بوتقة الخيمياء ( الكيمياء القديمة)
بدأت "الخيمياء" (الكيمياء القديمة)، فى المحيط الفريد لمدينة "الإسكندرية" فى القرن الثالث.
فما الذى جعل هذه المدينة الساحلية المصرية مهدًا لهذا الفن الغامض؟
هناك تمييز واضح فى المفاهيم ما بين الدين والسحر والعلم، إلا أن هذا حديثاً نسبيًا. لم يكن مثل هذا التمييز موجوداً فى "مصر" تحت الحكم الرومانى فى القرن الثالث الميلاد. كان تفسير الظواهر الطبيعة يستند على الأدلة التجريبية التى تعتمد على الفلسفات والأساطير، ومجموعة واسعة من الأديان والثقافات المختلفة. ومن كل هذا المزيج الفريد نشأ أسلوب جديد لرؤية العالم هو: "الخيمياء".
يجادل بعض المؤرخين حول البدايات الافتراضية للخيمياء - بينما يركز آخرون على جوانبها الباطنية، من قبيل الأساطير وجوانب التصوف وحتى السحر. مع ذلك، فهذا التقسيم هو تقسيم حديث، صاغته الكاتبة البريطانية "مارى آن أتوود" فى القرن التاسع عشر.
قبل ١٧٠٠ عام، لم يقم هؤلاء الحرفيون متعددو الثقافات فى "الإسكندرية"، عاصمة "مصر"، ، بتقسيم الأفكار إلى افتراضية وأخرى جوهرية، أو إلى تصنيفات تميز ما بين الواقعى والخيالى والمُختلق. لكنهم جمعوها جميعًا فى رؤية عالمية واحدة مترابطة، شاملة، عملية، وإن كانت غامضة، ومليئة بالاحتمالات.
هذه الرؤية هى التى أثّرت جذريًا فى كيفية نشأة "الخيمياء"، ولم يكن من الممكن لها أن تنشأ بهذه الطريقة، إلا فى مجتمع "الإسكندرية" الفريد.
تقع مدينة "الاسكندريه" شمال "مصر"، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى فرع النيل الكانوبى المنقرض حاليًا. شُيّدت عاصمة "مصر" تحت رعاية "الإسكندر الثالث" المقدونى (الإسكندر الأكبر)، الذى سُمّيَت باسمه فى القرن الرابع قبل الميلاد، والذى حلم بعد فترة وجيزة من فتح مصر بشاعره المفضل يصف له هذه الزاوية الغربية الصغيرة من دلتا النيل.
سافر الملك اليوناني الشاب إلى هناك ممسكًا بنسخته الثمينة من أعمال "هوميروس"، وتجول حتى وقف على الشاطئ الصخرى لجزيرة "فاروس" القريبة، فألهمه ذلك بناء مدينة.
كان لدى الإغريق طيف واسع من الفلسفات الفكرية والعلمية البدائية، بالإضافة إلى دينٍ متعدد الآلهة، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالآلهة الرومانية والمصرية.
على حين أن الدين المصرى الأصلى نفسه، هو من أقدم الديانات التى شهدها العالم، ومن أكثرها تعقيدًا. واشتهر أتباعه بجودة دراساتهم فى مواضيع متنوعة، أبرزها علم الكونيات والطب وصناعة الدهانات والأصباغ ومستحضرات التجميل والعطور وغيرها من المنتوجات.
فى عاصمة "مصر" اليونانية الرومانية، اجتمعت عناصر من كل هذه التقاليد المتنوعة - بعضها قديم وبعضها حديث - كأنها نتاج لتجربة كيميائية ناجحة لتكوين شىء فريد: مجتمع ذكى، متسائل، بارع تقنيًا، أثار فضول وجذب عقولًا أخرى من طيف واسع من الأديان والثقافات.
لم تكن هذه المدينة متعددة الثقافات، مدينة فاضلة بالضرورة. بل شهدت صراعات أيديولوجية عديدة بين الجماعات الدينية، فكانت الخلافات بين أتباع الديانات المختلفة بؤرة اشتعال متكررة، وكذلك بين الوثنيين والمسيحيين. ومع ذلك، ورغم التوترات التى كانت تشتعل أحيانًا، كانت الإسكندرية القديمة منارةً، تمامًا مثل المنارة التى زينت سقف المنارة الشهيرة التى كانت تطل على مينائها من جزيرة "فاروس الصغيرة"، إحدى عجائب الدنيا السبع فى العالم القديم.
