كيف تحمى نفسك من التضليل الإعلامى!

 فى سبتمبر 2024، كانت مدينة "سبرينجفيلد" بولاية "أوهايو" محطاً للأنظار. فخلال مناظرة انتخابية رئاسية، كرر "دونالد ترامب" ادعاءً غريبًا، من أن مهاجرين من "هاييتى" فى "سبرينجفيلد" يختطفون ويأكلون قطط وكلاب المدينة. أعلن ترامب على الهواء مباشرة: "إنهم يأكلون حيوانات الناس الذين يعيشون هناك، وهذا ما يحدث فى بلدنا". 

سرعان ما انتشر الخبر على وسائل التواصل الاجتماعى، وفى جميع أرجاء العالم، وحصد عشرات الملايين من التعليقات والميمات وصور من الذكاء الاصطناعى لحيوانات أليفة مذعورة. 

فى غضون ذلك، سارع مسؤولو مدينة "سبرينجفيلد" إلى دحض هذا الادعاء، مؤكدين عدم تلقّيهم أى تقارير من هذا القبيل.

الإشاعات والمغالطات و"الأخبار الكاذبة" ليست جديدة.  فمنذ أن اخترع البشر اللغة، كنا عرضة لخلق ونشر واستهلاك المعلومات الكاذبة، والتضليل. 

وسواء كان ذلك التضليل والتلاعب يتم عمدًا أو كان مجرد خطأ بشرى، فالحقيقة هى أن المعلومات المضللة موثقة جيدًا منذ أقدم العصور.

توجد أمثلة كثيرة على مر التاريخ، على دول وحكومات وصناعات تتلاعب بالرأى العام. فخلال الحرب العالمية الأولى، أصدرت السلطات البريطانية قوانين تحظر على الصحافة نشر أى شىء سلبى عن قوات الحلفاء. وفى خمسينيات القرن الماضى، بذلت شركات التبغ الكبرى جهودًا حثيثة لتهميش الأبحاث التى تربط التدخين بالسرطان. وقد قدّم إعلان نشرته شركة "فيليب موريس" وآخرون معلوماتٍ خاطئة للمدخنين.

لم يعد التضليل الإعلامى أمرًا جديدًا، فمن حروب القرن العشرين الكبرى إلى الصراعات فى الشرق الأوسط وأوكرانيا، ومن الدعاوى عن أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة، إلى مزاعم تزوير الانتخابات، ومن الحروب الفعلية إلى الحرب السيبرانية إلى الحرب المعرفية تم استخدام التضليل الإعلامى بكثافة.

الفرق الوحيد الموجود حالياً، هو أن التفاعلات البشرية والتكنولوجية أصبحت تُعيد تشكيل علاقتنا بالمعلومات. لقد اصبح لدينا إمكانية الوصول إلى أدوات إنشاء محتوى وقنوات اتصال مدعومة بالتكنولوجيا يمكنها إرسال معلومات (مضللة) حول العالم فى أجزاء من الثانية. 

وبهذا المعنى، قد نكون عند نقطة تحول.

التضليل الإعلامى: هل نحن عند مفترق طرق؟

فى عالمنا المتصل دائمًا بالإنترنت، يمكن للتضليل الإعلامى أن ينتشر  بسرعة أكبر ولمسافات أبعد من أى وقت مضى؛ فقد تسارعت سرعة الانتشار بشكل كبير، كما تغيرت طريقة استهلاكنا للمعلومات.

من "فيسبوك" إلى "إنستجرام" إلى تطبيقات الأخبار على هواتفنا المحمولة، تُدار المحتويات التى نتلقاها بواسطة خوارزميات تُقيّم ما نراه بناءً على ما استهلكناه بالفعل. وفى عالمٍ حوّلت فيه وسائل التواصل الاجتماعى الجميع إلى مُنشئى محتوى ومستهلكين، وصحفيين وقراء، يُمكن للمعلومات المُضللة أن تنتشر بسرعةٍ وحرية. 

ومع تزايد شهيتنا للمحتوى، وتماهى نوع المحتوى الذى نستهلكه بشكل آلى، أصبح يُمكن للمعلومات المُضللة أن تنتشر على نطاقٍ واسع.

لا تزال وسائل الإعلام التقليدية خاضعةً لبعض الضوابطٍ والتوازنات، ولكن يُمكن لأى شخصٍ تقريبًا أن يقول ما يشاء على "X" أو "Facebook" أو "YouTube" أو "TikTok". 

ثم هناك عامل "الذكاء الاصطناعى"، فمع تطور الذكاء الاصطناعى، سيُصبح التمييز بين الحقيقة والخيال أصعب. وستزداد صعوبة اكتشاف الكذب. ونظرًا لقدرة الذكاء الاصطناعى على توليد المحتوى بسرعة هائلة وعلى نطاق واسع، فسيُصبح من الأسهل على الجهات ذات الاغراض الخبيثة إنتاج تنويعات مختلطة لا حصر لها من الحقائق والخيال، والمعلومات والتضليل، فى محاولةٍ لاكتشاف ما يُناسب المستخدمين.

فى البيئة الحالية التى أصبحت فيها الآراء الحزبية المتطرفة، هى القاعدة، هناك خطورة من اختفاء أى شعور بالحقيقة، الأمر الذى يجعل الناس أكثر ميلًا إلى قبول أو رفض المعلومات اعتمادًا على ما يريدون تصديقه. 

نحن نشهد تدهورًا تدريجيًا ومنهجيًا للمعتقدات والقيم المشتركة. سواء فى السياسة أو التعليم أو البيئة أو الرعاية الصحية، فنحن نتجمع فى كتل متعارضة، مما يجعلنا أكثر عرضة للمعلومات المضللة. 

خلال وباء الكوفيد، أحرق الناس فى "المملكة المتحدة" أبراج هوائيات 5G  بسبب نظريات المؤامرة التى ربطت أبراج الهاتف المحمول بـ COVID-19. 

فى "إيران"، قرأ الناس أن تناول الميثانول يمكن أن يعالج الفيروس, مما أدى لوفاة أكثر من 700 شخص. 

إن الاستقطاب المتزايد، وتصاعد التوتر الاجتماعى والسياسى، والتدفق المتسارع للمحتوى غير المنضبط على الإنترنت، والذكاء الاصطناعى، والتزييف العميق - كل ذلك يُولّد حالة هائلة من انعدام الثقة. 

يُمكن أن يجعلنا كل هذا نتشكك فى بعضنا البعض، ويُضعف ثقتنا بشرعية السلطات، ووسائل الإعلام، والعمليات الانتخابية، والنظام الديمقراطى.

 يُمكن لذلك أن يُنشئ حلقات تغذية تجعلنا نتوقع دائما استقبال المعلومات المضللة ونصبح أكثر انعدامًا للثقة، مما يجعلنا عرضة لاستهلاك المزيد من المعلومات المضللة إذا كانت تتوافق مع نظرتنا للعالم. 

النتيجة؟ المزيد من الاستقطاب، والمزيد من الارتباك، والمزيد من الفوضى.

هل ينجح دحض المعلومات فى القضاء على التزييف؟:

كان الرد المُعتاد على المعلومات المضللة هو القيام بدحضها - عن طريق نشر الحقائق التى ستقوم بكشف زيف الادعاءات التى سمعتها.

ولكن للأسف، وبسبب علم النفس البشرى، توجد قيود شديدة على هذا النهج.

فعندما تُدحض شيئًا ما، فإنك عن غير قصد تدعم ما يُطلق عليه علماء النفس التأثير المستمر لهذا الشىء. 

فانت دون قصد،  تُعطيها مزيدًا من الزخم. 

لماذا؟ 

يحدث هذا نتيجة للطريقة التى تعمل بها أدمغتنا، فلكى تقوم بتشويه سمعة شىء ما، عليك تكراره أولًا، وهذه هى المشكلة.

فعندما نتلقى بشكل مستمر أخبارا مزيفة، نقوم بدمجها فى ذاكرتنا، فتتشابك هناك - وتصبح أكثر مصداقية من الحقائق الأخرى التى نخزنها ونعتبرها صحيحة فى أذهاننا. 

تكرار تلقى هذه الأخبار المزيفة، حتى بغرض التحقق منها أو دحضها، يعنى أننا فى النهاية نُعزز تلك الافكار فى ادمغتنا: فتصبح شبكة الذاكرة المرتبطة بتلك المعلومة المضللة أكثر متانة.

مثلاً، لنفترض أنك قرأت أن "نيويورك" أكثر ازدحامًا من "لندن" ستترسخ الفكرة فى ذاكرتك. فى اليوم التالى، إذا تحدثت مع مختص وأخبرك أن "نيويورك" أقل ازدحامًا من "لندن". بهذا، تكررت هذه المعلومة عمليًا وترسخت فى ذاكرتك. لكنك الآن تواجه نوعًا من خطأ الاسترجاع عند محاولة الوصول إلى تلك المعلومة: ستصل إليك معلومات خاطئة وصحيحة فى نفس الوقت. هذا يعنى أنه سيتعين عليك عمدًا إخفاء المعلومات المضللة: أتذكر أننى سمعت أن "نيويورك" أكثر ازدحامًا من "لندن"، ولكن هل كان هذا صحيحًا أم خاطئًا؟

مثل هذه الأنواع من التمارين الذهنية صعبة على الدماغ. ففى تجارب بحثية، تم إخبار مجموعة من المتطوعين أن حريقًا قد نجم عن علب زيت مخزنة بشكل سيئ فى مستودع، ثم تم تصحيح ذلك لاحقًا من أن سبب الحريق غير معروف. 

لاحقا، مرارًا وتكرارًا، سيُخبرك نفس المتطوعين أن علب الزيت هى سبب الحريق، رغم إخبارهم بعكس ذلك. 

إنه سلوك تلقائى: أدمغتنا مُصممة لتخزين المعلومات بطريقة تجعل دحضها أمرًا مُعقدًا. فبمجرد أن تترسخ الكذبة، يصعب التخلص منها. 

لذلك فإن أفضل طريقة للتعامل مع المعلومات المُضللة هى دحضها مُسبقًا: أى التحصين ضدها مُسبقًا. ماذا يعنى ذلك؟

الوقاية خير من العلاج:

عندما تُعطى شخصًا لقاحًا، فإنك تُعطيه جرعة من المرض أو الفيروس الذى تُحاول الوقاية منه، مما يُحفز إنتاج الأجسام المضادة ويمنحه مقاومةً للعدوى مُستقبلًا. وينطبق الأمر نفسه على عقولنا.

عندما تُعرّض الناس مسبقًا لجرعة صغيرة من الزيف، يُمكنك تفكيكها ودحضها مُسبقًا حتى يُكوّنوا أجسامًا مضادة نفسية ومعرفية تُصبح أكثر مقاومةً للجرعة الكاملة فى المُستقبل.

لاختبار ذلك، تم الطلب من بعض المتطوعين قراءة بحث عن تغيّر المناخ صادر عن الأكاديمية العليا للعلوم. بدا المقال علميًا وموثوقًا، لكن أثناء تصفحهم له، أدركوا أنه مجرد هراء: فهنا عيوب منطقية فى السرد، كما أن قائمة الموقعين على المقال ضمت أسماءً مثل "تشارلز داروين"، و"ميكى ماوس"، والبروفيسورة "جيرى هاليويل" من فرقة "سبايس جيرلز". 

بمجرد انتهائهم من قراءة المقال، طلب منهم تصفح الإنترنت بحثًا عن محتوى حول تغير المناخ. وجد أن المتطوعين حينها لم ينخدعوا بالمعلومات المضللة على الإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعى - مهما بدت معقولة أو مقنعة.

كانت تجربة المقال الذى وقعه "ميكى ماوس" حول تغير المناخ خفيفة الظل، لكن مع اعادة التجربة مع مواضيع أكثر جدية ظل نفس التأثير موجوداً. فعندما طلب منهم قراءة محتوى أكثر أهمية ودقة، وجد أنهم أصبحوا بشكل واضح، أكثر مناعة عند تعرضهم لمعلومات مُضللة على الإنترنت.

أثبت استخدام الطرافة والفكاهة لنشر جرعات ضعيفة أو خاملة من المعلومات المضللة نجاحًا باهرًا فى بناء دفاعات نفسية ضد الأكاذيب. ومع ذلك، يقتصر تأثير هذا على من يخضعون لمثل هذه التجارب.

حماية مستقبل قائم على الحقائق:

لا يزال العمل على تحصين الناس ضد المعلومات المضللة فى مراحله التجريبية، ومن الصعب توسيع نطاق ألعاب التواصل الاجتماعى. 

يبقى الأمل مرهونا بدمج التوعية المسبقة فى المناهج التعليمية، حتى يتم تحصين الأجيال الجديدة منذ سن مبكرة بشكل أفضل، ضد المعلومات المضللة الموجودة على وسائل التواصل الاجتماعى وغيرها من وسائل الإعلام .

فى عصر "الذكاء الاصطناعى" واستقطاب وسائل التواصل الاجتماعى، لم يعد مُجديًا الاكتفاء بمقولة أن الحقيقة تظهر فى النهاية. لقد أصبح تمييز الحقيقة من الكذب أكثر صعوبة، وربما أيضاً قلّت رغبتنا فى ذلك. 

لو نظرنا إلى التاريخ سنرى أنه كلما تفاقمت القضايا الاجتماعية أو الثقافية الكبرى، وكلما اندلع صراع فى عالمنا، عادةً ما يسبقه تدفق هائل من الدعاية والمعلومات المضللة.

نحن فى ذروة العرض والطلب على المعلومات المضللة، المدعومةً بتقنيات لم تكن موجودة فى الماضى. لذلك نحن فى حاجة ماسة إلى بناء قدرتنا على مواجهة هذا التلاعب فى الحقائق لتجنب حرب المعلومات الشاملة وما قد يترتب عليها. 


"ساندر فان دير ليندن" أستاذ علم النفس الاجتماعى ومدير مختبر "كامبريدج" فى قسم علم النفس بجامعة كامبريدج ■


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة