جروح الطفولة القديمة

 "جروح الطفولة" هو مصطلح يُستخدم بكثرة فى علم النفس، ولكن ما هى تحديدًا وكيف تؤثر علينا كبالغين؟

هذا ما ستحاول "إيما جرين" الإجابة عليه.

من السهل أن ننسى أننا كنا أطفال فى وقت من الأوقات. وإذا اعتقدنا أننا قد تجاوزنا مخاوفنا وخبراتنا من مرحلة الطفولة، فإن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. فشخصياتنا هى نسيج مركب من العديد من الذوات المختلفة، وهذا "الطفل الداخلى" الدفين فى أعماقنا، يلعب دورًا أساسيًا فى تكوين تلك الشخصية. 

إنه جزء من اللاوعى تعلمنا ان نكبته ونقوم بتجاهله.

ولكن من أو ما هو هذا الكائن المسمى "طفلنا الداخلى"؟ 

ببساطة، يمثل طفلنا الداخلى النسخة الأخرى من أنفسنا خلال سنوات تكويننا ومراهقتنا، إنه ذلك الجزء منا الذى لا يزال يتصرف ويتعامل كطفل. 

هذا الجزء لا يحتفظ فقط بتلك الذكريات والدروس والمشاعر التى مررنا بها فى طفولتنا، لكنه يحتفظ أيضًا بأفضل ما فينا من صفات الطفولة: البراءة والإبداع والفضول والخيال والأمل. ويمكن أيضاً أن يحتفظ بالسمات السلبية المرتبطة بعدم النضج، مثل العبوس والعجز والشقاوة.

غالبًا ما يُنسب مفهوم "الطفل الداخلى" إلى عالم النفس "كارل يونج"، الذى اقترح نموذجًا أوليًا للطفل الداخلى بغرض وصف الجوانب الطفولية فى شخصيتنا. 

يعتقد "يونج" أن هذا الجزء الشخصى منا، إلى جانب تجارب طفولتنا، هو ما يؤثر على سلوكنا كبالغين. 

كما يرجع الفضل إلى الكاتب وخبير التنمية الذاتية "جون برادشو"، فى أنه لفت الانتباه بشكل أوسع إلى هذا المصطلح، خاصةً فيما يتعلق بالكيفية التى يعبر بها "الطفل الداخلى" المجروح عن الآثار المستمرة غير المُعالجة لطفولة معقدة.

تجارب الطفولة المبكرة: 

أولئك الذين نشأوا فى بيئة أسرية حاضنة وعطوفة، تم فيها إحترام حدودهم وقبولهم ومنحهم الحب بغض النظر عن طبيعتهم، يميلون إلى تنمية "طفل داخلى" سليم ومتوازن. يتجلى ذلك فى قدرتهم على الثقة بأنفسهم والدفاع عن احتياجاتهم ورغباتهم. 

لكن للأسف، ليس هذا هو الوضع مع الجميع.

نحن كأطفال صغار نتأثر بسهولة بالبيئة المحيطة بنا، وبالتالى نستقبل بقدر كبير من الحساسية أى إشارات أو كلمات أو تعامل سلبى معنا. يمكن لجروح الطفل الداخلية، المعروفة أيضًا باسم جروح التعلق، أن تتطور نتيجة التعرض لصدمة أو إهمال. وإذا لم تُعالج هذه الجروح، فقد تُخلف آثارًا ضارة وطويلة الأمد فى مرحلة البلوغ - بحيث تصبح جاهزة للانفجار عندما نشعر بالتوتر أو الغضب أو الضغط.

غالبًا ما يُشار إلى الأحداث التى يمكن أن يكون لها تأثير ضار على الصحة العقلية والجسدية للطفل باسم تجارب الطفولة السلبية (ACEs). 

يتم تعريف تجارب الطفولة السلبية، على أنها أى "أحداث أو مواقف مرهقة للغاية وربما مؤلمة تحدث أثناء الطفولة و/أو المراهقة. 