وأصبحت منارة "فاروس" رمزًا خالدًا للمدينة التى كانت منارةً رائدة فى العالم القديم فى مجالات التطور الفكرى والروحى. كانت "الإسكندرية" ملتقىً للفلسفات المختلفة، بالإضافة إلى المعتقدات المتنوعة لسكان المدينة وزوارها. شكل التقاء هذه الأفكار والكثير غيرها، بدايات "الخيمياء"، وتُعرف النتيجة الأولى لهذا المزيج الذى قد يبدو مستبعدًا الآن باسم "الغنوصية".
لا يزال الجدل الأكاديمى محتدمًا حول ما إذا كانت "الغنوصية" دينًا قائمًا بذاته أم حركة فكرية بين الأديان، مع أنه من المرجح أن الغنوصيين الأوائل كانوا سيشعرون بالحيرة من حقيقة أننا نُميّز بين المفهومين.
فقد أخذت رؤيتهم العالمية المعقدة ودمجت الأفكار اللاهوتية من الاديان المختلفة مع الفلسفة اليونانية والعناصر الكونية للزرادشتية الفارسية.
وفى حين أن أصول "الغنوصية" تظل غامضة، فمن الآمن القول انه ليس لدينا أى سجلات عنها تسبق المسيحية، ولكننا نعلم أن "الإسكندرية" كانت مهمة جدًا لتطورها المبكر.
كان أحد آباء الكنيسة الأوائل "كليمنت" الإسكندرى، وهو يونانى العرق اعتنق المسيحية، على دراية بتركيباتها المتنوعة من الفلسفة اليونانية واللاهوت اليهودى والمسيحى والتصوف الشرقى، على الرغم من أننا لسنا متأكدين ما إذا كان هو نفسه غنوصيًا ممارسًا أم لا.
ومثل العديد من المثقفين فى ذلك الوقت، قام "كليمنت" بالفصل بين أعماله العامة وغيرها من السجلات الأكثر سرية التى احتفظ بها، وهى التى تحتوى على لمحات مثيرة للفكر الغنوصى.
فى معظم أنحاء المناطق المسيحية، اعتُبرت "الغنوصية" بدعة - وكان من أوائل من انفصل بها، عالم اللاهوت المصرى "فالنتينوس" الذى تلقى تعليمه فى "الإسكندرية" فى القرن الثانى عن الكنيسة الكاثوليكية، وعندما تجاهلته فى الترقية، استمر فى اعتناق الفلسفة لدرجة أن فرعًا من الغنوصية - الفالنتينية - سُمى باسمه.
ربما كان مصطلح "فالنتينيان" أول مصطلح استُخدم للإشارة إلى الغنوصيين، إذ استخدم أتباع هذه الفكرة الأوائل مصطلح "غنوستيكوس" (وتعنى باليونانية "ذوى الحكمة") لوصف فلسفتهم، لا أنفسهم.
أما مصطلح "الغنوصية" والمصطلحات المرتبطة بها، فهى فى الواقع مفهوم يعود إلى القرن الثامن عشر.
وجدت حركات مثل "الغنوصية" موطنًا ترحيبيًا فى الإسكندرية لأن طبقتها المتوسطة - من العلماء والحرفيون والتجار والموظفون المدنيون وما شابههم - كانت تتمتع بعقلية نابضة بالحياة ومتعددة الأعراق ونهمه للمعرفة.
كانت مكتبة "الإسكندرية" الشهيرة فى ذروة قوتها الكبرى فى العالم القديم، وهى جزء من مجمع ضخم يُدعى "الموسيون"، وهو معهد يشبه إلى حد ما جامعة بحثية حديثة، مخصص لآلهة الإلهام التسعة فى الأساطير اليونانية. وفى ذروة مجده، كان يعج بأكثر من 1000 عالم حر الفكر بأجر جيد، ينشغلون بجمع المعرفة من جميع أنحاء العالم المعروف وترجمتها.
