"الإنتروبيا" والعقل: تأملات فى العلاقة بين فكر "المعتزلة" و"القانون الثانى للديناميكا الحرارية"
فى زمنٍ يتداخل فيه العلم مع الفلسفة، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة التراث التقليدى فى ضوء الاكتشافات الحديثة. ولعلّ من أعمق قوانين الفيزياء المعاصرة ما يُعرف بـ"القانون الثانى للديناميكا الحرارية"، الذى يشير إلى أن النظام الطبيعى يتجه دومًا نحو الفوضى، وأن الزمن لا يسير إلا فى اتجاه واحد: من النظام إلى الاضطراب، من الحياة إلى الفناء.
هذا القانون، رغم بساطته الظاهرة، يحمل فى طيّاته أسئلة وجودية ضخمة تتعلق بالمصير، والمعنى، والعدل، والحرية.
فى المقابل، يقف فكر "المعتزلة"، أحد أبرز المدارس الكلامية فى "الإسلام"، على أرضية عقلانية صارمة، ترفع العقل إلى مرتبة الحكم الأول على الأمور، وتؤمن بعدل إلهى مطلق لا يسمح بظلم، ولا يُجبر الإنسان على فعل. وبين القانون الفيزيائى الصارم، والفكر العقلى الرحب، يبرز تساؤل جوهرى: هل هناك رابط بين ما يقوله العلماء عن "الإنتروبيا"، وما قاله "المعتزلة" عن "العدل الإلهى" و"الحرية الإنسانية"؟ وهل يمكن أن نقرأ الكون بلغة مزدوجة: لغة العقل العلمى، ولغة العقل الكلامى؟
ما هى "الإنتروبيا"؟
"الإنتروبيا" هى مقياس للعشوائية أو لفقدان النظام فى نظام معين.
عندما تزداد "الإنتروبيا" يصبح النظام أكتر فوضيه، وعندما تقل، يعنى هذا أن النظام أصبح أكتر ترتيبا.
مثال بسيط: تخيل غرفة مرتبة، الكتب منظمة على الرفوف، والملابس فى الدوالبب، كل شىء فى مكانه. هذه حالة "إنتروبيا" منخفضة (نظام مرتب).
تخيل الآن إنك تركت أطفال فى الغرفة: ستصبح الكتب على الأرض، والألعاب متناثرة، والملابس ملقاه هنا وهناك. هذه حالة "إنتروبيا" عاليه (نظام فوضوى).
تميل الطبيعة دائمًا إلى الفوضى — وذلك يعنى أن "الإنتروبيا" يجب أن تزيد.
على سبيل المثال، لو كان لديك غاز موجود فى جزء من وعاء، وفتحت له فجأة المجال، فإنه سينتشر فى كل الوعاء.
لقد كانت جزيئات الغاز من قبل محصورة (ترتيب أكتر – "إنتروبيا" أقل)، وفيما بعد عندما فتحت لها المجال، انتشرت الجزيئات فى كل مكان (عشوائية أكتر – "إنتروبيا" أعلى).
والنقطة المهمةهنا، أن الغاز لن يعود وحده ابدأ ليتجمع فى الركن الأول.
علاقة الإنتروبيا بالقانون الثانى للديناميكا الحرارية:
القانون الثانى يقول: "فى أى عملية طبيعية، "الإنتروبيا" الكلية للكون لا تقل، بل تزداد أو فى أحسن الأحوال فانها تثبت.
يعنى ذلك أن الكون يتجه دائمًا نحو الفوضى والعشوائية، وليس الترتيب.
الزمن و"الإنتروبيا": لماذا لا يعود الوقت للخلف؟:
نشعر دائما كبشر بأن الزمن يسير فى اتجاه واحد: من الماضى إلى المستقبل.
لكن لو نظرنا لقوانين الفيزياء (مثل قوانين نيوتن)، سنجد أنها لا تفرق بين الماضى والمستقبل. بمعنى إذا شاهدت فيديو لكرة تتحرك، لن تستطيع الجزم بسهولة ما إذا كان الفيديو طبيعى أم معكوس.
إذن ما الذى يجعل أن الزمن “له اتجاه”؟
هنا يأتى دور "الإنتروبيا".
"الإنتروبيا" هى سهم الزمن (Arrow of Time). فالإنتروبيا تزيد من العشوائية، وهذا بالضبط ما يجعلنا نشعر أن الزمن يتقدم إلى الأمام وليس إلى الخلف.
