عارٍ _ قصة الروائية اليابانية،فوميو ياماموتو

 الترجمة من اليابانية: بريان بيرجستروم

الترجمة إلى العربية: حازم فرجانى


أصبحت فى الأونة الأخيرة مهووسة بحياكة الحيوانات المحشوة. كنت قد رأيت دُبًا لطيفاً، فذهبت لمتجر العاديات الذى يبيعون فيه الخيوط والإبر والأشياء الصغيرة الأخرى التى أحتاجها لصنعها. استهوانى الامر، فصنعت فى الليلة نفسها ضفدعًا، ثم عدت فى اليوم التالى واشتريت المزيد: وصنعت كلب، فيل، قطة... صنعت واحدة كل ليلة حتى أنهيتهم جميعًا. بعد ذلك، اشتريت خيوطًا وقطعًا من القماش وبعض الأزرار لاستخدامها كعيون. اكتشفت هذه الخدعة بعد صنع المجموعة الرابعة تقريبًا، لذا أردت صنع تصميماتى الخاصة. لكن يبدو أننى فقدت بعد ذلك كل ذرة إبداع إمتلكتها، ففرس النهر الذى صنعته لم يتحول إلى شىء لطيف على الإطلاق. لذا ذهبت إلى مكتبة واشتريت دليل "بوكيمون"، وبدأت أصنع واحداً من تلك الوحوش تلو الآخر، بدءًا من "بيكاتشو". 

كنت منغمسة جدًا فى نشاطى الجديد حتى أننى نسيت النوم نسيت الأكل، وخرج الوحش تلو الآخر: "جيجلى باف"، "توجيباى "سايكدوك"، "بولباسور"، "تشارمندر"، "سكويرتل"، "إيفى"... لكنى سرعان ما مللت منهم أيضًا. لذا، ظننت أنه من الأفضل محاولة صنع نسخة محشوة من حيوانى الأليف الافتراضى "مومو". فشغلت جهاز الكمبيوتر لأول مرة منذ فترة، ورأيت أن هناك أكثر من عشرين رسالة بريدية تنتظرنى فى صندوق الوارد.

فى وقت ما كنت مهووسة أيضًا بـ "بوست بيتس"، هذه الشخصيات الحيوانية الصغيرة التى تقوم بتسليم بريدك الإلكترونى. معظم رسائلى كانت من أصدقاء افتراضيين تعرفت عليهم عبر موقع "بوست بيتس"؛ لم أكن أعرف أسماءهم الحقيقية ولم أرَ وجوههم الحقيقية أبدًا. كانت حيواناتهم – دببة، سلاحف، هامسترات – تظهر وتختفى، تاركة وراءها الرسائل. 

الرسائل نفسها لم تكن ذات أهمية كبيرة، ولكن الهدف هو جعل حيواناتك الأليفة تسلم وتستلم الرسائل، لم يكن ذلك يشعرنى بالرضا، لكنه لم يشعرنى بخيبة الأمل أيضًا. 

فى ذلك اليوم، كان هناك دب يدعى "موموتارو" من منزل "أسوكا" ينتظرنى فى صندوق الوارد.

"سأكون فى "شينجوكو" يوم السبت القادم للتسوق من أجل مهرجان بون، هل ترغبين فى تناول الغداء معى؟" بعد حساب الأيام من تاريخ الرسالة، كان "يوم السبت القادم" هو الغد. فكرت: ربما يجب أن أتصل، لكننى تذكرت مدى انشغالها, فقررت بدلًا من ذلك إرسال رد عبر البريد الإلكترونى. "أى وقت وأى مكان سوف يناسبنى." 

اتصلت "أسوكا" بعد أقل من ساعتين.

- "لقد مر وقت طويل! كيف حالك؟ عندما لم أتلقَ ردًا، ظننت أنك مشغولة وقررت ألا أزعجك." 

بدت وكأنها ما زالت غير معتادة على فكرة أن لدى الكثير من وقت الفراغ.

- "لم أكن مشغولة. كيف يمكن أن أكون كذلك؟ أنا لا أفعل أى شىء."

كنت أقصد أن أقول ذلك بخفة، لكن "أسوكا' صمتت، وكأنها فى حيرة. أسرعت لشرح نفسى:

- "فى الواقع، الأسبوع الماضى انشغلت بعمل شىء ما وأثر ذلك على نومى، لذا تأخرت فى التحقق من بريدى الإلكترونى. لم يكن عملًا أو أى شىء مهم، لكنه استهلك وقتى."

- "ماذا كنت تفعلين؟"

- "أنا أصنع حيوانات محشوة! بعضها تحول بشكل جيد جدًا، أود أن أريكها."

لم يكن هناك رد. فتظاهرت بعدم الملاحظة وواصلت الكلام. 

- "أى وقت نلتقى غدًا؟ سأضبط وقتى وفقًا لجدولك."

تنهدت "أسوكا". 

- "لا أعرف إن كان على أن أكون سعيدة أم حزينة لسماع ذلك منك."

قررنا وقتًا ومكانًا. وجدت أننى لست سعيدة بشكل خاص ولا حزينة بشكل خاص. شعرت فقط بالفراغ.

في البداية، بدا وصف "عاطلة، 34 عامًا" وكأنه تهمة جنائية، لكنى اعتدت عليه بسرعة. فى الواقع، كانت قدرتى على التكيف بهذه السهولة تثير دهشتى. الآن أنا أعيش هذه الهوية – التى تم تحديثها إلى "عاطلة، 36 عامًا" – بكل جوارحى.

مرت سنتان منذ أن أخبرنى زوجى أنه يريد الطلاق، وبما أننا كنا ندير شركته معًا، فقد انتهى بى الأمر إلى فقدان وظيفتى أيضًا. طبعاً، تعاملت مع الأمر بشكل سىء، إلا أن فترات الاحتجاج الغاضبة ونوبات البكاء كانت قصيرة، ووافقت على استلام المبلغ المتفق عليه، وإزالة اسمى من السجل العائلى بسهولة أدهشتنى أنا نفسى.

هكذا استمرت هذه الحياة، حياة عدم اليقين، لكن دون أن أغرق تمامًا فى الاكتئاب أو اليأس. 

بينما أنظر من النافذة وأنا مستلقية على السرير، كنت أرى المبانى العالية فى الخارج محاطة بالمطر المتساقط. كان شهر يوليو، لكن الأمطار استمرت.

قبل ستة أشهر، كنت مهووسة بصنع ملابس معقدة لدمى الدببة، وانتهى بى الأمر بإعطائها جميعًا لأسوكا من أجل أطفالها. خطر لى أننى يمكن أن أفعل الشىء نفسه مع وحوش "بوكيمون" التى صنعتها، لكن فى اللحظة التى فكرت فيها فى ذلك، شعرت بفقدان أى رغبة فى صنع المزيد. 

لطالما كنت متقلبة المزاج، ولكن الآن بعد أن أصبحت حياتى مليئة بوقت الفراغ، أصبح هذا الميل حتى أسوأ. مع ذلك، فالاستسلام لأى رغبة عابرة قد تراودك يمكنه أن يشعرك بالرضا.

يمكننى القول أننى، رغم كل الصعاب، كنت سعيدة.

فى اليوم التالى، تناولت الغداء مع "أسوكا" فى مطعم يقع بين المبانى العالية التى كنت أراها من نافذتى. قلت، وأنا أسلمها حقيبة ورقية مليئة ببوكيمون التى صنعتها.

- "هذا لابنتك الصغيرة"

لكنها لم تبد ممتنة كما كانت عندما أعطيتها ملابس دمية الدب.

- "أوه! إنه "بيكاتشو"، من "بوكيمون"... أوه، رائع! هل أنت متأكدة أنه يمكننى أخذها إلى المنزل؟"

- "أوه، لقد صنعتها فقط لقتل الوقت، كما تعلمين."

لم أكن افكر فى أى شخص أثناء صنعها، بل كنت حتى أفكر فى التخلص منها يوماً ما فى القمامة، لذا إذا قررت "أسوكا" بهدوء أن ترميه، فلن أهتم.

"أسوكا" كانت صديقة طفولة، الصديقة الوحيدة من المدرسة الابتدائية التى ما زلت على اتصال بها. أم عاملة لطفلين، انتقلت الآن من العمل بدوام جزئى إلى دوام كامل بعد أن بدأت طفلتها الأصغر المدرسة، لكنها كانت على أى حال تجد وقتًا للقائى بين الحين والآخر. فى السابق، كنت أنا التى كانت تواجه صعوبة فى إيجاد الوقت.

قالت:

- "كيف حالك؟ تبدين نحيفة بعض الشىء."

- "حقًا؟"

- "لون بشرتك ليس جيدًا."

- "أنا لا أضع أى مكياج، هذا كل شىء."

كنت أعلم كم قد أبدو مهملة، وأنا جالسة فى هذا المطعم الملىء بالطاولات المغطاة بملاءات بيضاء ناصعة ومزينة بأدوات فضية حقيقية. كانت "أسوكا" ترتدى ملابس بسيطة، بلوزة صوفية صيفية؛ كان شعرها مرتبًا ومكياجها متقن؛ قلادة من اللؤلؤ تلمع من طوقها المفتوح. كنت أرتدى تى-shirt باهتًا وزوجًا من السراويل الواسعة التى تمددت حول الخصر. لم أعد أستطيع شراء ملابس لا يمكن تنظيفها فى الغسالة. كان من المفترض أن تكون "أسوكا" هى المتعبة، لكن كنت أنا التى لم أكن حتى أتعب نفسى بإخفاء الهالات السوداء تحت عينى.

- "هل ما زلت تتلقين إعانة البطالة؟"

- "أوه، لا. لقد انتهى ذلك منذ فترة."

- "حسنًا، ربما حان الوقت للبحث عن شىء ما، حتى لو كان فقط لتصفية ذهنك."

كنت أعلم أنها تختار كلماتها بعناية، وضحكت ضحكة مريرة.

- "سأفعل، سأفعل. لدى ما يكفى للعيش لفترة أطول، أنا بخير."

- "المال مهم بالطبع، لكنه ليس الشىء الوحيد..."

رفعت كوب الماء إلى شفتيها. كنت أعرف ما الذى يمكننى أن أقوله لتهدئتها، لكننى قررت قول شىء آخر.

- "لقد تعبت من صنع الحيوانات. أعتقد أننى سأحاول صنع اليوكاتا هذا الصيف."

- "ربما عليك أن تنحتى الممحاة إلى أشكال صغيرة!"

خفضت عينى إلى الطبق، لقد أصبح الجو فجأة متوترًا، وبدأنا نأكل من أطباق السمك بأسنان الشوكة. ثم بدت على "أسوكا" تعبيرات وكأنها فكرت فى شىء ما.

- "لماذا لا تنشئين موقعًا لبيعها؟ إذا كنتِ قد صنعتِ كل هذه الأشياء الجميلة بالفعل."

- "إنها بالكاد 'أشياء جميلة'، مجرد نسخ مقلدة سخيفة."

