نفرتيتى: ماذا يكمن وراء هذا الجمال؟
ملامحها المنحوتة بدقة ونسبها المثالية فى تمثالها الحجرى النصفى، معروفة فى جميع أنحاء العالم. ولكن من هى تلك المرأة التى تقف وراء هذه التحفة الفنية؟
فى 6 ديسمبر 1912، اكتشف عامل مصرى كان يحفر على ضفاف نهر النيل أحد أثمن الكنوز فى تاريخ علم المصريات. كان الرجل واحدًا من العديد من العمال المشاركين في حفر ورشة نحات قديم، تحت إشراف عالم الآثار الألمانى "لودفيج بورشارت". وعندما شعر بأن معوله اصطدم بحجر صلب، نزع التراب ليكشف عن الألوان المميزة لطلاء قديم. يتذكر "بورشارت" ذلك: "وضعنا الأدوات جانبًا واستخدمنا الأيدى"، ليتم الكشف عن عنق رفيع لتمثال نصفى من الحجر الجيرى مدفونًا بشكلٍ مقلوب فى التراب. وبالحفر أعمق، كشفوا عن شفتين ممتلئتين وحمراوين، وأنف بارز ومائل، وعينين لوزيتين، وحاجبين داكنين مقوسين. وأخيرًا، كشفوا عن تاج أسطوانى ضخم، لم يُرَ إلا فى النقوش الهيروغليفية القليلة الموجودة لملكة مصرية واحدة: الملكة "نفرتيتى".
منذ اكتشافه، أصبح التمثال النصفى أحد أكثر القطع الأثرية زيارةً وتأثيرًا من المملكة القديمة. وهو مع ذلك، يظل أحد أكثرها غموضًا.
فبعد حكمهما، تم محو "نفرتيتى" وزوجها الفرعون "أخناتون" تقريبًا من السجلات التاريخية المصرية، حيث أُزيلت ملامحهما من النقوش الحجرية، ووتم خدش أسماؤهما على النقوش المكتوبة.
ولزيادة الغموض، اختفت تمامًا جميع الإشارات إلى "نفرتيتى" حوالى العام الثانى عشر من حكم "أخناتون"، ودون أى ذكر لها بعد ذلك.
فماذا فعلوه ليُثيروا كل هذا الكره فى نفوس شعبهم؟ ولماذا اختفت "نفرتيتى" فجأة؟
الآن فقط، وبعد أكثر من 3000 عام على وفاتهما، بدأت تظهر بعض الإجابات.
تظل الحقيقة حول نسب "نفرتيتى" غامضة، ولكن يُرجح أنها وُلدت خارج العائلة المالكة: فقد تكون ابنة لوزير البلاط، أو أميرة أُرسلت لتوحيد مملكتين. ما نعرفه يقينًا هو أن وجهها جسّد جمالًا خالدًا - فاسمها يعنى "الجميلة أتت" - مما جعلها الشريكة المرغوبة للأمير المصرى الشاب، المعروف آنذاك باسم "أمنحتب'.
تزوج الاثنان فى منتصف سن المراهقة، ورُزقا بطفلتهما الأولى بعدها بقليل، وتوليا العرش حوالى عام 1351 قبل الميلاد.
المعلومات عن فترة حكمهما المبكرة قليلة ومتقطعة، لكن علماء الآثار استنتجوا أنه خلال الأسرة الثامنة عشرة، اكتسب عبادة الإله آمون قوة هائلة، لدرجة أنه بحلول وقت تتويج "أمنحتب"، أصبح كهنة المعبد تقريبًا بنفس قوة الفرعون نفسه.
لكن فى العام الخامس من حكم "أمنحتب"، حدث شىءٌ استثنائى.
لقد غيّر الفرعون اسمه إلى "أخناتون"، وأغلق المعابد وطرد الكهنة من مناصبهم. فبعد آلاف السنين من تعدد الآلهة، أعلن هو و"نفرتيتى" أن هناك إلهًا واحدًا حقيقيًا فقط: "آتون"، قرص الشمس. وأن الطريق الوحيد للوصول إلى هذا الإله كان عبر الفرعون نفسه.