كان "أبولونيوس" الرودسى، مؤلف القصيدة الملحمية "الأرجوناوتيكا"، أحد أمناء مكتباتها الرئيسيين؛ وخلال فترة ولايته، زارها عالم الرياضيات والمخترع الشهير "أرخميدس". ادعى بعض أتباع "أرخميدس" أن مراقبة النيل أتاحت له ابتكار جهاز ضخ المياه الشهير، "لولب أرخميدس"، لكن الأرجح أن المهندس الصقلى اليونانى استلهم الفكرة من سجلات تقنيات الرى المصرية القديمة التى وجدها فى مجموعة المخطوطات الضخمة بالمكتبة الكبرى.
ومع ذلك، بحلول وقت الاحتلال الرومانى، كان عدد أعضاء المكتبة الكبرى قد انخفض بشكل كبير، وانتهى كل ذلك فى عهد الإمبراطور "أوريليان" عام 272 م أو الإمبراطور "دقلديانوس" عام 297 م.
وعلى الأغلب حدث ذلك الانهيار فى عهد "دقلديانوس": فقد اضطهد خلال فترة حكمه، المعارضين والأقليات فى جميع أنحاء الإمبراطورية، وبعد زيارته للإسكندرية، أصدر مراسيم تدين "الكتابات القديمة للمصريين، التى تتناول تحويل الذهب والفضة بالخيميا" وشجع على حرق النصوص الخيميائية. يُعتقد أن هذا هو الوقت الذي فُقدت فيه النسخة الإسكندرانية الأصلية من النص الأسطورى "هيرميتيكا".
يبدو أن "الخيمياء' - أو "الخيميا" كما كانت تُعرف آنذاك - قد بدأت قبل قرن تقريبًا من حظر "دقلديانوس" لها. ومن أقدم شخصياتها المعروفة "مريم" اليهودية و"كليوباترا" الخيميائية، و"زوسيموس" البانوبولى، وخبير السموم "أجاثودايمون"، الذين استخدموا أملاح النطرون المحلية مع معادن تحتوى على الزرنيخ لإنتاج أكسيد الزرنيخ الشفاف والقاتل. ومن المرجح أن معظم معرفتهم المبكرة قد استُمدت من علم المعادن: فالزرنيخ، على سبيل المثال، يمكن استخدامه لتصلب البرونز، وهكذا اكتُشفت طبيعته السامة. ولكن السجل التاريخى الفعلى لنشأتها شحيح نوعًا ما.
تم تسجيل هؤلاء الممارسون الأوائل على أنهم من بين أوائل من طوروا أدوات علمية مثل (حمام مريم) والإنبيق (كليوباترا)، بالإضافة إلى بعض العمليات الخيميائية الأولى.
ولكن هل كان بإمكان الكيميائيين الأوائل فى "الإسكندرية" القديمة تحويل المعادن العادية إلى معادن ثمينة حقًا؟ يبدو أنهم بالتأكيد قد فعلوا ذلك .
تحتفظ إحدى السجلات الإسكندرانية المعروفة الآن باسم بردية "لايدن" بتركيبة وصفة مهمة تُعرف باسم "ماء الكبريت". مزيج مُقاس بعناية من أكسيد الكالسيوم والكبريت والحمض (تشير الوصفة إلى الخل أو البول)، عند تحضيره وتطبيقه بشكل صحيح، يمكنه تحويل الفضة إلى لون الذهب الغنى اللامع.
قام مؤرخ العلوم "لورانس م. برينسيبى"، وهو كيميائى ممارس ومؤرخ للكيمياء، بتكرار هذه المادة ووجد أنها فعالة.
هذه الأنواع من التحولات هى ما تخصص فيه الكيميائيون الأوائل فى "الإسكندرية": لقد مارسوا تجارة مزدهرة لإنتاج المعادن والأحجار الكريمة المزيفة لزبائن المدينة المصرية الأنيقين.
بالنسبة لدقلديانوس، الذى كان يُكافح كوارث اقتصادية طالت الإمبراطورية بأكملها، ناجمة عن التضخم وتزوير العملات وتقلبات أسعار الصرف التى لم تُجدِ نفعًا حتى مع فرض ضرائب جديدة، كانت فكرة أن يتمكن خيميائيو "الإسكندرية" من بيع الفضة على أنها ذهب مُرعبة.
ومع أن روما القديمة اشتهرت بتجاهلها لأى نوع من الممارسات الباطنية، إلا أن تحريمات "دقلديانوس" لم تكن نابعة من الخوف من السحر غير الرومانى بقدر ما كانت نابعة من المخاطر المالية الحقيقية لتقنية جديدة ومُزعزعة للاستقرار.
أصبح خيميائيو "الإسكندرية" تهديدا للاستقرار المالى للإمبراطورية الرومانية بأكملها، وهى إمبراطورية وضح فى عهد "دقلديانوس" أنها كبيرة جدًا وصعبة الإدارة بحيث لا يستطيع حاكم واحد إدارتها, لذلك انقسمت إلى الحكم الرباعى الأول المكون من أربعة زعماء إقليميين.
لم يكن هجوم "دقلديانوس" على خيميائيى الإسكندرية أمرا جديدًا - فقد كان مضطهدًا شرسًا للمانويين والمسيحيين أيضًا - ولكن بمهاجمتة الخيميائيين، والأهم مهاجمته لسجلات معارفهم وأعمالهم، فقد مزّق "دقلديانوس" بفعالية قلب المدينة المزدهرة التى اتخذتها الخيمياء المبكرة موطنًا لها.
لقد نجت "الإسكندرية" من حافة الهاوية من قبل - فقد فقدت أباها المؤسس، وأضاعت قبره، وعانت من المرض والكوارث والموت؛ حتى أنها تعاملت مع المذبحة التى قادها سلف "دقلديانوس" لأكثر من 20000 شخص، ولكن الشىء الوحيد الذى لم تستطع التعامل معه هو حرق الكتب.
أدى مرسوم "دقلديانوس" وفقدان مكتبتها إلى استنزاف روح المدينة. وظلت المدينة تتعثر حتى دمرها تسونامى ناجم عن زلزال كريت عام 365 ميلادية. لكن بذور "الخيمياء" تُركت فى الأنقاض، وأعاد اكتشافها فى النهاية الفاتحون العرب للمدينة، الذين واصلوا أبحاث الخيميائيين حتى انتشرت وأصبحت فى النهاية علمًا حديثًا.
ولعل "أريستاندر" كان محقًا عندما أخبر "الإسكندر" أن مدينته المصرية ستقوم بنشر نور المعرفة لبقية العالم يومًا ما.
عن مقالة "أبريل مادن"
ملاحظة:
آلهة الإسكندرية
كان "الإسكندر الأكبر" نفسه مصدر إلهام للعالم القديم، حتى أنه حتى قبل وفاته يُنظر إليه على أنه نصف إله. فعندما غزا "مصر" - تُوّج فرعونًا فى "ممفيس" ولقب ب "ابن الآلهة"، مما أثر فى الملك الشاب المتدين تأثيرًا عميقًا.
أدركت السلالة التى حكمت "مصر" من بعده، والتى أسسها رفيقه وأخيه غير الشقيق، "بطليموس الأول"، أن دمج آلهة "مصر" مع آلهة "اليونان" سيُسهم بشكل كبير في توحيد شعب لم يتحد إلا بفضل عبادته للإسكندر.
فبدأ البطالمة عملية توفيقية للجمع بين آلهة الثقافتين: كان "زيوس-آمون" بالفعل ثنائيةً ارتاح إليها كلا المجتمعين؛ إلى ذلك، أضافوا "ديونيسوس-أوزيريس"، و"إيزيس-أفروديت"، و"هيرمانوبيس، وهيرميس ترسميجستوس"، والأهم من ذلك بالنسبة للإسكندرية، "سيرابيس"، الذى خُصص له معبد سيرابيوم الإسكندرية، وهو مجمع معابد أُطلق عليه اسم "ابن مكتبة الإسكندرية"، مما يوحي بأنه كان أيضًا مركزًا للعلم.
كان "سيرابيس" مزيجًا من إلهين مصريين، "أوزوريس" و"أبيس"، ولكنه مُثّل بأيقونات يونانية بالكامل، كرجل قوى فى منتصف العمر فى ريعان شبابه، يُشبه "زيوس"، مع عناصر من عالم الأرض وإله الماء.
تعليقات