شجرة تطور الإنسان،،، ياله من لغز محير
من هم أسلافنا؟ يعتقد العلماء أن الإنسان الحديث نشأ قبل 160 ألف عام. لكنهم لم يستطيعوا أن يحددوا بعد كيف تمكن من السيطرة على العالم.
لقد قادنا البحث عن ماضينا إلى الغابات الآسيوية والسافانا الأفريقية، فهل نعثر أخيرًا على الحلقة المفقودة التى تُكمل شجرة عائلتنا؟
عن: "إيبى راش" - (العلوم)
فى كهف من الحجر الجيرى يُعرف باسم كهف "كلاين فيلدهوفر"، عثر بعض العمال على بقايا هياكل عظمية، دفعت العلماء للقيام بأبحاث جديدة عن أسلافنا.
فى القرن التاسع عشر، أدت ثورة التصنيع إلى جلب عمال مناجم الحجر الجيرى إلى وادى "نياندر" الضيق شرق "دوسلدورف" فى "ألمانيا".
لعدة قرون، كان إنتاج الجير محدودًا فى الوادى، ولكن مع حركة بناء الموانئ ومبانى السكك الحديدية ومصانع الحديد فى "بوينسجن"، تلك المدينة الواقعة على ضفاف النهر، ازداد الطلب بشكل كبير على الحجر الجيرى. فتم جلب عمال المحاجر الإيطاليين المهرة شمالًا لاستخراج الرواسب النقية من كهف للحجر الجيرى يُعرف باسم كهف "كلاين فيلدهوفر".
عندما ظهرت العظام الأولى مع طبقات الرواسب التى يبلغ عمقها حوالى 60 سم، ظنّ بعض العمال أنها لدب كهفى.
لم تكن كذلك.
بل كانت أول عظام لنوع بشرى لم يكن معروفًا من قبل، ولم يدر بخلد عمال المناجم، انهم كانوا ينقبون حرفياً فى تاريخ الجنس البشرى.
شكّل اكتشاف جمجمة بعينها فى وادى "نياندر" تحدى حاسم فى السعى الانسانى للإجابة على أسئلة وجودية رئيسية من قبيل:
من أين نشأ الجنس البشرى؟ وما الذى مكّننا من استعمار العالم أجمع؟
وهكذا وبعد ملايين السنين من الصراع من أجل البقاء، قام بعض الأشخاص، بمساعدة باحث سويدى، بفحص الجمجمة الألمانية، فى محاولة للبحث عن إجابات منطقية.
إنسان نياندرتال, إنسان جديد:
فى ثلاثينيات القرن الثامن عشر، شرع السويدى "كارل لينيوس" فى تأسيس تصنيف لكل شىء فى الطبيعة وفقًا لخصائصه وأوجه التشابه معه. وما زلنا حتى الآن نستخدم نظامه لتصنيف الحيوانات والنباتات.
دفع التشابه الواضح بين البشر والقردة "لينيوس" إلى تصنيف البشر والرئيسيات فى رتبة واحدة.
مع ذلك، فقد قام بتصنيف البشر ضمن فصيلتهم الخاصة - "هومينيداى" - بينما سُميت القردة الأفريقية، مثل الشمبانزى وإنسان الغاب فى جنوب شرق آسيا، "بونجيداى". وعلى الرغم من أنه منح البشر مكانة خاصة، إلا أن تشبيهات "لينيوس" بين البشر والقردة كانت مبالغًا فيها بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، فتم حرمان العالم السويدى من قبل بابا روما.
مع ذلك، لم يستطع البابا محو ما اقترحه "لينيوس". فقد انتشرت أفكاره على نطاق واسع، بما فى ذلك أعمال "ألفريد راسل والاس" و"تشارلز داروين". وقد توسعت نظرياتهما التطورية بحيث تخطوا نظام "لينيوس" التصنيفى.
اقترح الرجلان أن الأنواع تتكيف مع بيئاتها بمرور الوقت، من خلال عمليات الانتقاء الطبيعى: فالأكثر صلاحية من كل جيل ينقل جيناته إلى الجيل التالى.
لم يذكر "داروين" البشر فى كتابه "أصل الأنواع، وإن ألمح إلى أن النظرية تنطبق على جميع الكائنات الحية، لكنه لم يقدم أى نتائج تؤكد أنها تنطبق تحديدًا على البشر.
كما أن جميع العظام البشرية القديمة التى عثر عليها علماء الآثار حتى ذلك الوقت بدت مشابهة لعظام الإنسان الحديث.