ثم قاد "أخناتون" هجرة جماعية من العاصمة القديمة "طيبة"، وشرع في بناء مدينة جديدة فى وسط الصحراء أسماها "أخيتاتون" (تل العمارنة حاليًا). أنشئت هذه المدينة لتكون المركز الجديد للإمبراطورية المصرية القديمة. وقد أحاطت بالمدينة من ثلاث جهات منحدرات صخرية قاحلة، لكى تشكّل حصنًا طبيعيًا ضد أعداء التاج.
لقد أدرك الفرعون الشاب أن أفعاله لم تكن محبوبة، وكانت أنباء التذمر والاضطرابات تتردد فى جميع أرجاء المملكة.
ومع هذه الثورة الدينية، جاءت أيضًا ثورة ثقافية. فقد تحول الفن المصرى، الذى كان جامدًا ورسميًا فى السابق، إلى أسلوب أكثر واقعية.
أصبحت تماثيل "أخناتون" تأخذ ملامح أنثوية أكثر، بأوراك مستديرة وصدر بارز. كما أصبحت المشاهد التى تصور العائلة المالكة أكثر حميمية، حيث تظهر الزوجين وهما يقبلان بعضهما أو يلعبان مع أطفالهما على ركبهما.
لكن ربما أكثر ما يثير الدهشة فى فن العمارنة هو الطريقة التى صُوِّرت بها الملكة 'نفرتيتى". إذ تُظهر النقوش والتماثيل "نفرتيتى" وهى تُسابق بالعجلات الحربية، وتحارب الأعداء، بل وحتى تقود الطقوس الدينية – وهى الأدوار التى كانت من قبل تقتصر على الفرعون فقط .
خلال السنوات الخمس الأولى من حكمهما، ظهرت "نفرتيتى" فى النقوش تقريبًا ضعف عدد مرات ظهور زوجها، وغالبًا ما صُوِّرت بنفس حجمه، مما يشير إلى أنها كانت تتمتع بقوة تفوق بكثير زوجات الفراعنة اللواتى سبقنها.
ولكن هذا العصر من السلام والازدهار الثقافى لم يدم طويلاً ، فقد جاءت نهايته بشكلٍ مفاجئ. استنفد "أخناتون" تقريبًا كل موارده فى بناء مدينته الجديدة، وأوشكت البلاد على الإفلاس. بينما فقدت أجزاء كبيرة من الإمبراطورية المصرية سيطرتها لصالح المملكة الحثية المتنامية، بعد أن رفض الفرعون الاستماع إلى نصائح قادته بإرسال تعزيزات عسكرية إلى الشمال.
لم تكن الأزمة اقتصادية فحسب، بل كانت الأزمة الروحية هى التى تغلى تحت السطح، واصبحت على وشك الانفجار.
فقد دمرت ديانة الفرعون الجديدة كل التقاليد القديمة التى كانت عزيزة على قلوب المصريين، وقليلون هم من كانوا مستعدين للتخلى عن آلهتهم المحبوبة.
فاندلعت الثورات فى جميع أنحاء البلاد، بتحريض من الكهنة الغاضبين والقادة العسكريين اليائسين لاستعادة السلطة التى سُلبت منهم.
وبحلول وقت وفاة "أخناتون" حوالى عام 1334 قبل الميلاد، كانت "مصر" قد أصبحت إمبراطورية منهارة.
من المرجح أن هذه الثورات لم تكن مفاجئة، لكن ما لم يكن يتوقعه المصريون أبدًا هو اختفاء "نفرتيتى" فى العام الثانى عشر من حكم زوجها. فبعد أن زين وجهها جدران المعابد والقصور، توقفت فجأة جميع السجلات والتصويرات لها ابتداءً من عام 1339 قبل الميلاد.
ما الذى حدث للملكة - المرأة التى بدا أن الفرعون يعبدها؟
يعتقد بعض المؤرخين أنها سقطت من حساب الفرعون، ربما لأنها لم تتمكن من إنجاب الابن الذى كان أخناتون يتوق إليه بشدة. بينما يرى آخرون أنها ماتت، نتيجة ربما لوباء الإنفلونزا الذى اجتاح البلاد، أو حتى على يد إحدى نساء الحريم الغيورات.
