصًا تُتلى، ولا هو طقوس يتم تأديتها بآلية جامدة، وإنما هو رحلة الإنسان فى البحث عن المعنى، إنه سعيه الدائم ليكون حرًّا أمام "الله"، مسؤولًا أمام نفسه، وأمام العالم. و"الإسلام"، فى جوهره الأصيل، لم يكن يومًا إلا هذا المعنى العظيم؛ نورًا يضىء العقول، ورحمة تسكن القلوب، وجمالًا يفيض على الوجود. غير أننا فى زمننا هذا، فقدنا شيئًا من هذا النور، حين صارت الأصوات الأعلى هى أصوات التشدد، وصار العقل يتوه بين ركام الفتاوى، والروح تتخبط بين صغائر الأمور. ولست أظن أن الحل يكمن فى هدم التراث، ولا فى تقديسه، بل فى إحياء ذلك الحوار العميق بين العقل والروح، الذى صنع ذات يوم حضارة لم يعرف التاريخ أزهى منها. هذه ليست سوى محاولة متواضعة، لنستعيد سوياً: - نور العقل المعتزلى، الذى أراد أن يكون الإيمان فعل وعى لا تقليد. - دفء الروح الصوفية، التى جعلت من الدين قصيدة حب كبرى. وصوت الإصلاح الحديث، الذى حمله مفكرون وفلاسفة من أمثال "محمد عبده" و"الافغانى"، وتردد صداه فى كلمات "طه حسين"، حين دعا إلى أن يكون الدين نورًا للعقل لا ق...

"يوسيفوس": المؤرخ الشهير وربما الوحيد لبدايات المسيحية

صورة
 يعد "فلافيوس يوسيفوس" (37 – نحو 100 م) واحدًا من أكثر الأسماء تأثيرًا فى دراسة تاريخ اليهودية خلال الحقبة الرومانية، بل ويمكن القول إنه من بين الشهود القلائل الذين نقلوا إلينا صورة حيّة عن المجتمع اليهودى فى القرن الأول الميلادى. كان "يوسيفوس"، الذى وُلد باسم "يوسف بن متّيا" لعائلة كهنوتية مرموقة فى "القدس"، رجلًا يجمع بين ذكاء المؤرخ ونزعة رجل الدولة. فقد عاش فى زمن التحولات الكبرى: انهيار المملكة اليهودية، تدمير الهيكل الثانى على يد الرومان، وصعود المسيحية كتيار جديد داخل الأوساط اليهودية.  ما يجعل أعماله ذات قيمة استثنائية هو أنها تمثل نظرة فريدة لفهم تلك الحقبة الهامة من التاريخ الدينى والسياسى للمنطقة، حيث يتقاطع تاريخ اليهودية مع بدايات المسيحية وبروز ملامح الأديان الإبراهيمية كما نعرفها اليوم. حياته ونشأته: وُلد "يوسيفوس" فى القدس عام 37 م لعائلة يهودية ذات مكانة دينية واجتماعية رفيعة؛ فوالده كان من سلالة كهنوتية، بينما تنحدر والدته من سلالة الحشمونيين الذين حكموا اليهود فى القرن الثانى قبل الميلاد. منذ صغره أظهر نبوغًا فى دراسة...

الموسيقى: الرياضيات المسموعة ولغة الكون

صورة
  منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض، اكتشف أن الكون الفسيح ليس مجرد فوضى، بل هو نغم متجانس، وظهرت الموسيقى كأحد أعمق أشكال التعبير عن هذا الانسجام. فالموسيقى ليست مجرد أصوات متناثرة أو ألحان للمتعة، بل هى الرياضيات المسموعة، إنها تجسيد للتناغم الذى يحكم العالم.  لقد رأى "فيثاغورس" أن كل وترٍ مشدود يخضع لقوانين رياضية، وأن كل لحنٍ جميل ما هو إلا انعكاس لصوتٍ خالد ينساب فى أرجاء الكون. الطبيعة نفسها تغنى؛ الطيور تغرد بألحانها، وصوت أمواج البحر ينساب الى الشاطئ بنبض متتالى كنبض القلب، حتى صوت حفيف الأشجار بفعل الرياح يبدو كسمفونية عابرة. فكيف يدّعى البعض أن الموسيقى حرام، بينما هى جزء أصيل من نسيج الحياة التى خلقها الله؟ إن تحريم الجمال هو تحريم للحياة نفسها، وخروج على سنّة الله فى الكون. منذ فجر  الحضارة، لم يتم النظر إلى الموسيقى وإلى الفن بوصفهما مجرد زخارف للحياة، بل كامتداد للقوانين الكونية التى اكتشفها العقل. لعل "فيثاغورس" كان أول من كشف عن الصلة الخفية بين النغم والعدد، حين لاحظ أن طول الوتر وعلاقته بالصوت الناتج يخضع لنسب رياضية دقيقة، فأسس بذلك ما عُرف بـ...

من السبى البابلى إلى الصهيونية الحديثة: قراءة فى التاريخ اليهودى.

صورة
 إذا تابعت ما تقوله نشرات الأخبار فى الغرب، والبودكستات الغربية ستلاحظ خطاباً يركز على ذاكرة توراتية. فيتم استخدام تعبيرات من قبيل، «الهيكل الثانى»، «العودة بعد ألفى عام»، «أرض الميعاد»… وغيرها.  وعلينا عند الاصطدام بمثل تلك التعبيرات أن نفرق ما بين التاريخ بوصفه مجالاً نقديًا قابلًا للدراسة والتدقيق، وما بين السرديات بوصفها أداة سياسية أو تعبيراً عن الهوية. فالفرق ما بين الأمرين شاسع للغاية.  سنحاول هنا ان نقوم بعملية تفكيك للتاريخ التوراتى، ونحاول فهم مصطلحات من قبيل (السبى البابلى، الهيكل الثانى، تشكيل اليهودية الرابانية، ثم الحداثة والصهيونية)،  قد يوضح ذلك الكيفية التى تُستخدم بها مثل هذه الذاكرة لتبرير الاستيطان غير الشرعى والعقاب الجماعى والمذابح والحصار على المدنيين — وهى الممارسات التى يَحظُرها صراحة القانون الدولى الإنسانى، مثل اتفاقية جنيف الرابعة، وقرارات مجلس الأمن؛ ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وحظر التجويع والقانون الدولى العرفى. وقبل أن نبدأ فى رسم الخط الزمنى للسردية اليهودية، علينا تقديم تعريفات للمصادر التى تقوم عليها هذه السردية، مثل "التنا...

ما هو "الإسلام التقدمى" "Progressive Islam":

صورة
هناك لحظات فى التاريخ الانسانى تتصارع فيها التساؤلات، ليس كشبهة تخلى عن الموروث، بل كنداء لفهم أعمق لحقيقة الأمور. من هنا كانت الحاجة ملحة للتساؤل حول كيفية إعادة الدين لروحه الحقة؟ كيف نمنع إستخدامه كسيف على رقاب الناس، وهو الذى اقر فى كتابه العزيز أنه نزل "رحمة للعالمين"؟ حمل اصحاب الفكر الحر تلك التساؤلات فى كتبهم وداخل صدورهم، وولد منها ما يمكن أن نسميه اليوم: "الإسلام التقدمى". مابين "المعتزلة" وظلال الحاضر: "الإسلام التقدمى" ليس كما قد يعتقد البعض بدعةً حديثة، بل أن جذوره ضاربة فى القدم، فى فكر "المعتزلة"، أولئك الذين نادوا فى عصور ساد فيها الجمود، بأن العقل ليس خصمًا للوحى، بل هو مرآته الحقيقية. قالوا إن الله لا يظلم، لأنه حكيم، وإن الإنسان حرّ، لأنه مسؤول. لم يكن قولهم هذا نوع من التمرّد،  ولكنه كان فهما عميقا للمعنى الحقيقى للنص: أن الله عادل، لا يضع عبده موضع العجز ثم يحاسبه، وأن الخير والشر يتم إدراكهم بالفطرة السليمة، وليس فقط بالمرويات. ولكن تم إسكات أصواتهم تحت وطأة القمع، إلا أن كلماتهم بقيت تتردد فى قلوب كل من رفض أن يكو...