ما إن وصل كتاب "داروين" إلى المطبعة، حتى وصلت الأنباء من ألمانيا: لقد فحص المعلم "يوهان كارل فولروت" وأستاذ التشريح "هيرمان شافهاوزن" آثار "وادى نياندر"؛ وخلص تقريرهما، المنشور باللغة الإنجليزية، إلى أن الجمجمة تنتمى إلى نموذج قديم جدًا من الإنسان العاقل.
لكن عالم الطبيعة الإنجليزى "ويليام كينج" خالف هذا الرأى. وأشار إلى أن جبهة الجمجمة المنحدرة وفكها المتراجع وأقواس حاجبيها البارزة كانت جميعها مختلفة تمامًا عن الإنسان العاقل المعروف، مما يعنى أنها لا بد من أن تكون نوعًا مختلفًا وأكثر بدائية.
بعد بحث مكثف، ووفقًا لنظام "لينيوس" التصنيفى، أطلق "كينج" على النوع البشرى الجديد اسم "إنسان نياندرتال".
آسيا مهد البشرية؟!:
أثار استنتاج "كينج" تساؤلات جديدة. إذا لم يكن "إنسان نياندرتال" المكتشف حديثًا من جنس الإنسان العاقل، فهل كان هذا النوع سلفًا له؟
وإذا كانت هناك عدة أنواع بشرية مختلفة، فأين ومتى نشأ النوع الأول؟ اقترح "داروين" إجابة على السؤال الأخير فى كتابه "أصل الإنسان والانتقاء الطبيعى فيما يتعلق بالجنس" الصادر عام 1871. رأى "داروين" أنه بما أن الغوريلا والشمبانزي الأفريقيين هما أقرب الحيوانات شبهًا بالبشر، فإن أقدم أسلاف البشر موجودون فى أفريقيا.
كان "داروين" فى ذلك الوقت نجمًا علميًا بارزًا، لكن نظرية "الخروج من أفريقيا" هذه لم تلق استحسانًا لدى العديد من الأوروبيين الذين اعتبروا أفريقيا "بدائية"، وعاجزة بالتأكيد عن إنتاج شىء رائع كأول البشر.
كان عالم التشريح الهولندى "يوجين دوبوا' أحد الذين تحدوا نظرية "داروين". وفقًا لدوبوا، كان لدى البشر قواسم مشتركة مع قرود الجيبون فى شرق آسيا أكثر مما لديهم مع القرود الأفريقية. ولاحظ أن قرود الجيبون تمشى أحيانًا على قدمين.
لتأكيد نظريته، التحق "دوبوا" بالجيش ليتمركز فى إندونيسيا، التى كانت آنذاك مستعمرة هولندية. لم تُحقق نظرية "دوبوا" عن قرد الجيبون أى نجاح يُذكر، لكن رحلته لم تذهب سدى. ففى عام ١٨٩١، عاد إلى وطنه ومعه ضرس وجمجمة وعظمة فخذ من إنسان قديم من "جاوة". قُدِّر عمر الأحفورة - المعروفة باسم إنسان جاوة - بما يتراوح بين ٧٠٠ ألف و١.٤ مليون سنة، مما يجعلها أقدم أحفورة مُكتشفة حتى الآن.
أشار عظم الفخذ الجاوى إلى انه كان يمشى منتصبًا، وكان الدماغ أصغر من دماغ البشر ولكنه أكبر من دماغ القرود، مما يتوافق مع نظرية تطور الأنواع: فقد طور البشر فى البداية دماغًا كبيرًا، ثم وقفوا على قدمين.
لذلك أطلق "دوبوا" على اكتشافه اسم الإنسان "المنتصب". كما ادعى أنه وجد الصلة بين البشر وسلف يشبه القرد.
طفل تاونج يعيد أفريقيا إلى الصدارة:
ساعد اكتشاف المزيد من أحافير الإنسان المنتصب فى آسيا على تأكيد اعتقاد "دوبوا" بأن البشر نشأوا هناك. كما لاقت هذه النظرية قبولاً لدى العلماء الذين اعتبروا الآسيويين أكثر تحضراً من الأفارقة.
ولكن فى عام ١٩٢٤، أشار اكتشاف جديد إلى اتجاه مختلف. ففى بلدة "تاونج" الصغيرة بجنوب أفريقيا، اكتشف عالم الأنثروبولوجيا "ريموند دارت" جمجمة طفل ذى دماغ صغير وفك يشبه فك الإنسان. أُطلق على الحفرية اسم "طفل تاونج"، وأطلق عليها "دارت" اسم "أسترالوبيثكس أفريكانوس" - القرد الجنوبى فى أفريقيا.
كان طفل تاونج أقدم بكثير من الاكتشافات الآسيوية: فعندما حُدد تاريخ الاكتشاف الجنوب أفريقي إلى ٢.٨ مليون سنة، أشار ذلك إلى أن مهد البشرية كان بالفعل فى "أفريقيا".
كما أظهرت دراسات "دارت" - أن الثقبة العظمى للجمجمة - الفتحة التى تمر منها الحزم العصبية من الجسم إلى الدماغ - تقع فى قاعدة الجمجمة، وهو وضع مميز للثنائيات القدمين. فى رباعيات الأرجل، تقع الفتحة فى مؤخرة الجمجمة.
مع ذلك، فقد أربك صغر حجم الدماغ ومشيته المنتصبة العلماء، إذ ناقضا فكرة أن كبر دماغ الإنسان هو ما أدى إلى مزيد من التطور.
لذا، عزز هذا الاكتشاف نظرية جديدة: كبر الدماغ كان نتيجة للمشى المنتصب، وليس شرطًا أساسيًا له.
منح المشى على قدمين أسلافنا رؤية أوضح لمحيطهم، ومكّنهم من استخدام أيديهم كأدوات - أو كأسلحة، مما مكّنهم من صيد المزيد من الفرائس.
استغرقت هذه النظرية الجديدة وقتًا حتى أصبحت مقبولة، ولكن كانت هناك اكتشافات أخرى لأسترالوبيثيكوس فى أفريقيا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حتى دلت جميع الدلائل على أن المشى المنتصب سبق الدماغ الكبير - وأن جنس الإنسان قد نشأ فى أفريقيا، تمامًا كما تنبأ "داروين".
السلف المشترك, إنه لغزٌ محير:
يعتقد العلماء اليوم أن "أسترالوبيثكس" انفصل عن الفرع التطورى للشمبانزى قبل 6-9 ملايين سنة، وأن جنس الإنسان تطور من "أسترالوبيثكس" قبل 2-3 ملايين سنة.
مع المشى المنتصب، والأدمغة الكبيرة، والقدرة على استخدام الأدوات وإشعال النار، أصبح العالم تحت أقدامهم.
ومنذ حوالى 160,000 سنة، ظهر الإنسان العاقل، الإنسان الحديث، فى أفريقيا، وبعد حوالى 100,000 سنة بدأ رحلات هجرته عبر العالم.
أما ذلك الاكتشاف فى كهف وادى "نياندر" فهو ليس سلفًا، بل ابن عم.
أدرك الباحثون ذلك عندما قام عالم الأحياء والوراثة السويدى "سفانتى بابو" بعمل تسلسل لجينوم "إنسان نياندرتال" عام ٢٠١٠.
أظهرت هذه الدراسة، بالإضافة إلى دراسات لاحقة للحمض النووى لإنسان نياندرتال، أن "إنسان نياندرتال" تطور قبل حوالى ٢٥٠ ألف عام فى أوروبا وآسيا.
لذا فلا بد أن آخر سلف مشترك للإنسان العاقل، سواء "إنسان نياندرتال"، او "إنسان دينيسوفا" (نوع بشرى انقرض قبل حوالي ٤٠ ألف عام ولم يكن معروفًا حتى وقت قريب نسبيًا)، قد وُجد قبل ٥٥٠ ألفًا إلى ٧٧٠ ألف عام.
لكن العلماء لا يستطيعون تحديد ذلك السلف المشترك الغامض.
لا يمكن أن يكون هو الإنسان المنتصب، لأن أوجه التشابه بينه وبين الإنسان العاقل ليست قوية بما يكفى.
في عام ٢٠٢١، اكتشف باحثون فى إثيوبيا مرشحًا محتملًا آخر: "الإنسان البودوينى"، المسمى باسم موقع "بودو دار". يبدو أن هذا النوع هو هجين بين الإنسان المنتصب والإنسان العاقل، مما يجعله سلفًا محتملًا. وهناك أيضًا اقتراح بإعادة تصنيف العديد من الحفريات التي كانت تُعتبر سابقًا إنسان "هايدلبرج" وإنسان "روديسيا" على أنها إنسان "بودوينى"، مما يُبسط أجزاءً كبيرة من شجرة عائلتنا. لكن هذا الاقتراح يُعارضه علماء آخرون.
لذا، سيستمر البحث، من بدايته فى كهف بواديدى "نياندر"، إلى اكتشافات وتقنيات جديدة قد تُمكّن العلماء يومًا ما من تحديد أسلافنا الحقيقيين بشكل قاطع.
تعليقات