مثال: اذا إنكسر كوب على الأرض: ذلك طبيعى. أما أن يتجمع كوب مكسور من تلقاء نفسه ويصبح سليما مرة أخرى: فذلك مستحيل، لأنه معناه أن "الإنتروبيا" قلت — وذلك عكس طبيعة الكون.
المعنى انه كلما تقدم الزمن، ازدادت الفوضى.
وذلك ما يجعلنا نشعر بالزمن.
الوعى و"الإنتروبيا":
تاخذنا هذه الفكرة إلى كيفية عمل الوعى. يحاول العقل البشرى باستمرار أن يقلل "الإنتروبيا" داخله: فيرتب المعلومات، ويكوّن أنماط، ويستنتج الماضى، ويتوقع المستقبل.
وعى الإنسان يعمل دائما على محاربة الفوضى، وخلق نظام ومعنى من العشوائية المحيطة. لكنه فى نفس الوقت، يستهلك طاقة ضخمة، فالدماغ البشرى يستهلك حوالى 20% من طاقة الجسم، وينتج عن ذلك زيادة "الإنتروبيا" الخارجية.
الخلاصة أن الوعى البشرى هو حالة من النظام "المؤقت"، يقاوم الفوضى الداخلية، ولكنه يدفع ثمنا لذلك فوضى أكبر من حوله. وهو ما يشبه بالضبط القانون الثانى للديناميكا الحرارية!
الدين، الفلسفة، والمعنى:
فى الفكر الدينى، وخاصة عند بعض المتكلمين العقلانيين مثل "المعتزلة" الكون ليس فوضويا، بل منظم، وهذا الانتظام هو علامة على وجود "مدبر حكيم". ولكن عندما نكتشف ان "الإنتروبيا" تزيد، وأن الكون يتجه للفوضى، يظهر سؤال: لماذا يخلق الإله الحكيم كوناً يتجه نحو الموت والفناء؟
رأى "المعتزلة" أن الله خلق الكون بعقله وحكمته، ووضع فيه قوانين ثابتة (مثل الديناميكا الحرارية). ويحدث الاختلال (الفساد، الفناء...) كنتيجة طبيعية ضمن "نظام أوسع" له غاية محددة.
بمعنى أن الفوضى ليست عبث، بل هى جزء من خطة أكبر. "الإنتروبيا" هى أداة لتسيير الزمن، لتغيير العالم، لحدوث الحياة، ثم فنائها.
باختصار "الإنتروبيا" ليست فقط قانون فيزيائى، وانما أيضاً أداة لفهم الزمن، الحياة، الموت، والمعنى.
فالإنسان يعيش ضد "الإنتروبيا" طوال الوقت. والدين، الفلسفة، والوعى الإنسانى يحاولوا جميعا تفسير لماذا يوجد نظام؟ لماذا توجد الفوضى؟ وإلى اين نتجه؟
القوانين الطبيعية بين فكر "المعتزلة" والقانون الثانى للديناميكا:
اعتبر "المعتزلة" أن الكون يسير وفق قواعد ثابتة، لا تحابى أحدًا، ويمكن إدراكها بالعقل، وهى انعكاس لحكمة الله وعدله. من هذا المنطلق، رفضوا فكرة وجود الخوارق التى تحدث بلا ضابط، ورأوا أن لله قوانين طبيعية لا تتبدل.
هذا التصور يتلاقى بشكل لافت مع ما توصل إليه العلم الحديث، لا سيما فى القانون الثانى للديناميكا الحرارية، الذى ينص على أن أى نظام مغلق يتجه حتميًا نحو زيادة الفوضى (الانتروبيا) ما لم تتدخل طاقة إضافية لإعادة النظام إليه.
هذا القانون يتناغم مع رؤية "المعتزلة" لكونٍ منظمٍ عقلانى، لا مكان فيه للعبث أو الفوضى المطلقة.
الانتروبيا والعدل الإلهى عند المعتزلة:
ما يفترضه "القانون الثانى للديناميكا الحرارية" من هذا الاتجاه الطبيعى نحو الفوضى فى غياب تدخل منظم، يحمل دلالة فلسفية عميقة تلامس جوهر فكر "المعتزلة" فى مسألة العدل الإلهى.