لكن الاكتشافات الحديثة تشير إلى احتمال آخر مثير:
فقد تكون "نفرتيتى" قد حكمت بمفردها تحت اسم جديد بعد وفاة زوجها. فبعض النقوش تشير إلى حاكم غامض يُدعى "سمنخ كا رع"، والذى قد يكون فى الواقع "نفرتيتى" فى صورة ذكر. كما أن تحليل مومياء تُعرف باسم "السيدة الأصغر" يشير إلى أنها قد تكون الملكة المفقودة.
من ناحية أخرى، هناك عملًا فنيًا واحدًا، يُعرف باسم "لوحة المشاركة فى الحكم"، يشير إلى أن "نفرتيتى" لم تختفِ، بل تحولت إلى شخصية أخرى. ففى هذه اللوحة، تُصوَّر "نفرتيتى" و"أخناتون" مع إحدى بناتهما، إلا أن اسم "نفرتيتى" نُحت وحُذف واستُبدل باسم آخر هو "عنخ خبرو رع نفر نفر آتون" – وهو اسم الحاكم المشارك الذى توج فى الفترة نفسها التى اختفى فيها اسم "نفرتيتى" من السجلات التاريخية.
فهل من الممكن أن تكون "نفرتيتى" اتخذت اسمًا جديدًا وأصبحت شريكة فى حكم زوجها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يفسر هذا هوية الفرعون الغامض الذى تولى السلطة بعد وفاة أخناتون؟
هذه أسئلة قد لا نعرف إجابتها أبدًا، ففى السنوات التي تلت وفاة "أخناتون"، دمر المصريون انتقامًا منه تقريبًا كل أدلة حكمه. إذ اعتبروه زنديقًا، فتم محو اسمه من على جدران المعابد، وتشوّهت صور "نفرتيتى" الجميلة بالإزميل. ل
كن إرث "أخناتون" استمر من خلال ابنه، الذى لا يزال الجدل قائمًا حول هوية أمه.
تولى الصبى المُسمى "توت عنخ آتون" (أى "الصورة الحية لآتون") العرش عندما كان فى التاسعة من عمره تقريبًا. ورغم صغر سنه، شرع على الفور فى عكس التغييرات التى حدثت فى عهد أبيه. فغيّر اسمه إلى "توت عنخ آمون"، وأعاد عبادة الآلهة التقليدية، وخاصة "آمون"، وترك مدينة "أخيتاتون" لتعود 'طيبة" عاصمةً لمصر مرة أخرى.
لكن حتى "توت عنخ آمون" لم ينجُ من لعنة "أخناتون". فقد مات شابًا فى ظروف غامضة، ودفن فى قبر صغير وغير مكتمل، وكأن التاريخ أراد أن يطمس كل ما يتعلق بثورة العمارنة.
أما "نفرتيتى"، فتبقى لغزًا يحير العلماء حتى اليوم. هل حكمت كفرعون؟ هل ماتت مسمومة؟ أم أنها ببساطة سقطت فى غياهب النسيان؟ ربما يكشف المستقبل المزيد من أسرارها، لكن ما نعرفه يقينًا هو أن جمالها وقوتها جعلتاها واحدة من أكثر الشخصيات الأسطورية إثارة فى التاريخ.
تُركت العمارنة لتصبح أطلالًا، وعادت الآلهة القديمة من سبات الموت، واستعاد كهنة آمون سلطتهم. لكن بقى هناك أثر واحد من الدين القديم، أثر لم يُمكن محوه بالمطارق أو الإزميل. كان هذا الأثر هو اسم الصبى.
تمامًا مثل أبيه وزوجة أبيه من قبله، أعطى "توت عنخ آتون" نفسه اسمًا جديدًا، اسمًا يمجد مجد آمون والآلهة التى أحبها شعبه بصدق.
اسمٌ سيجوب العالم بعد آلاف السنين، ويُزين عناوين الصحف وصفحات الكتب التاريخية، ويصير معروفًا فى كل بقاع من الأرض.
ذلك الاسم كان... "توت عنخ آمون".
تعليقات