المشاركات

الذكاء ليس كافيًا!

صورة
لطالما راود الفكر الإنسانى سؤال بسيط فى ظاهره، عميق فى جوهره: لماذا تتقدم بعض الأمم بينما تظل أخرى تراوح مكانها؟ وإذا كان الذكاء قدرة بيولوجية تكاد تكون متساوية بين البشر، فلماذا إذًا لا تتساوى الحضارات فى إبداعها وإنتاجها ونموها؟ ليست المشكلة فى الذكاء كقدرة عقلية، بل فى ما يفعله البشر بهذا الذكاء. فالأدمغة متقاربة، لكن ما تصنعه الشعوب من عادات، ومؤسسات، وأخلاق، وقيم، ومناهج تربية وتفكير—كل ذلك يصنع ما يمكن أن نسميه "الذكاء المجتمعى" أو "الذكاء الحضارى"، وهو العامل الحاسم فى الفارق بين الأمم. إن الثقافة التى تقوم بإنتاج العقل المتسائل، والتخصص الذى يقوم بانضاج الخبرات والشغف الذى يمنح العمل روحًا مميزة... كل ذلك ليس ترفًا، بل هو جوهر التحوّل من مجرد التواجد، إلى الفعل والتأثير. سنحاول فى هذا المقال، رسم المشهد من جديد: دعونا نتأمل تطور الذكاء البشرى لا بوصفه قدرة طبيعية فقط، بل بوصفه إنجازًا ثقافياً اجتماعيًا تراكم عبر قرون من التعاون والتخصص والنمو الثقافى. كما سنتوقف عند نقطة تميل العلوم الحديثة أحيانًا لتجاهلها: وهى هؤلاء القلة المحظوظة التى يعمل أفرادها بشغف، و...

مع صمت الكون ... نحن نصغى

صورة
  منذ رفع الإنسان عينيه إلى السماء، كان السؤال يترد داخله: هل هناك مَن ينظر إلينا من بعيد؟ هل نحن وحدنا فى هذا الاتساع الأبدى؟ ورغم كل التقدم العلمى والتكنولوجى، ما زال الجواب غامضًا، مراوغًا، يختبئ خلف المجرات البعيدة والسدم التى لم يصلنا ضوؤها بعد. لكن حتى لو أغفلنا تلك المناطق من الكون التى لم يصل إلينا ضوؤها، واكتفينا فقط بما هو "مرئى" — أى ذلك الجزء من الكون الذى أضاء لنا بوميضه منذ الانفجار العظيم — فهل يكفى هذا الاتساع لنفترض وجود حياة أخرى؟ فى كون يتسع بسرعة متزايدة، تصبح حدود الرؤية نسبية، وتتراجع أمامنا كلما تطورنا. ومع ذلك، يظل الكون المرئى يحتوى على ما يُقدَّر بنحو مئتى مليار مجرة، كل منها تضم مئات المليارات من النجوم، وربما تريليونات الكواكب. ومع كل هذا، لا تزال الحياة — كما نعرفها — حكرًا على هذا الكوكب الصغير، الأزرق، العابر فى مجرة نائية على هامش السماء. بين الكيمياء والاحتمالات: عندما نتحدث عن "الحياة"، فإننا عادة ما نقصد بذلك تعريفٍ ضيقٍ نسبيًا، مستمدٍّ من تجربتنا الأرضية. نحن نعرف الحياة بالطريقة التى تطورت بها على كوكب الأرض: البنية الكربونية، ال...

سيناريو: قصر الرمال

صورة
  المشهد الأول: القصر الرئاسى - قاعة العرش - ليلًا الوصف: قاعة فخمة مضاءة بثريات ذهبية تتأرجح ببطء، تعكس الضوء على الجدران المزينة بصور الجنرال "حيدر قابض" فى زى عسكرى متأنق. النوافذ مغلقة بستائر قرمزية ثقيلة، والجو مشحون بالتوتر. "حيدر"، رجل فى الستينيات، شارب كثيف ووجه متعب، يجلس على كرسى مرتفع كالعرش. بجانبه زوجته، امرأة مكتزة لم تنل قسطاً من التعليم فعوضت ذلك بتغيير إسمها من "حكمت" إلى "الحكمة"، ترتدى فستانًا مرصعًا بالجواهر، بينما تحاول إخفاء قلقها خلف ابتسامة متعجرفة. يقف أمامهم وزير الداخلية، "سيف الظلام"، بعيون حادة كالصقر، ومجموعة من الوزراء الخائفين. صوت ساعة حائط قديمة يطقطق ببطء، ممزوجا بأصوات همهمات الوزراء وصوت رياح خافتة تتسلل من شقوق النوافذ. حيدر : (يصرخ، وصوته يتردد فى القاعة): كيف يجرؤ هؤلاء الفئران على أن يتحدونى؟! أخبرنى يا"سيف" أنك أمسكت بهم! سيف الظلام : (بنبرة باردة، بينما يعبث بسكين صغير) سيدى، "أبناء الحرية" هؤلاء ليسوا سوى مجرد خيالات.  ستبتلعهم سجونى، لكن على أن أقول... الشعب بدأ يتحرك. ال...

توثيق الحديث: (إعادة تعريف المعايير) للدكتور "إسرار أحمد خان"

صورة
 يعد كتاب (توثيق الحديث: إعادة تعريف المعايير) Authentication of Hadith: Redefining the Criteria" للدكتور "إسرار أحمد خان" عملاً بحثيًا مهمًا ومثيرًا للجدل فى مجال دراسات الحديث النبوى. يسعى الكتاب إلى إعادة تقييم المنهجيات التقليدية المستخدمة لتوثيق الأحاديث النبوية، ويقدم اقتراحات جريئة لمعايير جديدة، خاصة فى سياق التحديات الفكرية المعاصرة.  يشير المؤلف إلى أن معظم الجهود فى توثيق الأحاديث تركزت تقليدياً على سلسلة النقل (الإسناد) مع إعطاء اهتمام أقل نسبياً لدراسة نص الحديث. يرى المؤلف أن التركيز على استمرارية ودقة سلسلة الرواة، بدلاً من المحتوى النصى للحديث، قد أدى إلى إدراج أحاديث معينة قد تكون مشكوكاً فى صحتها. ا لسياق والأهمية: تعتبر دراسة الحديث النبوى حجر رئيسى فى فهم الإسلام وتطبيقه، ولطالما اعتمد علماء الحديث على نظام معقد لتقييم صحة الأحاديث، يعتمد بشكل أساسى على "الإسناد" (سلسلة الرواة) و"المتن" (نص الحديث). مع ذلك، يرى الدكتور "خان" أن هذا النظام، على الرغم من عظمته التاريخية، قد يحتاج إلى مراجعة فى عصرنا الحالى، خاصة مع تزايد ال...

الزمن بين "فيزياء الكم" وفلسفة "المعتزلة": هل نحن صُنّاع الحاضر؟

صورة
"لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، بل بعدد اللحظات التى نضيئها بوعينا." أيها العابر فى ممرّ الأيام، هل ظننت أنّ الزمن طريقٌ واحد، معبّد بخطوات الماضى، ينتهى إلى باب المستقبل؟ لا، الزمن ليس نهرًا يجرى وحده، ولا هو كتابٌ مكتوب منذ الأزل، بل هو حديقة من احتمالات لا تزهر إلا حين نلمسها بوعينا. فى صمت المختبرات، حيث تترقّب الإلكترونات أنفاس العلماء، يحدث السحر: كل جسيمٍ ينتظر عينًا تراه، وقرارًا يُثبّت وجوده. ما لم نُراقبه، يظلّ سرابًا، كالحلم قبل أن يُروى. وهنا يُطلّ السؤال الذى أدهش الحكماء: هل حياتنا، مثل هذه الجسيمات، ليست واقعًا إلا حين نختار أن نراها، أن نصنعها، أن نمنحها فعلًا يوقظها من سباتها؟ لقد عرف "المعتزلة"، فى فجر الفلسفة الإسلامية، سرًّا قريبًا من هذا، حين قالوا إن الإنسان خالقٌ لأفعاله. لم يقبلوا أن يكون الإنسان ظلًّا عابرًا فى مسرح القدر، بل رأوه شعلةً تضئ الظلام وتترك أثرها فى صفحة الكون. إنهم قالوا لنا منذ قرون: "لا تنتظر أن يُكتب لك الطريق، بل اكتبه أنت." ألا ترى أن الزمن نفسه ينتظر؟ ينتظر وعينا ليكتمل، وينتظر قرارنا لنُعلن لحظة الحاضر كأنها ولاد...

الشك الميتافيزيقى

صورة
 يجادل "جاكوب بيل" هنا بأنه لا يمكننا تحديد الطبيعة النهائية للواقع. يمكن اعتبار أن "الميتافيزيقيا" هى البحث فى الطبيعة النهائية أو الجوهرية للواقع. بمعنى آخر، هى محاولة لكشف ووصف ماهية الأشياء وكيفية وجودها على مستوى أساسى.  يبدو أن أكثر أنواع "الميتافيزيقيا" شيوعًا يركز على تحديد ما إذا كان من الأفضل وصف العالم بأنه مادى، أو عقلى، أو محايد، أو هو مزيج من هذه العناصر. لا يوجد اختلاف حول أغلب الأسئلة التى تسعى "الميتافيزيقيا" لبحثها. ولكننا هنا معنيين بالمذاهب الميتافيزيقية التى تقوم بطرح ادعاءات كبرى، من قبيل أن "كل شىء مادى" أو "كل شىء عقلى".  من الأمثلة الشائعة على ذلك التوجه المذاهب "المادية" و"المثالية".  أما المذاهب الأقل شيوعًا والتى تكتسب شعبية، فتشمل "الأحادية المحايدة" و"الروحانية الشاملة".   سنكتفى بوصف موجز للموقفين الأكثر شيوعًا.  تشير "المادية" إلى أن كل ما هو موجود هو "مادى"، بما فى ذلك الأفكار والأرقام والعقول والوعى (إن وُجدت هذه الأشياء من الأصل بال...

الإسلام بين العقل والروح والبحث عن المعنى

صورة
 أحسب أن الدين، أى دين، ليس فقط نصوصًا تُتلى، ولا هو طقوس يتم تأديتها بآلية جامدة، وإنما هو رحلة الإنسان فى البحث عن المعنى، إنه سعيه الدائم ليكون حرًّا أمام "الله"، مسؤولًا أمام نفسه، وأمام العالم. و"الإسلام"، فى جوهره الأصيل، لم يكن يومًا إلا هذا المعنى العظيم؛ نورًا يضىء العقول، ورحمة تسكن القلوب، وجمالًا يفيض على الوجود. غير أننا فى زمننا هذا، فقدنا شيئًا من هذا النور، حين صارت الأصوات الأعلى هى أصوات التشدد، وصار العقل يتوه بين ركام الفتاوى، والروح تتخبط بين صغائر الأمور. ولست أظن أن الحل يكمن فى هدم التراث، ولا فى تقديسه، بل فى إحياء ذلك الحوار العميق بين العقل والروح، الذى صنع ذات يوم حضارة لم يعرف التاريخ أزهى منها. هذه ليست سوى محاولة متواضعة، لنستعيد سوياً: - نور العقل المعتزلى، الذى أراد أن يكون الإيمان فعل وعى لا تقليد. - دفء الروح الصوفية، التى جعلت من الدين قصيدة حب كبرى. وصوت الإصلاح الحديث، الذى حمله مفكرون وفلاسفة من أمثال "محمد عبده" و"الافغانى"، وتردد صداه فى كلمات "طه حسين"، حين دعا إلى أن يكون الدين نورًا للعقل لا ق...