لم تحاول حتى إخفاء تنهدها، وكأنها قررت أن أى كلمة تقولها لن تجد صدى. ارتسمت على وجهها ابتسامة أمومية. 

- "ليس من السهل العودة إلى المسار الصحيح، أليس كذلك؟ أنا آسفة. سأترك الأمر لك."

كنت فى السابق أنا التى تستمع إلى مخاوف "أسوكا" حول عملها وعائلتها، لكن فى مرحلة ما تحولت أنا إلى تلك الأخت الصغرى وغير المستقرة. 

هل إذا لم أعد أبدًا إلى كونى تلك المرأة العاملة المنشغلة التى ترتدى البدلة وتلغى مواعيد الغداء مرتين أو ثلاث مرات لكل موعد نحدده، فهل سترانى "أسوكا" حينها باننى "عدت إلى المسار الصحيح"؟ 

رغم أننى طلبت منها ألا تفعل، إلا أن"أسوكا" أصرت على الدفع. يبدو كونى عاطلة يعنى أن يتم دعوتى لكل وجبة. فى البداية، كان ذلك يؤذى كبريائى، لكن إثارة الضجة حول ذلك كانت أمرًا مزعجًا أيضاً، لذا تقبلت الأمر. 

ماذا ستقول "أسوكا" إذا أخبرتها أن صديقتها التى تجلس أمامها، والتى كانت تدعوها لتناول غداء فاخر فى مطعم فرنسى، هى عاطلة باختيارها ولديها عشرون مليون ين فى البنك؟ ربما ستقول فقط: "ستحتاجين هذا المال لتقاعدك، فلا تبدديه الآن."

افترقنا، ووعدنا بأن نرسل بريدًا إلكترونيًا لبعضنا البعض، ثم وجدت نفسى دون شىء محدد لأفعله لتمضية بقية اليوم، فانتهى بى الأمر بالذهاب إلى مقهى "مانجا*". لم يكن ذلك لأننى أحب "المانجا" كثيرًا، بل لأننى بعد أن فقدت وظيفتى وطموحاتى، فقدت أيضًا قدرتى على قراءة الكتب العادية. يتطلب الأمر جهدًا لاتباع الكلمات المطبوعة وفهمها، وتحويلها إلى صور فى ذهنى.

*[(المانجا) هى قصص مصورة يابانية، تتحدث عن كل المواضيع تقريبًا (الرومانسية، المغامرات، الخيال العلمى، الكوميديا، إلخ]

كان هناك مقهى معين أحبه، يقع فى الطابق الثانى من أحد المبانى المليئة بالعديد من الأعمال الصغيرة التى كانت تتغير باستمرار، حيث يتحول ما كان فى السابق بازارًا للملابس الداخلية، إلى صالة تدليك بعد خمس عشرة دقيقة. فى الآونة الأخيرة، بدا أن كل مبنى الآن يحتوى على الأقل على مقهى "مانجا" واحد. لفترة من الوقت، كنت أتجول فى كل مقهى جديد يظهر، لكن اتضح أن أول مقهى جربته كان يحتوى على أكبر مجموعة "مانجا" وأكثر الموظفين لباقة. كان يمكنك شرب قهوتهم  بدون حدود، وهى ليست سميكة كالعجين، وبما أن أسعارهم كانت مرتفعة قليلاً، فالزبائن يميلون إلى أن يكونوا أكبر سنًا. لكن ما جعلنى فى النهاية أقرر الاستمرار فى زيارتهم، كانت تلك الأريكة البيضاء النظيفة فى الغرفة الرئيسية.

فى ذلك اليوم، وجدت مجموعة كاملة من "بوذا" ل"أوسامو تيزوكا". عندما كنت أبحث عنها من قبل, كانت المجلدات الأولى منها محجوزة دائمًا. 

استعرت المجموعة بأكملها. وسرعان ما انغمست فى القراءة لدرجة أننى نسيت أن أشرب قهوتى. بعد حوالى المجلد الثالث، انقطع خيط تركيزى، ونظرت من النافذة لأجد أن الظلام بدأ يخيم.

تم استبدال الموظفين الذين كانوا يعملون من حولى بعدد متزايد من الشباب الذين بدوا كطلاب. تساءلت بينما كنت أشرب قهوتى هل يجب أن أعود إلى المنزل، أم أنهى قراءة "بوذا"؟ . لقد تناولت بالفعل غداءً جيدًا، لذا لم أكن جائعة، ولم يكن لدى أى خطط. تجولت عيناى بين الأرفف. لاحظت "مايزون إيكوكو"، بمجلداتها المرتبة فى صف صغير، وتذكرت أننى بدأت قرأة هذه السلسلة مرة عندما كنت طالبة. قررت فجأة أننى سأقرأها بعد ذلك، ولكنى كنت أرغب فى إنهاء "بوذا" بسرعة. انتهى بى الأمر بالبقاء حتى وقت متأخر من الليل، وهكذا مشيت عشرين دقيقة للوصول إلى المنزل، محاطة بالسكارى فى الطريق.

خطر لى أننى لم أعرف أبدًا المعنى الحقيقى لامتلاك وقت فراغ، ولا كيف يكون هذا الشعور. بالطبع، شعرت بالملل من قبل مرات لا تحصى – كمراهقة، وأنا أجلس فى فصل مدرس ممل؛ أو فى الجامعة، وأنا أُجبر على حضور لقاءات التعارف؛ أو حين كنت أعمل فى شركة استيراد وتصدير، وأنا محاصرة فى اجتماعات تستمر بلا نهاية، وأكتم التثاؤب بينما أتظاهر بالاستماع وأخطط لشىء أكثر أهمية فى رأسى.

لفترة طويلة أعتقدت أن هناك نوعان فقط من الوقت، الوقت الذى لا معنى له والوقت الذى له معنى. فى المدرسة الثانوية، كان الوقت كله يدور حول القلق بشأن امتحانات القبول، لكن بمجرد دخولى الجامعة، بدأت أستمتع قليلاً؛ ومع ذلك، لم أنسَ أبدًا التركيز على الاختبارات التى كان على اجتيازها والأوراق التى كان على كتابتها. كان الطلاب الآخرون يطلبون استعارة كراساتى، وعلى الرغم من أننى علمت أنهم يضحكون من وراء ظهرى، وانهم يتندرون حول مدى اجتهادى، إلا أننى كنت  أعطيها لهم بابتسامة عريضة. كانت رؤية أولئك الذين يسخرون منى، وهم يذلون أنفسهم لكسب رضاى قد أصبحت سعادتى السرية.

تقدمت بطلب للحصول على وظيفة فى شركة استيراد وتصدير متوسطة الحجم بدلاً من شركة كبيرة، ظننت أن ذلك سيكون أسرع طريقة لأصبح مكتفية ذاتيًا. وكنت محقة – فقبل وقت طويل، تم منحى المزيد والمزيد من المسؤوليات. كان من الواضح أن مخططاتى العملية ناجحة، وكانت الأرباح تتزايد، لكنى سرعان ما فقدت "نفسى" فى دوامة الاستمتاع بالنجاح. كنت أحصل على الافكار الجديدة بسهولة، ولم أعانى أى مشقة فى فعل كل ما يتطلبه الأمر لتحقيقها – بغض النظر عن مقدار ما أبذل من بحث، أو تملق، أو سهر.

لم يتغير أى من ذلك عندما قابلت زوجى، فقد تركت وظيفتى لأعمل معه. كنت أحب العمل وأكره الكسل. كانت تلك طريقتى البسيطة لاثبات الوجود. لم أكن أتردد أبدًا، ولا حتى مرة واحدة. 

قبل الطلاق مباشرة، اشتكى زوجى من ما أسماه أسلوب حياتى "الفارغ، والجشع للمال". فى ذلك الوقت، لم يكن لدى أى فكرة ما الذى كان يتحدث عنه.

حتى الآن، لا أرى أن ذلك الرضا الذى شعرت به آنذاك كان وهما، لكن ما لم يخطر ببالى أبدًا، هو أن ما أعتبرته حينها أرضًا صلبة، يمكن فى الواقع أن يكون مجرد شيئاً هشًا وضعيفًا، كأنه طبقة من الجليد. وعندما تشققت، ظننت أننى سأغرق حتى الموت. بدلاً من ذلك، وجدتنى أطفو على سطح هذا الماء الفاتر المسمى "وقت الفراغ". كان التمادى فيه أسهل مما تخيلت، وفى هذه المرحلة فقدت أى دافع قوى بما يكفى ليجذبنى للخروج.

كانت شقتى المتهالكة المكونة من غرفة نوم واحدة فى غرب "شينجوكو" غارقة فى رطوبة الموسم، وبدأ العفن ينمو على ورق الحائط المتقشر. الجدران الخرسانية كانت متشققة، والأثاث فى المطبخ رثًا ورخيصًا، لكنه كان ملكى، اشتريته بمالى الخاص. حياتى هنا أكثر استرخاءً بكثير من تلك التى عشتها فى تلك الشقة الفاخرة فى الطابق العلوى التى شاركتها مع زوجى. وجدت هذا المكان عندما غادرت، عن طريق إعلان فى الصحف؛ وبالمبلغ الذى حصلت عليه من التسوية، استطعت شراء الشقة نقدًا، ففعلت. لم أندم على ذلك، لكننى الآن أتساءل، ما الذى كنت أخشاه لدرجة أننى شعرت بالحاجة لتأمين سقف فوق رأسى، بغض النظر عن مدى تدهور حالته. بالتأكيد كان بإمكانى العثور على شىء أفضل بنفس السعر فى الضواحى، لكن فكرة مغادرة وسط المدينة لم تخطر ببالى أبدًا. العيش فى مبنى سكنى فى الضواحى محاطة من كل جانب بعائلات سعيدة ومحترمة كان سيدفعنى للجنون على أى حال.

من وقت لآخر، كنت أصادف شخصًا آخر يرتدى تى-shirt وجينز ، مع حقيبة بلاستيكية من متجر صغير معلقة فى يده، ينتظر المصعد مثلى. لن أعرف أبدًا من يكون، لأننا كنا نتجنب بعناية تبادل التحيات أو حتى النظرات؛ مثل زوجين يصادفان بعضهما فى أحد فنادق الحب، كنا نسرع للهروب من نظر بعضنا البعض بأسرع ما يمكن.

منذ أن تركت المدرسة، كانت لدى دائماً قائمة بالأشياء التى أريد القيام بها إذا ما حصلت على بعض الوقت، والآن يبدو أن كل ما أستطيع فعله هو إضاعة الوقت. العمل الذى كنت أديره مع زوجى هو بيع الحرف اليدوية التقليدية وأشياء من هذا القبيل، وكنت ارغب دائما فى زيارة الأماكن المختلفة التى تُصنع فيها هذه الحرف. كنت أريد التواصل مع "معلم شاى" أو "معلم تنسيق زهور" لإنشاء برنامج صغير يعطى السائحين لمحة عن الفنون اليابانية التقليدية. كنت أرغب فى الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أكثر من مرة فى الشهر، كنت أرغب فى الذهاب إلى ال "SPA" للحصول على عناية بالبشرة، كنت أرغب فى السفر إلى الخارج أكثر، كنت أرغب فى التسوق – كنت أرغب وأرغب وأرغب إذا ما حصلت على الوقت.