يمكن أن تكون حدثًا واحدًا أو أكثر ، أو ان تكون تهديدات وانتهاكات لسلامة الشاب أو الفتاه أو أمنها أو ثقتها أو سلامتها الجسدية. 

يشمل ذلك التعرض فى مرحلة الطفولة للإيذاء البدنى أو العاطفى أو الجنسى؛ أو العيش مع أسرة تعانى من مشاكل تعاطى المخدرات أو مرض عقلى؛ أو التعرض للعنف المنزلى؛ أو فقدان أحد الوالدين بسبب الوفاة أو الطلاق أو الهجر. 

تشمل الأنواع الأخرى من الصدمات التى يمكن أن يكون لها تأثير عميق على أحاسيس الطفل، التعرض للتنمر من قبل أقرانه؛ المعاناة من الفقر المالى أو ظروف معيشية غير مستقرة؛ أو مشاهدة حدث مروع؛ أو تجربة اضطراب كبير فى الحياة.

أنواع مختلفة من الإساءة والإهمال:

إذا أردنا تصنيف الفئات الرئيسية لسوء المعاملة التى قد تُسبب جروحًا طفولية داخلية، فإنها تندرج تحت ثلاث فئات: جسدية، ونفسية، وعاطفية.

يعتمد الأطفال على الأهل لتوفير الغذاء والمأوى والحماية. وعندما لا تُلبّى هذه الاحتياجات بالقدر المعقول، يُمكن أن يُؤثّر ذلك تأثيرًا بالغًا على شعور الطفل بالأمن والأمان. 

تتراوح الإساءة الجسدية بين عدم كفاية الحصول على الطعام والدفء، وبين الوقوع ضحية للعنف. وقد يُؤدّى هذا إلى تطوير الشخص المُتضرّر لأساليب تكيّف غير تكيفية، مثل إدمان الطعام والمخدرات والكحول، أو الانخراط فى سلوكيات بحث عن الأمان بشكل مُفرط، مثل اضطراب الوسواس القهرى.

يُشير مصطلح الإساءة النفسية إلى أى معاملات سلبية، كالسبّ، والسخرية، والتلاعب النفسى، والصراخ، والتهديد، أو الانتهاك المستمر لحدود الطفل، مثل حرمانه من أى خصوصية.  

قد يشمل ذلك أيضًا العيش فى منزل تُفرض فيه عليها أو عليه توقعات عالية جدًا، بحيث يصبح من الطبيعى أن يُعاقب الطفل أو يتم السخرية منه باستمرار لعدم استيفائه هذه المعايير. النشأة فى بيئة كهذه يمكن أن تُغذى مشاعر غضب متأصلة، قد تتجلى لاحقًا فى مشاكل فى الحفاظ على علاقات صحية، أو فى مرض نفسى أو جسدى.

ومن مظاهر الإساءة العاطفية، عدم اهتمام الوالدين باحتياجات طفلهم العاطفية. إن عدم إظهار الحب أو المودة أو الدعم بانتظام قد يكون ضارًا، ويؤثر ذلك بشكل خاص على تقدير الطفل لذاته. ومن الأشكال الأخرى للإهمال العاطفى، عدم السماح للطفل بالتعبير عن مشاعره أو احتياجاته بشكل ٱمن دون خوف من العواقب. ومن ثم يكبر هؤلاء الأطفال ليصبحوا بالغين متضررين، ويتعلموا أنه يجب عليهم تجاهل مشاعرهم أو كبتها، أو السعى لطلب القبول من الآخرين من أجل تعزيز قيمتهم الذاتية.

مع ذلك، ليست الأحداث الصادمة الكبرى هى وحدها التى يمكن أن تتسبب فى تطور جروح الطفل الداخلية. بل أى موقف قد يشعر فيه الطفل بعدم الأمان أو الرفض أو الخجل، يمكنه أن يؤدى إلى مشاكل فى وقت لاحق من حياته. 

يمكن للأحداث التى تبدو تافهة، مثل تعليق عابر من أحد أفراد الأسرة، أو استبعاده من قبل أقرانه، أو مقارنته غير المواتية مع الأشقاء، أن تترك أثراً لا يمكن إصلاحه فى نفسية الشخص.

 وعلى الرغم من أنه طبيعى أن نشعر بالمرارة تجاه البالغين الذين خذلونا فى شبابنا، إلا أنه من المهم أن نتذكر أنهم، فى معظم الحالات، ونظراً لمستوى النضج العاطفى والمعلومات التى كانت متوفرة لديهم آنذاك، لم يكن بإمكانهم أن يقدموا أفضل من ذلك.

من السهل علينا أن ننسى أنهم فى النهاية كانوا نتاج بيئتهم، وأنهم على الأرجح تصرفوا بهذه الطريقة بسبب جروح طفولتهم الداخلية التى لم تُعالج أيضاً. 

لذا فمن غير المجدى محاولة البحث عن إجابات أو اعتذار من الأهل أو مقدمى الرعاية السابقين، خاصة إذا لم تكن لديهم القدرة على تقبّل أو الاعتراف بأى أخطاء ارتكبوها. 

لذلك فإن مسؤولية تهدئة ورعاية طفلنا الداخلى، تقع على عاتقنا نحن باعتبار أننا أصبحنا بالغين الآن.

علامات صدمة الطفل الداخلى:

الخطوة الأولى لشفاء طفلنا الداخلى لا تقتصر فقط على اكتشاف نوع الجرح الذى قد نعانى منه، بل تشمل أيضاً فهم أسباب ظهور مثل هذه الجروح فى سلوكنا. 

ترتبط أكثر أنواع جروح الطفل الداخلى شيوعًا بالهجران، والشعور بالذنب، والإهمال، وفقدان الثقة، وينبع كل جرح من تلك الجروح من نقطة ألم معينة من ماضينا.

يمكن أن ينشأ جرح الهجر من تجارب النبذ أو الرفض فى الطفولة. كما يمكن أن ينشأ من الشعور بالهجران من قِبل الوالدين البعيدين عاطفيًا، أو من وفاة أحد الأحباء أو مغادرته المنزل. 

يخشى من يعانون هذا النوع من الجروح كبالغين، من أن يُتركوا وحيدين، فيتطور لديهم لاحقًا سلوك احتياج أو تشبث. قد ينجذبون أيضًا إلى علاقات إعتمادية، فى محاولة لا شعورية منهم للتغلب على ألام ماضيهم. 

بدلًا من ذلك، قد يختار آخرون من من يعانون هذا النوع من الجروح أن يصبحوا أكثر استقلالية أو أن يقوموا عمدًا بتخريب علاقاتهم مع الآخرين، لتجنب المزيد من الهجر أو الرفض.

 أما جروح الذنب فقد تتطور  نتيجة النشأة فى بيئة يُجبر فيها الطفل على الشعور بالندم مرارًا وتكرارًا على أمور تافهة، أو تفرض عليه معايير متطرفة لما يُعتبر "جيدًا" و"سيئًا". 

يحمل هذا الطفل معه شعورًا دائمًا بالخطأ، بالإضافة إلى رغبة فى محاولة التعويض عن "سوءه"، حتى عندما لا يكون مخطئًا. 

يمكن أن يتجلى هذا فى سلوكيات مثل الإفراط فى الاعتذار، وتقديم احتياجات الآخرين على احتياجاته الخاصة، والسعى الدائم لوضع حدود سليمة، ورفض طلب المساعدة. 

فى بعض الأحيان، قد يلجأ الأشخاص الذين يعانون من هذا الجرح إلى الشعور بالذنب فى محاولة للتلاعب بالآخرين.

بالنسبة للأطفال الذين شعروا غالبًا بالتجاهل أو عدم الاهتمام فى صغرهم، فإنهم قد يصابون بما يُعرف بجرح الإهمال. يمكن للألم الناتج عن عدم رؤيتهم أو سماعهم أو شعورهم بأهميتهم أن يتراكم مع مرور الوقت ويعبر عن نفسه فى نوبات غضب مفاجئة، أو سلوكيات للفت الانتباه، أو عدم القدرة على التخلى عن بعض الأمور. 

قد ينعكس جرح الإهمال أيضًا فى انعدام تقدير الذات أو الانجذاب إلى علاقات أو مواقف لا يُقدَّرون فيها.

وتنشأ جروح قلة الثقة عندما يُلحق الأهل أو مقدمو الرعاية الأذى بالطفل، أو يفشلون فى حمايته من الخطر، أو يعجزون عن الوفاء بوعودهم. 

يمكن أن يؤدى هذا النقص فى الأمان إلى صعوبة فى الثقة فى الآخرين، وتجنب المواقف التى قد يتعرضون فيها للأذى، أو الاعتماد بشكل كبير على القبول والموافقة الخارجية. كما يمكن أن يؤدى إلى رغبة قهرية فى السيطرة للتعويض عن مشاعر الضعف وانعدام الأمان. 

مع ذلك، فالأشخاص الذين يعانون من هذه الجروح تحديدًا يميلون إلى جذب أولئك الذين يجعلونهم لا يشعرون بالأمان أو الذين يفشلون فى الوفاء بوعودهم، مما يساهم فى استمرار دورة الخيانة وانعدام الثقة.

 من الممكن أن يكون لدى الشخص عدة جروح طفولية داخلية أو أن يعبر الجرح عن نفسه بطرق مختلفة، مثل إرضاء الناس؛ أو المعاناة من "متلازمة الإنجاز المفرط"؛ أو السعى إلى الكمال؛ أو تجنب الصراع؛ أو التطبيع مع السلوك المسىء؛ أو استخدام العدوان كحل للمشاكل.

الاعتراف بطفلنا الداخلى:

يمكن لأى شخص أن يقوم بالتصرف كطفل، خاصةً عند الشعور بالألم أو الغضب أو خيبة الأمل - ولكن إذا كنا نعتاد أن نعود مرارًا وتكرارًا إلى تلك الأنماط غير الصحية لنتمكن من البقاء كأطفال، فعلينا أن نبدأ فى معالجة هذه الجروح العميقة التى تتسبب فى سلوكنا.

باتخاذ قرار التعامل مع "الطفل الداخلى"، نبدأ ليس فقط فى ترسيخ الشعور بالأمان الذى افتقرت إليه بشدة ذواتنا الصغيرة، بل نبدأ أيضًا فى توفير الأشياء التى كنا نحتاجها فى ذلك الوقت -  مثل الحب والاهتمام والاحترام وما إلى ذلك. 

إن العديد من السلوكيات والمشاكل المدمرة التي نواجهها كبالغين تنبع من اتخاذ القرارات ورؤية الحياة من منظور طفل مجروح. لذا، فإن شفاء طفلنا الداخلى هو أحد أعمق أشكال العلاج الداخلى الذى يمكننا القيام به، ليس فقط لتحسين علاقتنا بأنفسنا والآخرين، ولكن أيضًا لأنه يضع حدًا لانتقال الصدمات بين الأجيال.

 عندما نبدأ بالاعتراف بطفلنا الداخلى وإظهار مشاعر الفهم واللطف له، يُمكننا إطلاق العنان للعديد من الإمكانات غير المتوقعة التى قد يُقدمها لنا هذا الجزء من شخصيتنا، مثل قدرتنا اللامحدودة على الحب وحماسنا اللامحدود. 

أما عندما نختار كبت طفلنا الداخلى أو تجاهله، فسنظل نشعر بالملل والفراغ والانفصال عن الحياة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة