تتجاوز المجرات حدود الكون، من المفترض أن يكون ذلك مستحيلاً!!
قام تلسكوب "جيمس ويب" الفضائى برصد مجرات من بدايات الكون ، ووجدها تتألق بأكثر مما ينبغى.
يحاول علماء الفلك الآن البحث عن إجابات لتفسير هذه الظاهرة، وقد يتطلب ذلك إعادة النظر فى تاريخ نشأة الكون.
عن: "هنريك بنديكس"
صوّب أكبر تلسكوب فى الفضاء عدساته لمدة خمسة أيام، نحو منطقة واحدة صغيرة من السماء. وحصلنا نتيجة لذلك على صورة فائقة الوضوح لآلاف المجرات.
كان العديد من هذه المجرات يشبه مجرتنا حلزونية الشكل "درب التبانة"، الأمر الذى لم يثر كثيراً إهتمام علماء الفلك الذين قاموا بفحص الصور .
بدلًا من ذلك، قاموا بالتركيز على بقعة حمراء صغيرة تُعرف باسم JADES-GS-z14-0.
كانت هذه هى أبعد مجرة يتم رصدها على الإطلاق. وبالتالى، فإن الضوء المنبعث منها، وصل إلينا قادماً من الكون المبكر جدًا - أقدم من أى وقت مضى. وعلى الرغم مع أهمية القدم الساحق لهذا الوقت، فإن ما بهر علماء الفلك فعلاً، هو مدى سطوعها.
لم ينبغى أن يكون مستوى سطوع JADES-GS-z14-0 ممكنًا بهذا الشكل؛ فهو يتناقض مع جميع النظريات الشائعة حول نشأة الكون. لذا يبحث العلماء الآن عن تفسير، ويقترحون بالفعل بعض الأفكار الرائعة التى قد تقلب رأسًا على عقب طريقه فهمنا لنشأة الكون .
نشأت المجرات عند بزوغ فجر البدايات. وُلدت أولى المجرات خلال الفترة التى يُطلق عليها علماء الفلك اسم "الفجر الكونى"، أى بعد 380,000 عام من الانفجار العظيم.
فمع تجمع ذرات الهيدروجين والهيليوم الأولى فى سُحب غازية كبيرة، انهارت أحيانًا شظايا من سُحب الغاز تحت وطأة ثقلها: وهكذا وُلدت النجوم الأولى وتشكلت المجرات الصغيرة. ثم نمت المجرات حديثة الولادة عن طريق جذب المزيد من الغاز من محيطها لتكوين المزيد من النجوم، أو ربما اندمجت مع مجرات مبكرة أخرى.
ووفقًا للنظرية القياسية، تستغرق هذه العملية وقتًا - حوالى مليار عام - حتى تُصبح بعض المجرات بحجم مجرتنا "درب التبانة".
لذلك افترض علماء الفلك أنه إذا درسوا الضوء القادم من الكون الفتى، فلن يروا سوى مجرات صغيرة جدًا. لكن قدرتهم على النظر إلى الماضى البعيد كانت محدودة حتى تم إطلاق تلسكوب "جيمس ويب" الفضائى (JWST)، والذى صُمم لرصد الضوء الذى ينتقل لمسافات طويلة، وبالتالى يمكن رصد مراحل من الكون المبكر.
عندما التقط تلسكوب "جيمس ويب" صوره الأولى التى استغرقت خمسة أيام فى أوائل عام ٢٠٢٤، بدأ الباحثون بتحليل البيانات لتحديد هذه المجرات القديمة الصغيرة من بين المجرات الأحدث.
وعند ذلك، اكتشفوا مجرة "JADES-GS-z14-0.
يسافر ضوء هذه المجرة منذ ١٣.٥ مليار سنة، أى أنه نشأ عندما كان عمر الكون ٢٩٠ مليون سنة فقط، وهى فترة المجرات الفتية الخافتة فقط.
لكن تلك المجرة تبدو مكتملة النمو. فحسب علماء الفلك، المجرة JADES-GS-z14-0 تمتد على مسافة ١٧٠٠ سنة ضوئية، وتحتوى على حوالى نصف مليار نجم.
هى أصغر من مجرة "درب التبانة"، التى تحتوى على مئات المليارات من النجوم وتمتد على مسافة 100,000 سنة ضوئية. ولكن لا بد أن مجرة JADES-GS-z14-0 قد وصلت إلى حجمها فى أقل من 300 مليون سنة، مقارنةً بـ 13.8 مليار سنة التى نمت فيها مجرة درب التبانة إلى حجمها الحالى، وهى فترة أطول بنحو 50 مرة.
النظرية القياسية لنشأة المجرات لا يمكنها تفسير لا الضوء ولا الحجم ولا التعقيد الهائل لمجرة JADES-GS-z14-0.
إذن هل يمكن أن يكون ذلك مجرد خللًا فى البيانات؟ لا.
لقد اكتشف علماء الفلك منذ ذلك الحين المزيد من المجرات، هذه المجرات التى تعود إلى الفترة التى كان عمر الكون فيها 500-700 مليون سنة فقط، والتى تبدو أيضًا كبيرة بشكل مدهش بالنسبة لفترتها الزمنية.
يفضل العلماء عادةً البيانات التى لا تتناسب مع النموذج الحالى، لأن ذلك يعنى أنه يتعين عليهم تعديل النموذج أو حتى التوصل إلى نموذج جديد تمامًا. لذلك يدرس علماء الفلك الآن التفسيرات المحتملة المختلفة.
وأحدها يتضمن ملايين المستعرات العظمى.
هل وُلدت النجوم فى موجات؟
يتساءل علماء الفلك عما إذا كانت تلك المجرات الساطعة بشكلٍ مُفاجئ تتطلب بالفعل نظريةً قياسية جديدةً للتطور المُبكر للكون، أم أن ضوء المجرات قد يكون فى الواقع نوعًا من الوهم البصرى.
يقترح بعض الخبراء أن ذلك السطوع قد يكون خادع بسبب الثقوب السوداء.
فعندما تسقط كمياتٌ كبيرةٌ من الغاز باتجاه ثقبٍ أسود، يصبح الغاز ساخنًا جدًا لدرجة أنه يبدأ فى التألق بشكلٍ ساطع. لذا، قد تبدو مجرةٌ صغيرةٌ ذات ثقبٍ أسودٍ كبيرٍ فى مركزها ساطعةً مثل مجرةٍ كبيرةٍ بها مليارات النجوم.
لكن إذا كان الأمر كذلك، فإن معظم الضوء سيأتى من مركز المجرة، حيث يقع الثقب الأسود الكبير. إلا أن ضوء JADES-GS-z14-0 والمجرات المبكرة الساطعة الأخرى يتساوى سطوع الضوء على كامل امتدادها. لذا، فإن اقتراح الثقوب السوداء يكون مُستبعدا.
ولذلك، يبحث علماء الفلك بدلاً من هذا عن نظريةٍ جديدةٍ لتكوين النجوم.
أحد التفسيرات المُحتملة هو أن عددًا أكبر من النجوم الكبيرة والثقيلة قد تكوّن فى مرحلة الكون المُبكر مقارنةً بما هو عليه الآن. إذا كان هذا صحيحًا، فقد تتألق المجرات المبكرة بهذا القدر من السطوع لأن نجومها أكبر وأكثر سطوعًا من نجوم مجرة درب التبانة، وليس لأنها تحتوى على نجوم أكثر مما كان متوقعًا.
يسعى الباحثون أيضًا إلى إثبات نظرية أخرى، مفادها أن المجرات الأولى لم تُشكل نجومًا بوتيرة ثابتة مثل مجرة درب التبانة، بل إن النجوم تشكلت فى موجات شديدة ناجمة عن ملايين المستعرات العظمى.
إذا كانت هذه الفكرة صحيحة، فربما تكون المجرات الرائعة فى صور تلسكوب جيمس ويب قد التُقطت فى ذروة هذه الموجة.
من المستحيل بناءً على البيانات الحالية الجزم بأى من النظريات هى الصحيحة. لكن علماء الفلك منشغلون الآن بالتخطيط لعمليات رصد جديدة باستخدام تلسكوب "جيمس ويب" الفضائى، مُوَجَّهين عدساته لفترة أطول نحو المجرات الغامضة من أجل جمع المزيد من المعلومات.
لذا، يُمكننا توقع الحصول على المزيد من البيانات الجديدة من التلسكوب، والتي ستُعيد علماء الفلك إلى العمل.
قد يتبين أن نجوم المجرات المبكرة ليست هى من تتصرف بشكل غير متوقع: ربما يكون علم الكونيات نفسه، والنظرية الأساسية لتطور الكون ومحتوياته، هو الذى يحتاج إلى مراجعة.
وقد يعيد الفيزيائيون النظر فى ماهية المادة المظلمة التى أثّرت على المجرات الأولى بجاذبيتها.
بغض النظر عن النظرية التى ستُثبت صحتها فى النهاية، فإننا على الأقل، نعلم الآن بأن الكون شهد فى أيامه الأولى اضطرابًا أكبر بكثير مما كنا نعتقد سابقًا - وأنه لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه.
ملحوظة:
يقطع الضوء مسافة تقدر بمليارات السنين. ويخفت ضوء المجرة فى طريقه إلينا، لذا هناك فرق بين السطوع المُقاس والسطوع الفعلى. يحسب علماء الفلك السطوع الفعلى للمجرة باستخدام معلومتين: بُعدها، وكمية الضوء الذى تصل إلينا.
يستطيع تلسكوب "جيمس ويب" الفضائى قياس كليهما. يتناقص السطوع مع مربع المسافة، وهذه هى الطريقة التى يحسب بها العلماء السطوع الفعلى للمجرة. ولكن يجب عليهم مراعاة حقيقة تمدد الكون.
يقطع ضوء المجرات الأولى مسافة 13.5 مليار سنة، لكنها اليوم تبعد عنا مسافة تقارب 34 مليار سنة ضوئية.
تعليقات