لكن بمجرد أن حصلت على الوقت، فقدت كل هذه الأنشطة معناها. وبمجرد أنى لم أصبح فى موقع يؤهلنى للتأثير على عمل زوجى، توقفت كل المكالمات من الأشخاص الذين كانوا يتنافسون على لفت انتباهى. اتضح أننى كنت أشعر بالحاجة إلى ممارسة الرياضة فقط، لأن زوجى يحب ذلك. لم أعد أرغب فى شراء الملابس المصممة، أو العلاجات التى تحافظ على شبابى. 

اتضح أن "أنا" الحقيقية لم تكن تحب الخروج من المنزل على الإطلاق.

أو ربما كان الأمر أن وجود كل هذا الوقت، بهذا الشكل المفاجئ جعلنى أشعر بالحيرة . 

هل "أنا" القديمة التى كانت تكره الخسارة قد استنفدت طاقتها، وهى الآن مختفية فى مكان ما؟ أم أننى كنت أدفع نفسى بقوة منذ البداية، وأن "أنا" الكسولة هى حقيقتى فى الواقع ؟

تناولت برجرًا فى مطعم وجبات سريعة قريب وعدت إلى مقهى المانجا. ملأت كوبًا من القهوة، ووضعت المجموعة الكاملة من "مايزون إيكوكو" على الطاولة، وبدأت فى قراءة مجلد تلو الآخر. أخذت قيلولة واحدة، وذهبت إلى الحمام مرتين، وأعدت ملء قهوتى ثلاث مرات. عندما انتهيت، نظرت إلى الساعة متوقعة أن يكون الوقت هو حوالى العاشرة مساءً، لأرى أنه كان قد تجاوز الثالثة صباحًا. كان المقهى مليئًا بالسكارى الذين فاتهم آخر قطار للعودة إلى منازلهم. فكرت فيما إذا كان على المشى إلى منزلى. لقد كان الأمر غير مريح الليلة الماضية، لذا ربما كان من الأفضل الانتظار هنا حتى تبدأ القطارات فى العمل مرة أخرى وتُفرغ المكان من هؤلاء المحتفلين العالقين.

تركت الأريكة لأحضر مجموعة من الكوميديا الخفيفة، وعندما عدت وجدت فى المقعد المجاور لى موظف شاب، محمر الوجه، فى حالة سكر شديد. 

كان هناك شىء ما مألوف فى ملامحه المسترخية من أثر النوم. كان جبينه يتجعد ويئن بهدوء من وقت لآخر، وكأنه يحلم بحلم سىء. وبينما كنت أتسأل من أين أعرفه، فتح عينيه فجأة. فى نفس اللحظة التى التقت فيها نظراتنا، انطلق باعتذار. نظر العملاء الآخرون إلينا، على الأقل أولئك الذين كانوا لا يزالون مستيقظين. نظرة الارتباك على وجهه أعادت كل شىء إلى ذاكرتى – كنت أعرف بالضبط من يكون. سألنى: 

- "إيزومى؟ هل هذا أنت؟" .

جلست بجانبه دون أن أجيب.

- "ماذا تفعلين فى مكان مثل هذا؟"

قلت: 

- "أى نوع من الرجال هذا الذى يبدأ بالاعتذار بمجرد أن يرى وجهك؟" 

كنت مديرته لفترة وجيزة فى الشركة التى عملت فيها فى وظيفتى الأولى. وإذا كنت أتذكر جيداً، كان أصغر منى بحوالى خمس سنوات،  وغير كفء إلى حد ما – أتذكر أننى اضطررت إلى توبيخه كثيرًا. لم أستطع تذكر اسمه.

- "لقد كنت أحلم بمشرف يصرخ فى وجهى، ثم فتحت عيناى وإذا بإيزومى تنظر  مباشرة إلى!"

- "آسفة على ذلك."

- "ولكن حقًا، ماذا تفعلين هنا؟"

لم يكن هناك تفسير سهل لأعطيه له، ولم أرغب فى الخوض فى الأسباب الحقيقية مع شخص بالكاد أعرفه.

- "كم سنة مرت؟ لقاؤك هنا هكذا، يبدو وكأنه قدر أو شىء من هذا القبيل، أتعلمين؟ هل تنتظرين أول قطار أيضًا؟"

تقريبًا كل من يأتى إلى مقاهى المانجا يأتى بمفرده، ونتيجة لذلك، عادة ما تكون أكثر هدوءًا من المكتبات. كان صوته الذى تضخم بسبب الكحول يرتد عن الجدران. شعرت بالحرج، فنهضت من مقعدى.

- "مهلا – أتغادرين بالفعل؟"

تبعنى بينما كنت أذهب لتسديد الحساب.

- "من الخطير على امرأة أن تكون  بمفردها فى "كابوكيتشو" فى هذا الوقت، سأحضر لك تاكسى."

أدرت له ظهرى، واندفعت بسرعة لفتح الباب للهروب، لكنه تبعنى بينما كنت أنزل الدرج إلى الشارع، وانتهى بى الأمر بالتعثر على الرصيف. كنت أشعر بالدوار.

أسرع نحوى، ومد يده لمساعدتى، فوجدت نفسى أنظر إلى وجهه. كان وجهًا شبابيًا، يشبه وجه كلب صغير. أمسكت بيده وسمحت له بسحبى للوقوف على قدمى. تملكنى شعور غريب فى صدرى – شعور مؤلم من الحنين. سألنى: 

- "أنا جائع جدًا. هل نذهب لتناول الرامن؟"

أدركت شيئين بينما كان يقول هذا. الأول أن الحنين المؤلم الذى شعرت به كان كبريائى، يبدو أنه بعد كل هذا الوقت، مازال قادرًا على أن يُجرح مرة أخرى. والثانى أن سبب سقوطى على الدرج هو أننى كنت جائعة جدًا.

اسم الشاب كان "كينتا أوبارا". أوه، هذا صحيح، هكذا تذكرت بينما كنت أنظر إلى بطاقة العمل التى وضعها على المنضدة فى مطعم الرامن. كان هناك شاب آخر فى قسمه فى الشركة يدعى "كينيتشى أوبارا"، لذا كان الجميع ينادون كينيتشى "كين الكبير" بينما "كينتا"، الذى كان أقصر وأصغر، أصبح "كين الصغير". أشارت البطاقة إلى أنه يعمل الآن فى قسم  خدمة العملاء لشركة تصنيع أجهزة.

سألت بينما كنت ألتهم النودلز، حيث لم يكن لدينا أى شىء آخر نتحدث عنه.

- "هل تركت شركتنا القديمة؟" 

- "نعم، بعد وقت قصير من مغادرتك. المشرف بعدك كان أقسى مئة مرة منك، وأصبت بالتوتر لدرجة أننى أصبت ببقعة صلعاء في رأسى بحجم عملة خمسمائة ين. ظننت أننى إذا لم أغادر سأموت، لذا..."

قلت فى سرى "أستموت، فقط بسبب مشرف صارم؟" ، وأشار "كين الصغير" بعيدان الطعام نحو وجهى. 

- "أترين؟، يا إلهى، يا له من مشرف جبان، أليس كذلك؟"

لم أشعر بالحاجة إلى مراعاة الأدب العام معه فى هذه المرحلة.

- "ولكن".

رد بسرعه:

- "أنا هو الجبان، سأعترف بذلك. أنا خاسر، لست سوى كلب مذعور بذيل بين ساقيه،" قال ذلك بقدر مفاجئ من السعادة . 

- "وماذا عنكِ، "إيزومى"؟ لقد تزوجتِ، أليس كذلك؟ نسيت اسمك الجديد، أعتذر. ما زلت أتذكر اسمك الأول، روكو. روكو إيزومى، دائمًا ما ظننت أنه اسم جميل، منذ المرة الأولى التى سمعته فيها."

استمر "كين الصغير" فى الكلام، فى حين أن كمية الرامن فى وعاءه لم تتناقص. كنت قد أنهيتُ وعائى بالفعل، ومسحت فمى بمنديل من جيبى.

- "مهلا، هل يمكننى استعارة واحدة من تلك؟"

ناولته منديل ورقى، فأنف بصوت عالٍ ثم وضعها فى جيب بذلته وعاد إلى النودلز. وضعت يدى على خدى وراقبته. كانت بذلته  رخيصة، وربطة عنقه فضفاضة. لكن أظافره كانت لا تشوبها شائبة. بإلقاء نظرة خاطفة تحت المنضدة، رأيت أن حقيبته تبدو قديمة ومهترئة، بينما كانت أحذيته مصقولة بشكل مثالى.

سألته، متجاهلة كل ما كان يقوله:

- "إذن، أى نوع من العمل تقوم به الآن؟" 

- "خدمة العملاء. حسنًا، فى الحقيقة، أقضى معظم وقتى فى الاستماع إلى شكاوى الناس، وإرسال أشخاص لإصلاح الأشياء. أحيانًا على أن أقوم بالإصلاح بنفسى. يتم استدعائى، ويصرخون فى وجهى، فينتهى بى الأمر إلى إصلاح الشىء، ثم أنحنى، أعتذر. وهكذا تستمر الأمور يومًا بعد يوم."

رمقنى بنظرة أخرى كانت أقل إحباطًا من كلماته، ثم أكل بقية ما تبقى فى وعاءه. للمرة الأولى فى تلك الليلة، بدا خجولًا. بدا أن سكره قد خف قليلاً الآن بعد أن تناول بعض الطعام، ولم يكن متأكدًا مما يجب فعله بعد ذلك.

- "هل يمكننى أن أسألكِ شيئًا؟"

قاومت التثاؤب بينما أومئت برأسى.

- "أين تعيشين؟ ماذا تفعلين فى مكان مثل هذا، فى وقت مثل هذا، تأكلين الرامن مع شخص مثلى؟ ألن يكون زوجكِ غاضبًا؟"

- "أعيش فى غرب "شينجوكو"، على بعد حوالى عشرين دقيقة سيرًا على الأقدام. وأنا آكل الرامن معك لأنك دعوتنى، يا "أوبارا". ولقد طلقت منذ العام قبل الماضى، لذا زوجى لم يعد يغضب بغض النظر عما أفعله، أو متى أفعله، أو أين أفعله."

حاولت أن لا تكون هناك أى نبرة فى صوتى، محاولة أن أبدو عادية قدر الإمكان. ومع ذلك، فقد تشنج "كين" الصغير قليلاً.

- "حان الوقت لتبدأ القطارات فى العمل مرة أخرى. لديك عمل اليوم، أليس كذلك؟ يجب أن تذهب إلى المنزل."

حاولت أن أقول هذا بألطف طريقة ممكنة، لكن "كين" الصغير كان لا يزال يرمش فى وجهى. أخيرًا، عاد إلى نفسه قليلاً وقال: 

- "إيزومى، ماذا تفعلين الآن؟"

- "لا شىء. أنا عاطلة عن العمل."