فهم يرون أن الله قد خلق الكون وفق نظام محكم، وترك للإنسان حرية الفعل ضمن هذا النظام. وإنه لايمكن خرق القوانين الطبيعيه إلا بتدخل مباشر ومقصود، ما يعنى أن "الخرق" أو "المعجزة" ليست القاعدة بل الاستثناء.
واذا طبقنا هذا على "الانتروبيا"، فإن استمرار النظام أو إعادته الى طبيعته الاولى يتطلب تدخلًا واعيًا، وهو ما يشبه تمامًا تصور المعتزلة عن تدخل الله بالعدل لا بالهوى، وبالقصد لا بالعشوائية. وهو ما يعكس مبدئهم بأن كل فعل إلهى لا بد أن يكون معللاً بالحكمة.
السببية والحرية بين المعتزلة والديناميكا الحرارية:
إيمان "المعتزلة" بمبدأ السببية هو حجر الأساس فى بنائهم العقلى، إذ اعتبروا أن كل حادث لا بد له من مسبب، وكل نتيجة هى فى النهاية يجب أن تكون مترتبة على مقدّمات.
هذا هو نفسه المبدأ الذى يقوم عليه "القانون الثانى للديناميكا الحرارية"، الذى يربط أى تغير بحتمية واضحة: أنه إذا تُرك النظام وحده، فإن الفوضى ستزداد.
وهذا الطرح يدعم رؤية "المعتزلة" التى تؤكد أن الله لا يتدخل لإلغاء النتائج ما دامت مبنية على أسبابها.
فالله تعالى كما أنه لا يتدخل فى كسر قانون "الانتروبيا" إلا لغاية محددة، كذلك لا يُبطل عواقب أفعال الإنسان إلا فى حالات خاصة تنسجم مع عدله وحكمته.
ومن هنا تتضح لنا العلاقة العميقة بين السببية فى العلم الطبيعى والعدالة فى تصور "المعتزلة"، حيث لا يحدث حجر على الحرية ولكنها لا تُترك بلا نظام.
من الانتروبيا إلى التوحيد العقلى:
هكذا نرى أن "القانون الثانى للديناميكا الحرارية" ليس مجرد مبدأ فيزيائى بحت، بل هو دليل على وجود نظام كونى متماسك، يتحرك ضمن اتجاه محدد يمكن للعقل أن يتتبعه ويستدل به.
هذا التوجه نحو النظام، رغم ميل الطبيعة إلى الفوضى، يعكس فى نظر "المعتزلة" نوعًا من التوحيد العقلى، حيث أن الله لا يتجلى فى الفوضى بل فى انتظام القوانين الطبيعية.
فكما رفضوا التصورات التى تجعل من العالم ساحة عشوائية لخرق القوانين دون ضابط، فإنهم أقاموا تصورهم لله على كونه عاقلاً، عادلاً، لا يفعل الاشياء إلا لحكمة يقتضيها.
من هنا، تصبح مفاهيم "الانتروبيا"، حول الزمن، والتحول فى الطاقة ليست نقيضًا للبعد الروحى، بل هى امتدادًا له بشكلٍ عقلانى، بحيث يصبح العلم سبيلاً إلى الاعتقاد بالحكمة الإلهية لا إنكارها.
إن تأمل العلاقة بين الفكر المعتزلى والقانون الثانى للديناميكا الحرارية لا يهدف إلى تحويل العلم إلى اساطير أو تحويل العقيدة إلى معادلات علمية، بل إلى فتح أفاق جديد لفهم أعمق للكون، حيث لا يتعارض الإيمان مع النظام، ولا يتم إقصاء العلم عن ميدان التأمل الإلهى.
لقد رأى "المعتزلة" أن العقل هو هبة إلهية تساعد الإنسان على الفهم ، وإذا كان هذا العقل قد قاد العلم إلى اكتشاف قوانين الطبيعة، فإن ذلك لا يتعارض مع الإيمان، بل يؤكده.
وهكذا، نرى أن "العدل" كما تصوره "المعتزلة"، يلتقى مع "الانتروبيا" كما تصورتها الفيزياء، فى نقطة هامة: هى أن العالم ليس ساحة عبث، بل ان كل تحول يحدث يخضع لحكمة ما، وان كل فعل له غاية.
وبين العقل والروح، يظل السؤال مفتوحًا، والإجابة دائمًا هى فى السعى إلى الفهم.
حازم فرجانى
تعليقات