- "لا! "إيزومى" العظيمة...؟"

شعرت بوخزة بينما يتعرض كبريائى لضربة أخرى. شكرنا الرجل خلف طاولة الحساب، وتلمس "كين" الصغير محفظته. أخبرته أن الأمر على ما يرام، لكن دون جدوى: تمت دعوتى إلى وجبة أخرى.

شعرتُ أن كلمة "خاسر"، التى استخدمها "كين" الصغير لوصف نفسه، تتردد فى ذهنى أكثر وأكثر. 


كان نائمًا بجانبى على سريرى البسيط، ملتفًا بجانبى، يعانقنى. فتحتُ عيناى لأجد نفسى فى هذا الوضع، محتضنة بإحكام كما لو كنت طفلة وبما أننى لم أستطع النهوض دون إزعاجه، استسلمت للتحديق فى السقف.

بعد الوجبة، أصر "كين" الصغير على مرافقتى إلى المنزل. 

- "أتعلمين، كنت معجبًا بكِ حتى فى ذلك الوقت، ياإيزومى،" 

قالها باندفاع طفولى، ثم أمسك بيدى. لم يكن لدى أى شعور رومانسى تجاهه على الإطلاق، ولكن عندما وضع يدى فى يده، لم يزعجنى الأمر بشكل خاص، لذا دعوته إلى شقتى. بمجرد وصولنا، بدأ "كين" الصغير فى خلع ملابسه، وفكرت، "أوه، حسنًا، أعتقد أن هذا يعنى أننا سنفعل ذلك." انتهى بنا الأمر إلى ممارسة الجنس عدة مرات قبل أن ننتهى.

مرت فترة منذ آخر مرة لُمستُ فيها. لم أستطع تذكر متى كانت آخر مرة مارستُ فيها الجنس مع زوجى، وكافحت لتذكر عدد السنوات التى مرت منذ أن تم تقبيلى، أو الإمساك بيدى، أو تدليك ظهرى، أو فرك كتفى.

الحقيقة البسيطة أن الأمر كان يشعرنى بالرضا. كما أننى شعرت بالارتياح لمعرفة أننى ما زلت أمتلك رغبة جنسية. كان "كين" الصغير يداعبنى، ويهمس بكلام حلو. فى حين كان تدليك رأسه كافيًا لتهدئته. كان حقًا يشبه الكلب.

فكرت "كم هى الساعة الآن؟" ، ومددت يدى للبحث عن ساعتى بجانب الوسادة. كانت ساعة كرونوجراف من ماركة شهيرة اشتراها لى زوجى فى أحد أعياد الميلاد. كان اسمى محفورًا على ظهرها، لذا حتى لو أردت بيعها، لن أستطع؛ بالإضافة إلى ذلك، كانت شيئًا عمليًا لأحتفظ به، لذا كنت ما زلت أستخدمها. كان الوقت قد تجاوز العاشرة صباحًا. بالكاد كنا قد نمنا. كان رأس "كين" الصغير ثقيلًا على كتفى. كنت أحب النوم محتضنة فى أحضان زوجى، لكننى لم أدرك أبدًا كم يمكن أن يكون الرأس ثقيلًا.

وأنا أتذكر زوجى السابق فكرت فى أنه "كان رجلًا لطيفًا جدًا،". كان الابن الوحيد لمالك عقار فى "شيتاماتشى"، وكان غريباً نوعًا ما، لكنه كان شخصًا لطيفًا. كان متفائلًا بطبعه، مراعيًا للآخرين وصبورًا. وعلى عكسى، لم يكن يحمل ضغينة لأحد، ولم يكن لديه كلمة سيئة ليقولها عن أى شخص. أحببت هذه الأشياء عنه فى البداية، ولكن بعد فترة، بدأت تؤثر على. هل أصبحت غير مراعية لأنه كان سهل الانقياد؟ كنت أفترض أن الأشياء التى تجعلنى سعيدة ستجعله سعيدًا أيضًا.

"خاسرة." تراقصت الكلمة داخل ذهنى. كان ملمس شعر "كين" الصغير لطيفًا على وجهى؛ فدفنت أنفى فيه وتنفست بعمق.

"كين" الصغير وأنا نناسب بعضنا تمامًا، زوج من الخاسرين المثاليين،" 

فكرت فى ذلك دون أى ذرة من الحقد أو الازدراء. كل ما تطلبه الأمر كان القليل من الاتصال بين جسدى وجسده كى أشعر بالحب تجاه شخص لم أفكر فيه أبدًا من قبل. بدا الأمر لى أننى كنت سخيفة بعض الشىء، وكذلك غبية بعض الشىء.

بدأت أسمع لحنًا يعزف من مكان ما. لم يكن لدى هاتف محمول، لذا لا بد أنه هاتف "كين". عندما أدركت أنه لحن من فيلم "كلب فلاندرز"، لم أستطع إلا أن أضحك بصوت عالٍ. كنت أفكر حينها فيما إذا كان على ترك  هذا الكلب النائم يستريح عندما نهض فجأة.

- "صباح الخير! هل تخطط حقًا لتخطى العمل؟"

بدأ لحن "كلب فلاندرز" يعزف مرة أخرى، وقفز هو من السرير ليبحث عن هاتفه فى جيب سترته على ظهر كرسى مكتبى. التفت نحو الحائط وبدأ يعتذر بصدق لمن كان على الطرف الآخر. شاهدت عظام ظهره النحيل وهو ينتفض تحت جلده.

قال "كين" الصغير، بنظرة خائبة:

- "إنهم غاضبون جدًا. يجب أن أذهب إلى العمل،" 

- "إنه خطأى. أنا آسفة."

- "لا، لا تعتذرى."

ارتدى قميصه وسرواله، ثم ربط ربطة عنقه. بمجرد أن ارتدى بذلته، أصبح مجرد رجل ممل آخر. 

"يبدو أفضل بكثير عاريًا،" 

فكرت فى ذلك بينما كنت أرتدى تى-shirt لأذهب إلى الثلاجة وأحضر زجاجة ماء؛ صببت كوبًا وقدمته له.

- "هل كنتِ دائمًا بهذه اللطافة، إيزومى؟"

لم أستطع إلا أن أضحك مرة أخرى. ربما أعاد النوم إشعال شعورى بالاستسلام، لكن كبريائى لم يعد يشعر بأى جرح.

- "هل سأراكِ مرة أخرى؟"

- "بالتأكيد. مهلا، هل تعرف كيف تصلح تلفزيونًا؟ أو مكيف هواء؟"

- "يعتمد على الموديل. لماذا، هل لديكِ مشكلة فيهم؟"

قام "كين" الصغير بتشغيل التلفزيون وإيقافه، محدقًا فى الصورة المشوهة، ثم أخرج البطاريات من جهاز التحكم فى مكيف الهواء ووضعها مرة أخرى، جبينه متجعد. كتب الأرقام التسلسلية فى مفكرته. ثم مزق صفحة، وكتب رقم هاتفه المحمول، ومدها لى.

- "يمكنكِ الاتصال بى فى العمل أيضًا، لكننى أكون خارج المكتب كثيرًا، لذا استخدمى هذا الرقم، حسنًا؟"

أخذت الورقة وأومأت برأسى. ابتسم "كين" الصغير، قبلنى بخفة، وخرج من الباب.

فى اللحظة التي غادر فيها، بدأ كل ما حدث يفقد واقعيته، وكأنه فقاعة صابون انفجرت. عندما زحفتُ إلى السرير مرة أخرى، كانت رائحتة الشبيهه بالكلاب لا تزال هناك. 

استسلمت لنوم لطيف وكسول.

مع اقتراب المساء، رن الهاتف ورددت، ظنًا أنه "كين" الصغير. لم يكن هو. كان رجلًا كنت أعرفه عندما كنت أعمل مع زوجى، يسأل إذا كنت أرغب فى تناول شىء ما معه.

"انظروا من أصبحت مطلوبه فجأة،" 

هكذا كنت أفكر بينما كنت أضع مكياجى. اخترت بدلة صيفية من تلك التى كنت قد حزمتها عندما انتقلت، لكنها لم تعد تبدو مناسبة لى. لم يكن هناك شىء مهم على المحك، لذا استبدلت البدلة بتى-shirt وسراويل الكارجو المعتادة.

كان المكان الذى اختاره مطعمًا فى "أوياما"، وللوصول إليه كان على المرور بأحد متاجرنا القديمة. شعرت ببعض الاضطراب عندما اتجهت شرقًا، ذلك أننى رأيت أن المتجر أصبح الآن واحدًا من تلك المقاهى الأمريكية التى تنتشر فى كل مكان. كنت أعلم أنه أُغلق، لكن كان من المؤلم أن أراه وقد تم استبداله تمامًا. كنت قد تشاجرت أنا وزوجى حول ما إذا كنا سنفتتح متجرًا ثالثًا هنا. كنت متأكدة أنه سيحقق نجاحًا كبيرًا، لكن حجم الاستثمار الأولى أخافه.

وصلت متأخرة بخمس عشرة دقيقة، ولكن كما توقعت، لم يكن الرجل قد وصل بعد. على أى حال طلبت بيرة، وبينما كنت أشربها ظهر، قائلًا:

- "آسف، آسف، آسف" بتعبير على وجهه لا يوحى بالندم على الإطلاق. 

كان هذا الرجل، "هايودو"، يبيع سلعًا بالجملة على الطراز الآسيوى نيابة عن سلسلة مدعومة من شركة أزياء كبيرة. كنت متأكدة أننا تقريبًا فى نفس العمر، لكنه كان قد اكتسب بعض الوزن، وأصبح يتمتع بحضور معين.

قال: 

- "مهلا، لقد أصبحتِ نحيفة بينما لم أكن أنتبه!". 

تحدث بسرعة فائقة أثناء طلبه المشروبات والطعام من النادل.

- "إذن، إيزومى، ماذا تفعلين هذه الأيام؟" قالها، متجهًا مباشرة إلى صلب الموضوع.

- "لا شىء محدد."

- "فى الواقع، سمعت أنكِ تتجولين فقط، والحقيقة هى أننى دعوتكِ هنا لأسألكِ إذا كان بإمكانكِ فعل شىء ما من أجلى."

أخرج "هايودو" بطاقة عمل من جيب سترته الفاخرة، لا بد أنها كانت قد خُيطت حديثًا لتناسب جسمه الجديد الممتلئ. على عكس بطاقة "كين" الصغير، كانت البطاقة بيضاء نقية، وحوافها حادة بما يكفى لقطع إصبعك. كان لقبه الجديد – "المدير العام" – يظهر بفخر على جانبها.

-"كما ترين، نحن نفتتح موقعًا جديدًا بالكامل. نريد التوسع فى الحرف اليدوية والأدوات المنزلية اليابانية التقليدية، وأريد منكِ أن تساعدينا فى تحقيق ذلك."

كان يتحدث كما لو أن احتمال رفضى لم يخطر بباله. من المقرر افتتاح المتجر العام التالى، فى محطة سكك حديدية خاصة كبيرة، وأراد أن يعيننى كمسؤولة عن التسويق.

- "ستشاركى فى تشكيل صورة المتجر وكيفية عرض البضائع، وتقررى متى سنقدم عناصر جديدة وكمية كل منها، وحتى المشاركة فى تدريب الموظفين الذين سيعملون فى المتجر".

- "لم أعمل لمدة عامين كاملين."

- "أنا واثق من أنكِ، من بين جميع الناس، يمكنكِ تعويض الوقت الضائع. ولستِ مرتبطة بزوجكِ بعد الآن، أليس كذلك؟ لقد حان وقت الانتقام، إيزومى."

"وقت الانتقام" – أوقفتنى هذه الكلمات . 

لم يكن لدى أى رغبة فى الانتقام، لكننى تذكرت أنه من الخارج، لا بد أن الأمر يبدو كما لو أن شيئًا فظيعًا قد حدث لى.

الآن بدأت اتذكر، لقد قابلت زوجى لأول مرة فى معرض تجارى لـ"هايودو". كنت قد ذهبت فقط للتجول، لكننى صُعقت برؤية شاب يرتدى كيمونو. شاهدته وهو يدرس الكتالوجات والعينات بجدية تامة، واستغللت أول فرصة لأبدأ محادثة معه. أخبرنى أنه يريد تحويل المنزل الذى ورثه عن جدته، التى توفيت العام الماضى، إلى متجر يبيع الحرف اليدوية اليابانية التقليدية. عندما علمت أن المنزل يعود إلى فترة "تايشو"، اقترحت ألا يجرى عليه أى تجديدات، بل ببساطة أن يعلق نoren تقليديًا أزرق اللون على الباب ويستخدمه كما هو. تألقت عيناه باقتراحى. أثار هذا اللقاء قصة حب عاصف، أدت إلى زواجنا، وبعد ذلك بدأنا نتحدث بشكل أكثر تحديدًا عن افتتاح المتجر. لم يكن لدى أى تعلق خاص بالشركة التى عملت فيها لمدة ست سنوات. كانت فكرة الزواج من رجل لطيف وبناء عمل معًا أكثر جاذبية بالنسبة لى من الاستمرار في التنافس على الترقيات، ولعب ما بدا وكأنه لعبة كراسى موسيقية لا تنتهى أبدًا.

أردف:

- "أتذكر تلك الحيوانات الصغيرة المصنوعة يدويًا، والشموع اليابانية التقليدية؟ كانت رائعة. لا أعتقد أن زوجكِ السابق يبيعها الآن، وأود أن أعرضها فى متجرنا."

عندما  قمت بتكليف فنانًا شابًا بصنع حيوانات محشوة وقمت بتطوير خط من الشموع لتتناسب معها، لم يكن زوجي سعيدًا بذلك؛ كان يعتقد أنها تبدو رخيصة. لكننى أصررت، وانتهى بها الأمر إلى أن تباع بشكل أفضل مما كنا نتخيل، حتى أنها ظهرت فى مجلة نسائية. تواصلت معنا متاجر كبيرة لبيعها أيضًا. عندما أفكر الآن فى الأمر، أتساءل عما إذا كان هناك شيئًا آخر أيضاً قد فعلته لإيذاء كبرياء زوجى.

قلت له:

- "دعنا لا نستبق الأحداث."

وضع "هايودو" كوب البيرة الخاص به بتردد عند سماع كلماتى.

- "لماذا لا؟ أنا أمنحكِ فرصة للعودة إلى اللعبة، إيزومى. أتعلمين، إذا بقيتِ خارجها لفترة أطول، سينساكِ الجميع."

- "المشكلة هى أننى لم أكن أهتم كثيرًا بالحرف اليدوية أو الأدوات المنزلية."

انطلقت الحقيقة من بين شفتى قبل أن ألاحظ ما الذى كنت أقوله. اقترب "هايودو" منى.

- "ولكن هذا هو المقصود! انظرى، هناك عدد كافٍ من الفتيات اللواتى يعشقن الأشياء الصغيرة اللطيفة لتوظيفهن وفصلهن كل يوم. حب البضائع هو عائق أكثر من كونه ميزة."

فى مواجهة هذا الرد غير المتوقع، نظرت إليه بثبات.

أضاف:

- "تعلمين ما أعنيه، "إيزومى". البضائع ذات الجودة والبضائع التى تباع هما شيئان مختلفان تمامًا. كم كنتُ أود أن أتعامل فقط فى السلع عالية الجودة المصنوعة من قبل الحرفيين المهرة. لكن العميل العادى لا يملك ملكة تمييز هذه النوعية من الأشياء. الأشياء التى تباع هى تلك التى تبدو لطيفة للوهلة الأولى ورخيصة بما يكفى لاستخدامها لموسم واحد، ثم التخلص منها بمجرد أن تملين منها. أنا لا أقول إنكِ يجب أن تبيعى الأشياء فقط لأنها تباع، ولكن الحقيقة هى أنه إذا لم تفعلى، فعندما تصادفين شيئًا ذا قيمة حقيقية، لن يكون لديكِ رأس المال الكافى للاستفادة منه."

قال هذا وكأنه يقوم بانارة الطريق أمام طفل ذكى. 

أتذكر أننى فى السابق كنتُ قد قلت شيئًا مشابهًا لزوجى، ورغم أننى كنتُ أعلم أننى لا أستطيع كسب العيش من مجرد صنع نسخ "بيكاتشو" طوال اليوم، إلا أن كلماته لم تثر حماسى.

لابد أن عدم اكتراثى كان واضحًا، لأنه صمت فى النهاية، دون أن يحاول أن يخفى خيبة أمله، ثم وضع سيجارة فى فمه وأشعلها.

- "هل كانت الصدمة بهذا القدر فى ذلك الوقت؟ أقصد مع زوجكِ؟"

- "ماذا؟"

أصبحت الطاولة المجاورة لنا صاخبة فجأة، مما غطى على كلماته.

- "ظننتُ أنكِ سترغبين فى العودة إلى المسار الصحيح، لكن يبدو أننى فقط أذكركِ بذكريات سيئة. أعتذر."

سألت أخيرًا، وأنا أنظر إلى الطعام الذى بالكاد لمسته.

- "متى يجب أن أخبركِ بقرارى؟"

- "لا نحتاج إلى التحرك فى هذا الأمر على الفور، لذا دعينا نقول الأول من سبتمبر؟ فكرى فيه كواجب منزلى لعطلتك الصيفية."

كان يجب أن أكون قد أصبحت معتادة على ذلك الآن، لكن عندما رأيت "هايودو" يخرج ورقة من عشرة آلاف ين من محفظته ويسلمها للنادل، شعرت بالإحباط. 

بدأت المشروبات من العشاء تصيبنى بالصداع؛ استقللت سيارة أجرة وعدت مباشرة إلى المنزل. هناك، وجدت طردًا ينتظرنى أمام باب شقتى. عندما رأيت اسم "أسوكا" على الملصق، انتابنى شعور سىء، وعندما فتحته، لم أجد فقط "بيكاتشو" الذى أعطيته لها فى اليوم السابق، ولكن سبعة دببة محشوة ترتدى الملابس التى صنعتها.

"أعلم أننى يجب أن أحتفظ بهذه الأشياء لأحافظ على مشاعركِ، لكن بصراحة، لا أستطيع ذلك. أنا آسفة. لا أعرف حقًا كيف أعبّر عن ذلك – كل ما يمكننى قوله هو أن أخذ استراحة والهروب هما شيئان مختلفان. من الصعب المشاهدة. أنا آسفة حقًا."

كان بإمكانها أن تتخلص منها دون أن تخبرنى، هذا ما فكرت فيه وأنا أفرك وجهى. لكن بينما كنت أنظر إلى الحيوانات المحشوة المرتبة أمامى، بد لى أنها  مثيرة للاشمئزاز حقًا. كانت أمى تحب أن تحيك مناديل لتضعها تحت المزهريات كأطباق، وأتذكر أنها كانت تثير لدى نفس الشعور. لم يكن أحد يريدها حقًا، ولا حتى هى، لكنها استمرت فى صنعها.

خلعت ملابسى دون أن أغسل مكياجى وزحفت إلى السرير. ما زلت أستطيع أن أشم رائحة صديقى الكلب. لكننى لم أكن أرغب فى الاتصال به.

عندما فتحتُ عيناى، كانت الثامنة صباحًا، توقيت محترم بشكل مدهش. ليس ذلك فحسب، كانت السماء أيضاً صافية ومرة أخرى مشمسة  بعد أيام لا أعرف عددها، لذا فتحت النوافذ على مصراعيها وعلقت الفوتون والفراش على الشرفة بينما كنت أملأ الغسالة. بدت فوضى شقتى واضحة، فى ضوء الشمس، لذا بدأت أملأ كيس قمامة بكل الأشياء التى تغطى الأرض. ألقيت الحيوانات المحشوة فيه أيضًا، واحدة تلو الأخرى، ولكن عندما حاولت إغلاقه، التقت عيناى بعيون "بيكاتشو" المستديرة تمامًا. 

بدا الأمر مضيعة أن أتخلص من الدمى. فكرت فى أنه ربما يجب أن ألتقط صورة على الأقل قبل أن أتخلص منها، وتذكرت اقتراح "أسوكا" بأن أصنع موقعًا على الإنترنت. قررت  الذهاب لشراء كاميرا رقمية.

تركت الغسيل فى المنتصف، وذهبت إلى منطقة الإلكترونيات واشتريت كاميرا رخيصة. أصبحت محفظتى فارغة، لذا توقفت عند ماكينة الصراف الآلى. بعد أن سحبت مائة ألف ين كالمعتاد، نظرت إلى الإيصال. كان الرصيد فى حساب التوفير الخاص بى يقترب من الصفر. لم يكن من المفترض أن تكون تلك صدمة، فإنفاق المال دون كسب أى شىء يستنزف مواردى؛ ومع ذلك، لم أهتم بالأمر كثيرًا. كل ذلك الوقت الذى قضيته فى الدراسة بجد أكثر من أى شخص آخر فى المدرسة، والعمل بجد أكثر من أى شخص آخر فى وظيفتى، وأصبح هذا كل ما لدى. لم يبدُ أن لدى خيارًا – كان على أن أقبل عرض "هايودو". لكننى سأنتظر حتى ينتهى الصيف لأخبره.

أول شىء فعلته عندما عدت إلى شقتى هو تشغيل جهاز الكمبيوتر. كان مجرد جهاز مكتبى عادى حصلت عليه قبل الطلاق، لكننى الآن رأيت أنه يحتوى على برنامج بسيط لبناء المواقع. دون أن أقرأ الدليل، بدأت فى بناء ملف index.html لموقعى.

منغمسة كما كنت فى مهمة جديدة لتضييع الوقت، قضيت الأسبوع التالى محتجزة فى الشقة، غادرت بضع مرات فقط للحصول على شىء آكله من المتجر الصغير – حتى أننى فى إحدى الليالى، بعد أن فقدت تمامًا الإحساس بالوقت، سمعت طرقًا على بابى. لابد أنه كان ساعى البريد أو عامل توصيل الصحف من سيدق الجرس، لذا فى البداية ظننت أننى أتخيل الأمر؛ ومع ذلك، توقفت وأصغيت، فقط لأجد أنه يبدو حقًا أن هناك شخصًا يطرق. نظرت من خلال ثقب الباب، ورأيت "كين" الصغير واقفًا بصلابة فى بذلته.

كانت سلوكياته هذه المرة مترددة، مهذبة للغاية، تغيرت تمامًا عما كان عليه فى المرة الأخيرة التى رأيته فيها.

قال وهو يقدم لى الكيس البلاستيكى الذى كان يحمله 

- "أحضرت هذه". 

كان يحتوى على علبتين من البيرة المبردة وحاويتين من الثلج المبشور.

- "لم أكن أعرف أيها ستعجبكِ."

- "كان بإمكانك الاتصال والسؤال."

- "كيف يمكننى ذلك؟ لم تعطينى رقمكِ أبدًا."

- "أوه، هذا صحيح، لم أفعل أبدًا."

- "هل يمكنك تخيل كيف كنت أشعر، إيزومى، منتظرًا كل هذا الوقت كى تتصلين بى؟"

جلس "كين" الصغير على الكرسى أمام الكمبيوتر؛ أنا انحدرت على سريرى. تذكرت الصداع الذى سببه لى شرب البيرة فى الليلة السابقة، فاخترت الثلج.

- "كان بإمكانك المجىء فقط..."

- "عندما لم تتصلى بى، ظننت أنكِ أردتِ شيئًا لمرة واحدة، إيزومى. كيف يمكننى المجىء فقط إذا كانت هناك احتمالية كبيرة أن أُطرد من الباب؟"

كان "كين" الصغير محقًا، بالطبع، لكن إذا أخبرته الحقيقة – أننى لم أتصل به ببساطة لأننى نسيت – بدا أنه من المحتمل أن ذلك قد يؤذيه أكثر.

- "أنا آسفة. لقد كنت مشغولة قليلاً مؤخرًا."

- "إذا كنتُ أزعجكِ، سأذهب."

- "إذا كنتَ مزعجًا، ألم أكن سأطردك من الباب؟"

ابتسم "كين" الصغير. فتح بيرة وشربها بحماس، ثم فتح الثانية ووضعها على فمه. شاهدته، وأنا ألتهم الثلج بملعقتى الصغيرة، وتساءلت إذا لم يكن يبدو وكأنه بدأ يصبح مدمنًا على الكحول. أنهى البيرة الثانية فى لمح البصر، ونهض قائلاً: "حسنًا..." ومد يده إلى حقيبة كبيرة أخرى كان قد أحضرها، وأخرج صندوقًا صغيرًا من الكرتون. فتحه، ليظهر جهاز تحكم عن بعد لمكيف الهواء. وضع بعض البطاريات فى الجهاز، وذهب إلى مكيف الهواء نفسه، وقلب مفتاحًا؛ بدأ مروحة العادم تهتز بصوت عالٍ. نسيم برائحة العفن لامس خدى.

صرخت:

- "لقد أصلحته!" ، مما جعل "كين" الصغير يهز كتفيه، مبتهجًا.

- "حاوية البطاريات فى جهاز التحكم كانت صدئة، لذا لم تعمل، هذا كل شىء. يجب أن تخرجى البطاريات عندما يتغير الموسم. وربما تنظفى فلاتر الهواء."

- "هذا رائع!"

ركضت فى جميع أنحاء الشقة، وأغلقت جميع النوافذ. عندما عدت، كان "كين" الصغير قد انتقل إلى التلفزيون، يستخدم مفكًا لفتحه.

- "هل تصلح تلفزيونى أيضًا؟"

- "إنه واحد من منتجاتنا، سيكون سهلًا. لكنه قد يستغرق ثانية."

- "شكرًا جزيلاً! أوه، وهل يمكنك استبدال مصباح المطبخ؟ لا أستطيع الوصول إليه حتى عندما أقف على كرسى، لذا..."

- "بالطبع."

- "هل يمكننى فعل أى شىء للمساعدة؟"

جلس "كين" الصغير متربعًا أمام التلفزيون، وهو يفكر فى سؤالى بينما كان يعبث بقطعة.

- "لن أمانع المزيد من البيرة، أعتقد."

- "سأذهب لأحضرها!"

بدأت أهرول فى طريقى إلى المتجر. "لماذا أنت متحمسة لهذا الحد، أيتها الغبية؟" فكرت، لكننى شعرت بابتسامة تنتشر على وجهى. عندما عدت وأنا أحمل أربع علب بيرة وبعض الوجبات الخفيفة، كان "كين" الصغير يعيد التلفزيون إلى مكانه. صورة واضحة تمامًا لنشرة رياضية ملأت الشاشة.

قلت: 

- "انظر إلى ذلك!" 

مما جعل "كين" الصغير يحمر خجلاً.

- "لم يكن شيئًا. توازن الألوان كان خاطئًا، هذا كل شىء. ذلك، وكان مليئًا بالغبار. الغبار يمكن أن يضر بالجهاز، أتعلمين. هل يمكنكِ إخبارى أين المصابيح الجديدة حتى أستبدل الضوء؟"

- "بالطبع، بالطبع،" 

قلت هذا، وأخرجت المصابيح التى اشتريتها منذ ما يقرب من نصف عام من المكان الذى خبأتها فيه فى الخزانة.

امتلأت المطبخ بالضوء، مما أظهر عبوات الرامين الفارغة والأطباق المتسخة فى الحوض. شعرت بالحرج، فأخذت يدى "كين" الصغير بيدى وأخذته إلى السرير، حيث أجلسته وقبلته على خده. ابتسم وسحب حلقة علبة بيرة أخرى.

- "شكرًا جزيلاً لك، حقًا. لقد أنقذت اليوم."

- "على الرحب والسعة."

- "سأرد الجميل. أجهزة التحكم الجديدة لا تنمو على الأشجار، أعلم."

- "لا تقلقى بشأن ذلك. هذا الشخص الذى أعرفه فى متجر الإلكترونيات أعطانى إياه بسعر رخيص جدًا. على أى حال، قلتِ أنكِ كنتِ مشغولة مؤخرًا؟ ماذا كنتِ تفعلين؟ هل حصلتِ على وظيفة؟"

- "لا، كنت أعمل فقط على إنشاء موقع."

- "على الإنترنت؟"

- "نعم. هل تريد أن تراه؟"

أخذت "كين" الصغير إلى الكرسى أمام الكمبيوتر وأريته ما كنت أعمل عليه.

- "واو، يبدو رائعًا! ما هذا، "بيكاتشو"؟"

- "نعم، لقد خيطته بنفسى."

الجلوس هكذا والتحدث بهذه الطريقة، جعلنى أشعر وكأننا زوجان حقيقيان، "كين" الصغير وأنا.

- "انظرى إلى عدد الزوار! يمكنكِ أن تجعلى من هذا وظيفة حقيقية."

صدق مدحه أثار بداخلى مشاعر معقدة. كم كان صعبًا بناء صفحة رئيسية بسيطة؟ لقد نظرت فقط إلى بعض المواقع التى أنشأها محترفون، وجمعت اللبنات الأساسية، وركبتها معًا. نشرت روابط لها هنا وهناك وأخبرت أصدقائى على "بوست بيتس" عنها، وشخص ما نشرها على منتدى ما دون أن أطلب. وهذا كل شىء! حتى أننى تلقيت بضع رسائل بريد إلكترونى من أشخاص يسألون عن كيفية بيع حيواناتى المحشوة وملابس دمية الدب. لكن فى الحقيقة، كنت قد بدأت أشعر بالملل من كل هذا بالفعل.

عانقت رأس "كين" الصغير وهو جالس. ضممنا شفاهنا معًا وضحكنا. فكرت "أنا حقًا أحب هذا الفتى،". لكن قد يكون الأمر كما هو الحال مع مشاريعى الصغيرة فى الخياطة أو موقعى على الإنترنت – سأنغمس فيه لفترة ثم أفقد الاهتمام بسرعة. كنت عاجزة أمام نزواتى البدائية. خلعت ملابسى، دون استحمام، ومارسنا الجنس مرة أخرى.

- "إذا سامحتنى على قولى، أعتقد أننى أحب هذه الإيزومى أكثر من التى عرفتها فى العمل،" 

قال "كين" الصغير ذلك بينما كنا مستلقين متشابكين فى الأغطية، عاريين، نستمتع بنسيم بارد من مكيف الهواء الذى تم إصلاحه حديثًا.  أثار هذا دهشتى قليلاً.

- "حقًا؟ يبدو أن الجميع يريدوننى أن أعود إلى المسار الصحيح، أن أعود إلى نفسى القديمة."

- "لا... أعنى، عندما أعلنتِ أنكِ ستستقيلين للزواج، بدوتِ سعيدة جدًا وجميلة جدًا. ولكن قبل ذلك، الأشياء التى كنتِ تقولينها والطريقة التى كنتِ تقولينها بها كانت سيئة وحادة."

- "قلت لى أنك كنت دائمًا معجبًا بى."

- "أوه، كنت معجبًا. كنتِ "فائزة"، على عكسى."

"كنت فائزة" – لفتت انتباهى صيغة الماضى، لكننى قررت ألا أفكر فى الأمر. ضغطت رأس "كين" الصغير إلى صدرى مثل دمية محشوة ودللت شعره.

سأل، بصوت مكتوم

- "لماذا انفصلتِ؟" 

لم أستطع التفكير فى إجابة، فأضاف بسرعة، 

- "إذا كنتِ لا تريدين التحدث عن ذلك، فلا بأس."

قلت، متجنبة سؤاله:

- "أتعلم شيئًا، "أوبارا"؟ أنت من النوع الذى يبدو أفضل عندما يكون عاريًا،" أطلق "كين" الصغير ضحكة صغيرة معقدة.

- "هل من المفترض أن تكون هذه مجاملة؟ أعلم أن البدلات التى أرتديها رخيصة. يجب أن أشترى الكثير منها، أمشى فى الحر طوال اليوم للعمل. لا يمكننى التجول عاريًا، أليس كذلك؟"

ضغطت شفتى على جبين "كين" الصغير المتجعد بغضب، مما أسكته.

بعد ذلك، بدأ "كين" الصغير يأتى إلى شقتى مرة أو مرتين فى الأسبوع فى طريقه من العمل. كان يأتى أحيانًا أيام الأحد أيضًا، مرتديًا تى-shirt وسراويل برمودا، ويصلح ورق الحائط المتقشر أو يرافقنى فى رحلة إلى مقهى المانجا. كان من السهل أن أكون معه – لم يقل لى أبدًا كم يحبنى، أو أنه واقع فى حبى، أو يسأل عن المدة التى أنوى البقاء فيها عاطلة عن العمل.


الصيف فى المدينة يعنى أسفلت ساخن كالمقلاة. شعرت بالدوار فقط من مجرد المشى إلى المتجر الصغير. قضيت كل وقتى أحدق فى التلفزيون أو أنام، مكيف الهواء يعمل بأقصى طاقته. لم يكن لدى شهية، لكننى كنت آكل قليلاً من المعكرونة الصينية الباردة أو الآيس كريم الذى كان "كين" الصغير يحضره، وبطريقة ما استمررت.

بحلول شهر أغسطس، كنت محمومة. كان هذا متوقعًا بعد قضاء كل النهار والليل مستلقية تحت مكيف هواء يعمل بأقصى برودة، وفى إحدى الليالى، جاء "كين" الصغير كالمعتاد ووجدنى بحرارة 40 درجة. شعر بالذعر، فوجد عيادة مفتوحة فى وقت متأخر وأخذنى إليها. أخبرنى الطبيب أن جهازى المناعى ضعيف بسبب فقر الدم وسوء التغذية، وهو خبر صدم "كين" الصغير أكثر مما صدمنى. بعد أن حذرنى الطبيب من عدم الاستهانة بالمشكلة وأخبرنى أن أتأكد من تناول الطعام بشكل صحيح، أجبرنى "كين" الصغير على ركوب سيارة أجرة وأخذنى إلى منزله.

تبين أن شقته كانت فى حى يبعد حوالى ثلاثين دقيقة عن وسط المدينة بالقطار، وعلى الرغم من أنها كانت فى الطابق الثانى من مبنى خشبى متهالك من طابقين، إلا أن المنطقة كانت مليئة بالأشجار وخضراء، وكانت نسائم لطيفة تهب عندما تكون النوافذ مفتوحة. وضعنى فى سريره وأخفى جهاز التحكم فى مكيف الهواء.

قال: 

- "من الجيد أننى كنت قد ادخرت بعض أيام الإجازة،"  

وانتهى به الأمر بأخذ ثلاثة أيام إجازة، وبقى بجانبى حتى انخفضت حرارتى. لم يكن طاهيًا جيدا، لكنه أعد لى ثلاث وجبات فى اليوم وقام بخفض حرارتى عندما شعرت بالحرارة. لم أستطع أن أفهم لماذا كان لطيفًا معى بهذا الشكل. بالتأكيد، قال إنه "خاسر" من حيث مسيرته المهنية، لكنه كان وسيمًا ولطيفًا. وبناءً على ما أخبرنى به، بدا أن مشرفه يحبه ومرؤوسيه يعشقونه. 

بدا أنه من المستحيل ألا يكون لديه حظ مع النساء. إذن ماذا كان يرى فى؟

بعد أن انتظمت حرارتى أخيرًا، استحممت. كان الحوض قديمًا، لكنه كان نظيفًا. كان هناك ميزان بجانب باب الحمام، وعندما وقفت عليه، تفاجأت عندما رأيت أن وزنى كان 45 كيلو.

في ذلك الأحد، أخبرت "كين" الصغير أننى أشعر بتحسن ويجب أن أعود إلى شقتى. ظهرت نظرة حزينة على وجهه، وعرض أن يرافقنى إلى "شينجوكو".

قلت له:

- "أشعر بالذنب بما فيه الكفاية لتعبك معى – يمكنك أن ترافقنى إلى المحطة فقط". 

كنت أشعر بالندم الشديد لأننى كلفته كل أيام إجازته.

كانت الساعة العاشرة وكانت شمس منتصف الصيف قوية للغاية. اقترح "كين" الصغير أن نتوقف عند حديقة مليئة بالأشجار، ونستريح قليلاً تحت ظلها.

قال، وهو يتناول رشفة من علبة شاى مثلج:

- "لا أعتقد أن تلك الشقة فى "شينجوكو" جيدة لكِ" 

- "جيدة لى أم لا، لقد اشتريتها. لا يمكننى الانتقال الآن."

- "يبدو أن المكان ملعون."

- "لا تكن مخيفًا!" 

أجبته بهذه الطريقة، بقصد أن أجعله يضحك، لكن وجهه بقى جادًا.

- "لست متأكدًا تمامًا من كيفية قول هذا، لكن..."

استعديت، وأنا أحاول التفكير فيما سأقوله إذا طلب منى الانتقال للعيش معه.

-"عندما أتيتِ إلى مكانى لأول مرة، إيزومى، لم أستطع التوقف عن القلق، وانتهى بى الأمر بالذهاب لرؤية "كين الكبير"، فى مكان عملنا السابق."

- "ماذا فعلت؟"

- "هذا ليس لطيفًا، أعلم، لكننى انتهيت بسؤاله عنكِ. أخبرنى بكل شىء. لقد كانت الأوقات صعبة عليكِ، أليس كذلك؟"

كان عالم الأعمال الذى عملت فيه صغيرًا، تنتشر به الشائعات بسرعة، ومن المؤكد أن قصة انفصالى تم حشوها بإضافات غير لائقة.

على أى حال، لقد انتهت علاقتنا ببساطة بسبب إصرارى السيطرة على كل شىء يتعلق بالعمل. فبعد نجاح الحيوانات المحشوة والشموع اليابانية المستوحاة من الفن الشعبى، بدأنا فى تخزين المزيد من منتجات السلع الرخيصة بكميات كبيرة، ونما العمل بشكل كبير. 

كنت قد ضغطت على زوجى لفتح موقعين جديدين، على حين أنه بدأ يتلقى انتقادات متزايدة من أصدقاء قدماء وأفراد من عائلته: "لا نصدق أنك تبيع مثل هذه الخردة، ماذا حدث لذوقك الرفيع حين يتعلق الأمر بالجودة؟". 

كنت أعرف ما يحدث بشكلٍ أو بآخر، لكننى اخترت التظاهر بعدم المعرفة. 

كنت أرغب فى إنجاب الأطفال وعلمت أننى لا أستطيع ذلك مع العمل من الصباح حتى المساء؛ لذلك كنت أرغب فى بيع أكبر قدر ممكن بأسرع ما يمكن، وفعلت كل ما فى وسعى لزيادة أرباحنا بكل ين قليل أستطيع جمعه.

بالفعل ارتفعت الأرباح بشكل مطرد، لكن الأمور بينى وبين زوجى أصبحت أكثر توترًا، وأصبحت فكرة العودة كل ليلة إلى الشقة التى اشتراها زوجى بمال والديه تسبب لى الاكتئاب. كنت أعلم أننى لا يجب أن أفعل ذلك، لكننى قضيت ليالى أكثر فأكثر مقيمة فى المتجر. 

وصحيح أيضًا أننى كنت قد بدأت أفكر فيه كطفل مدلل غنى، رجل لا يفهم فى الأعمال، ليس رجلاً حقيقيًا على الإطلاق.

كم كنت محظوظة أن انتهى الأمر إلى أن يكون هو من قام بالخيانة. كانت والدته تقوم بتعليم الرقص اليابانى التقليدى، الأمر الذى إجتذب إلى صفوفها كثيراً من الشابات. إحدى هؤلاء الطالبات هى التى وقعت فى حب زوجى. كانت تأتى إلى المتجر مرات لا تحصى، وعلى الرغم من قصة شعرها القصيرة الحديثة، كانت تبدو رائعة فى الكيمونو – كان تأثيرها عليه مشابهًا لما جذبنى إليه فى ذلك المعرض التجارى.

لذا، بحلول الوقت الذى أخبرنى فيه أنه يعلم أنه يمكنه بناء حياة معها تكون مليئة ومجزية – على عكس الحياة المهووسة بالربح التى كان يعيشها معى – كان قد اتخذ قراره بالفعل. انحنى أمامى، واعدًا أنه سيفعل أى شىء أريده طالما وافقت على إزالة نفسى من سجل العائلة. 

حتى عندما كنت أصرخ وأبكى، وأقسم أننى لن أعطيه موافقتى، كنت أعلم فى قرارة نفسى أن الأمر انتهى.

قال "لا أستطيع تحمل الوحدة بعد الآن" .

لم أكن أعرف ما الذى كان "كين" الكبير يعرفه، لكن كان واضحًا أن ما سمعه "كين" الصغير جعله يشعر بالأسف الشديد على. وعلى الرغم من أن كبريائى كان قد أصبح مخدرا، إلا أنه مع ذلك تألم. يالا كبريائى الغبى عديم الفائدة.

-"حسنا، ربما أنا فقط أقلق أكثر من اللازم، لكن هل أنت متأكده أنك لا تريدين استئجار مكان صغير بالقرب من هنا معى؟"

أصبحنا أنا و"كين" الصغير صامتين. طنين الحشرات، رائحة الأرض، الضوء المتسلل من خلال الأوراق التى تتحرك عبر الأرجاء.

قلت أخيرًا:  

- "أتعلم، شخص كنت أعرفه سابقًا طلب منى مؤخرًا الانضمام إلى طاقم متجر جديد تفتتحه شركته".

- "حقًا؟ هذا رائع!" 

أجاب بسعادة، كما لو كان قد تم إبلاغه بحظه الجيد.

- "لكننى لا أعرف – جزء منى يريد أن يفعل ذلك، وجزء لا يريد."

- "حسنًا، مع كل ما حدث، من الطبيعى أن تكون لديك مشاعر مختلطة..."

قلت بحدة خرجت بأكثر مما قصدت:

- "ليس هذا،" 

بينما اتسعت عينا "كين" الصغير. 

كنت أعلم أنه عاجلاً أم آجلاً، سأعود إلى المسار الصحيح، وأعود إلى المجتمع، وأعود إلى العمل. سيكون لدى شكوك، ولكن حتى مع ذلك، سأبدأ فى السعى مرة أخرى، وأدفع نفسى أكثر فأكثر. جعلنى هذا أشعر بالحزن. كانت طبيعة الإنسان أن يتعثر ويسقط، أن يتألم ثم يشفى ويقف مرة أخرى ليقاتل يومًا آخر. وكنت أكره ذلك. فى مرحلة ما، بدأت أكره قدرة قلبى وجسدى على الشفاء والمضى قدمًا.

- "أعنى، عندما أكون مشغولة مرة أخرى، لن يكون لدى كل هذا الوقت الفارغ لأقضيه معك كما كنت أفعل." 

بمجرد أن قلت ذلك، فكرت، "يا للهول ماذا اقول"

قال وهو ينظر إلى الأرض،

- "إذن كنتِ معى فقط لتمضية الوقت؟" .

- "لم أقصد ذلك."

- "لا بأس، أنا أفهم. بمجرد أن تعودى إلى حياتك الطبيعية وتبدئى العمل مرة أخرى، ماذا يمكن لرجل "لا شىء" مثلى أن يقدم لك؟"

"لا"، قلت ذلك، لكن " كين" نهض وألقى العلبة الفارغة بعيدًا. وجدت أننى لم أستطع أن أناديه وهو يهرب فى الطريق الذى كنا نسير فيه معًا، يدًا بيد، قبل قليل.

لم أقضِ أبدًا الكثير من الوقت فى انتظار أن يتصل بى شخص كما فعلت فى ذلك الوقت. لكن "كين" الصغير لم يتصل أبدًا، لا بعد ثلاثة أيام، ولا سبعة، ولا عشرة. وفى الليلة التى قررت فيها أن أتحلى بالشجاعة وأتصل به بنفسى، لم أستطع العثور على الورقة التى كتب عليها رقمه.

وبغض النظر على كمية الوقت الذى قضيته بحثاً عنها فى شقتى، فاننى لم اجدها، وفى النهاية استسلمت. 

لعل الأمر كان كما قال، لأنه إذا لم يكن كذلك، لما كنتُ قد فقدت رقمه.

فى اليوم التالى، رن هاتفى؛ سارعت للإجابة، لكن اتضح أن المتصل كانت "أسوكا". 

إنها ولسبب ما، تعتذر بشكلٍ مستمر. كنت فى حيرة من أمرى، وأنا أحاول فهم ما الذى تعتذر عنه، حتى تذكرت الدمى المحشوة التى أرسلتها إلى.

- "لقد أرسلتُ لك العديد من الرسائل الإلكترونية ولم تردى أبدًا، لذا ظننتُ أننى قد أزعجتك حقًا."

- "لا بأس على الإطلاق، لقد انتهى بى الأمر حتى إلى إنشاء موقع إلكترونى." ويبدو أن سماع ذلك هدأ من روعها. لقد خضنا العديد من المشاجرات منذ أن كنا أطفالًا، لكن لم تكن أى منها سيئة بما يكفى لدرجة أننا لم نستطع التصالح بعدها.

قالت:

- "لا أصدق أننى أقول هذا بعد أن فعلت شيئًا قاسيًا كهذا، لكن لدى طلبًا، هل يمكنك مساعدة أطفالى فى واجباتهم الصيفية؟" 

عادة ما كان زوجها يساعد الأطفال فى إكمال مشاريعهم لفصل الفن فى الأيام الأخيرة من أغسطس، لكن هذا العام، تم استدعاؤه فجأة فى مهمة عمل. 

- "إنه جيد جدًا فى استخدام يديه، لكننى عديمة الفائدة تمامًا. لدى أيضًا عمل طوال اليوم، لذا لا أعرف ماذا أفعل."

لم أر أطفال "أسوكا" منذ أكثر من خمس سنوات. الأطفال ليسوا بالضبط مجال قوتى، وشعرت نوعًا ما أن الأطفال يجب أن يُتوقع منهم أن يقوموا بواجباتهم بأنفسهم، لكن لن يكون هناك الكثير من الضغط مع غياب زوجها، ويبدو أن هذه كانت طريقة "أسوكا" فى تقديم غصن زيتون. فكرت أنه من الأفضل أن أفعل هذا بدلًا من أن أتسكع فى هذه الشقة المروعة طوال اليوم.

أراد الأطفال أن أريهم كيف يصنعون الحيوانات التى أخذتها أمهم منهم بشكل غامض، لكن بدا مستحيلًا أن أعلم طفلين شيئًا معقدًا كهذا فى بضعة أيام. ظننت أن المعلم سيتفاعل بشكل أفضل مع شىء أكثر طفولية، لذا بحثت عن كيفية صنع الورق المعجون وذهبت إلى منزل "أسوكا".

كانت شقتها تقع فى صف طويل من الأبراج على بعد ساعة بالقطار السريع من المدينة. كانت بنفس حجم الشقة التي كنت أشاركها مع زوجى، لكنها كانت تسع عائلة مكونة من أربعة أفراد، وليس اثنين فقط.

كان طفلها الأكبر فى الصف السادس وكان يشبه الشخص البالغ الصغير، حيث رحب بى بشكل رسمى عندما دخلت من الباب. أما طفلتها الأصغر، "رينكو"، كانت فى الصف الثالث؛ خجولة وهادئة، كانت تتلوى بعصبية خلف تنورة "أسوكا". بينما كنا أنا و"أسوكا" نشرب الشاى، لم يتردد ابنها فى الاقتراب والتحدث معنا، ويسأل إذا كان يمكنه لعب ألعاب الفيديو أو إذا كان بإمكاننا مساعدته في واجبات الرياضيات. أما "رينكو"، فجلست فى صمت فى الزاوية البعيدة من الغرفة، تختلس النظر إلينا بين الحين والآخر. الأطفال كانوا مصدر إزعاج، سواء كانوا مباشرين أو تركوك وشأنك. لكن بعد كل شىء، كانوا يومين فقط، وبدت "أسوكا" ممتنة جدًا.

يمكنك شراء الورق المعجون جاهزًا من المتجر، لكننى ظننت أن تلك العملية جزء من المتعة. وبينما كنت أبدأ فى تقطيع الورق إلى شرائح، اقتربت منى الفتاة وقالت: 

- "هل يمكننى أن أجرب أيضًا؟"

- "إنه واجبك! لن يكون صحيحًا إذا لم تساعدى."

ناولتها الصحيفة والمقص، وبدأت فى القطع. وضعنا الشرائح فى الماء لننقعها، ثم غليناها فى قدر كبير. هذا كان كل ما فعلناه، وانضممت إلى الأطفال لتناول العشاء الذى أعدته "أسوكا". دخلت الى الحمام ووجدت على الميزان أن وزنى ارتفع إلى خمسين كيلو.

فى صباح اليوم التالى، بعد أن غادرت "أسوكا" إلى العمل، أضفنا الدقيق والماء إلى الصحيفة التي تحولت خلال الليل إلى عجينة. بدا أن هذا أثار اهتمام الولد أكثر من الفتاة؛ "سأفعلها"، أخبرنى قبل أن يبدأ فى تحريك الخليط. عندما أصبح جاهزًا، بدأت فى تغطية وعاء بغلاف بلاستيكى ونشر الورق المعجون بعناية على السطح. عندما أزلت الوعاء، احتفظ الورق المعجون بالشكل، ونظر  الأطفال إليه بفرح.

بدأ الولد على الفور فى صنع أشياء مثل الوحوش والسيارات والبراز المزيف، لكن أخته بدت فى حيرة. أخرجت بعض الأطباق الأخرى لتحاول استخدامها كقوالب، لكنها لم تكن جيدة جدًا فى ذلك. على الرغم من عدم إتقانها، وجدت أن الأشكال التى صنعتها لطيفة، ووضعتها جانبًا دون محاولة إصلاحها. بعد وقت قصير، ذهب الولد للعب مع صديق، تاركًا الفتاة وأنا وحدنا لتزيين الأشكال بألوان الأكريليك. اتضح أن حاسة "رينكو" الصغيرة للألوان كانت ممتازة. رسمت أنماطًا على الأطباق التى صنعتها، وخرجت بشكل جميل جدًا؛ بدت وكأنها محترفة في حمل الفرشاة. أخبرتها كم أعتقد أنها تبلى بلاءً حسنًا، فابتسمت بخجل ردًا على ذلك.

- "أنتِ من صنعتِ لنا "بيكاتشو"، أليس كذلك؟"

كنا نجلس في غرفة المعيشة، نرسم إبداعاتنا فوق صحف وضعت لحماية السجادة، عندما همست لى بهذا السؤال. أصبحت الغرفة هادئة وساكنة.

- "أحببته، لكن أمى أخذته. قالت إنها استعارته فقط وكان علينا إعادته."

- "إذا أردتِ، يمكننى أن أعطيه لكِ"، عندما قلت ذلك، بدت متفكرة.

- "هل كان صعب الصنع؟"

- "صعب نوعًا ما. هل استخدمتِ الإبرة والخيط من قبل؟"

- "لا."

- "حسنًا، سأريك كيف تفعلين ذلك فى المرة القادمة."

تألقت عيناها.

- "هل تعتقدين حقًا أننى أستطيع فعل ذلك؟"

- "بالطبع."

انتهينا من طلاء قطعها، وعندما عاد أخوها، جعلناه يطلى قطعته أيضًا — وحوشه، سياراته، برازه. اتضح أن حسه للألوان كان سيئًا نوعًا ما، لكنه كان مجرد مشروع مدرسة ابتدائية: تلك كانت طبيعة المهمة، كما أظن.

بدت الفتاة وكأنها تخطت تمامًا حذرها الأولى وأصرت على أن ترافقنى فى الحمام وأن ننام فى نفس السرير. وبختها "أسوكا"، "لا تكونى مصدر إزعاج، "رينكو"،  لكننى كنت سعيدة. لم أكن أشعر وكأننى حصلت على طفل خاص بى؛ كان الأمر أشبه بأننى أصبحت واحدة أخرى من أطفال "أسوكا".

وهكذا وجدت نفسى محتضنة تحت بطانية مع "رينكو" الصغيرة، فى السرير فى الساعة المتأخرة بشكل لا يصدق وهى التاسعة مساءً. بعد إطفاء ضوء السرير، دفنت "رينكو" وجهها فى وسادتها وقالت: 

- "على العودة إلى المدرسة غدًا."

- "ألا تريدين الذهاب؟"

- "أريد! أريد! لقد صنعت كل هذه الأشياء، أريد أن أريها للجميع!"

فكرت للحظة ثم سألتها، بينما كنت أحدق فى السقف: 

- "لماذا نذهب إلى المدرسة أصلًا؟".

فكرت فى أن أى طفل فى المدرسة الابتدائية لن يكون لديه إجابة على ذلك. لكن "رينكو" الصغيرة كانت لديها إجابة.

- "إنها ممتعة. وأستطيع رؤية أصدقائى هناك."

بينما كنت أفكر فى هذا الرد، غرقت فى النوم. كانت ذراعاها ملتفة حولى، وكذلك إحدى ساقيها. كان الجو حارًا جدًا لأن يتم احتضانى بهذه القوة من قبل طفل. كانت رائحة شعرها تشبه رائحة البطيخ الذى أكلناه بعد العشاء.

أغمضت عينى وتذكرت قضاء العطلات الصيفية مع "أسوكا". فى المدرسة الابتدائية، كانت صغيرة وضعيفة، وكان الأولاد غالبًا ما يضايقونها ويبكونها. كنت أمسك بالأولاد وأضربهم من أجلها. لكننى كنت أنا التى كنت أبكى أكثر مما كانت تبكى، بسبب والدى، الذين لم يبتسما لى أبدًا إلا إذا كنت أريهم تقريرًا مدرسيًا ممتازاً. كانت "أسوكا" دائمًا هناك لتأخذ بيدى، لتهدئنى.

اليوم كان آخر يوم فى عطلتى الصيفية أيضًا. لم أقرر بعد كيف سأرد على "هيودو". 

هل فى مثل عمرى، يمكن أن يكون الأمر بتلك البساطة أيضاً ، الاستمتاع، ورؤية أصدقائى؟ أردت أن أناقش الأمر مع "كين" الصغير. لكنه بالتأكيد يكرهنى الآن. أردت أن أمر بمنزله دون سابق إنذار، لكننى كنت خائفة من أن يرفضنى عند الباب.

احتضنت طفلة صديقتى بقوة وبدأت فى البكاء. تحولت دموعى إلى المزيد والمزيد، حتى تحول بكائى إلى نوبات شديدة. شعرت أن الطفلة قد استيقظت مذعورة.

"ماما، ماما، إنها تبكى!" نادت الطفلة، بصوت بدأ يتحول إلى بكاء مماثل لبكائى. استمعت إلى صوت خطواتها وهى تهرب إلى أمها طلبًا للنجدة.■ 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة