تعددية القِيَم وتعددية الخيارات
"يُحقق كل إنسان ذاته من خلال تحقيق نوع من الإنسانية" - جان بول سارتر.
تحظى التعددية بمعناها الأوسع، بقبول عام. فبالكاد قد يُجادل أحد بأن تعايش أنواع مختلفة من البشر، ممن يتخذون خيارات مختلفة بناءً على آراء متباينة، هو أمرٌ ضارٌ بالمجتمع.
تُؤيد جميع أنظمة القيم المعنية من الليبرالية إلى اللاسلطوية إلى التحررية، حرية الاختيار : فعدم تمكين الخيارات التى يتخذها أنماطٌ مختلفة من الناس لن يُظهر طرقًا مختلفة فى التفكير، وبالتالى لا يمكن وصفه بـ"الحرية" بأى شكلٍ من الأشكال.
حتى النظريات "النفعية"، مع تركيزها على تعظيم مجموع السعادة، فهى تعتمد على التنوع. يخلص "جون ستيوارت ميل"، صاحب نظرية النفعية، إلى نتيجة حقيقية، وهى أنه "بقدر ما تتطور الشخصيه الفردية، تزداد قيمةً كل فرد، وبالتالى يكون قادرًا على أن يكون أكثر قيمةً للآخرين".
وتتعلق المساواة أيضًا بالتنوع، لأنها تُقدّر اختلافات الناس. إن تعزيز قيم المساواة فى مجتمع يتصرف فيه الجميع ويفكرون بنفس الطريقة سيكون بلا قيمة تُذكر. فينبغى أن تعكس المساواة رؤيةً كريمةً وإنسانيةً وعالميةً لمجتمع يُقرّ بالأفراد على قدم المساواة بكل تنوعهم.
بل أن التقليديون أيضاً يجب أن يُرحّبوا بقدر مُعين من التنوع، لأن جميع التقاليد تقوم على قيام الناس بأدوارٍ مُختلفةٍ، ولكل دورٍ مجموعةٌ خاصةٌ به من الواجبات والمسؤوليات.
وعلى حين يختلف مؤيدو أنظمة القيم المختلفة حول طبيعة وحجم السمات الفردية المرغوبة، إلا أن لا أحد منهم يُشكك جدياً فى القيمة الجوهرية للتنوع نفسه.
تُرحّب الحركات الاجتماعية التى تُكافح التمييز على أساس النوع أو الجنس أو العرق أو الإثنية أو الدين بالتنوع، ويستغل معظمها نظامها لإثبات وجهة النظر الأخلاقية حول قيمة التنوع.
على سبيل المثال، التنوع فى مجال الأعمال لا يهدف إلى تحدى القيم الليبرالية، وانما يهدف بشكل واضح إلى جعل الأعمال أكثر عدالة. لو تمكنا جميعاً من المشاركة فى منظومة الاقتصاد الحر والحكم علينا جميعاً فقط بناءً على أدائنا الاقتصادى، يكون التنوع حينها مفيداً للاقتصاد ككل.
وفى الشؤون العامة، فإن إعطاء صوت للأقليات يسمح لها بالاندماج فى الأنظمة السياسية القائمة. وهو الأمر الذى كثيراً ما يُدافع عنه سياسيون من التيار الرئيسى بغرض إضفاء الشرعية على سلطتهم، فالتنوع، فى هذه الحالة هو جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسى الراسخ.
من المفارقات إذن، أن ما يجعل الحركات الاجتماعية الداعية للتنوع تحظى بشعبية كبيرة هو أنها مدفوعة باتفاق أخلاقى؛ أى، على حد تعبير الفيلسوف "جون كيكيس": "الإيمان بوجود نظام قيمى واحد معقول". ولأن الناس شغوفون بفهمهم للعدالة والديمقراطية والإنصاف، فإنهم يحرصون بشدة على جعله شاملًا.
تعددية القيم:
تنص تعددية القيم على أن "الأهداف الإنسانية متعددة، وليست كلها متساوية، وهى فى حالة تنافس دائم مع بعضها البعض".
فتعددية القيم هى أكثر إلحاحًا من مجرد الإيمان بالتنوع. هذه التعددية فى أنقى صورها لا تتعلق فقط بالاختيار والتنوع فى سياق نظام قيمى معين، بل تتعلق أيضًا بتعدد أنظمة القيم نفسها. إنها تتعلق بالجمع بين الناس الذين لا يتشاركون القيم نفسها، وبالتالى لا يبنون قراراتهم على مبادئ العدالة والمساواة والإنصاف نفسها.
إن التعددية القيمية تتمنى لنا ما نتمناه لأنفسنا، إذ لا تحاول فرض أى أيديولوجية علينا سوى أن يكون الناس أحرارًا فى اعتناق نظام القيم الذى يختارونه.
قلة قليلة من الناس ستنزل إلى الشوارع للدفاع، ليس عما يؤمنون به، بل عن قدرتهم على التفكير بشكل مختلف عن قيمهم. فى الواقع، تبدو فكرة النضال من أجل قيم لا نؤمن بها نحن أنفسنا غير منطقية، ومحكوم عليها بالفشل. لماذا لا نناضل ببساطة من أجل فهمنا الشخصى لما هو صواب أو خطأ، ولمن يستحق ماذا، ولأى هدف جدير بالاهتمام أم لا؟
إن تعدد مساعينا أمرٌ جدير بالاحتفاء لأنه يجعل الحياة مثيرة للاهتمام، وغنية، ومليئة بالإمكانيات، ويوفر أحد أقوى الدوافع التى تجعلنا مهتمين ببعضنا البعض. لذا، قد لا يكون السبب النهائى للعيش معًا هو أننا نتشارك القيم، بل أننا لا نتشاركها، وأننا نُقدّر الاختلاف المعرفى فيما بيننا. إن التعددية الحقيقية تعنى الانخراط فى سعى وجودى لا يُمكن فيه لأى نظام قيمى واحد أو سردية عالمية أن تُحدد وجودنا المشترك.
يتولى التعدديون المهمة الشاقة المتمثلة فى تحدى قناعاتنا، ليس لأنهم يرغبون فى منعنا من التصرف وفقًا لقيمنا الخاصة، بل لأنهم يؤمنون بأنه لا ينبغى وضع أى نظام قيمى فوق الآخر.
لذلك ليس من المستغرب أن يُواجَه دعاة التعددية القيمية بمقاومة شرسة فى كثير من الأحيان، حين يُوصَمون ببعض الخرافات الخطأً من قبيل أنهم فوضويون ساذجون وخطيرون، أو مثاليون يفتقرون إلى الحس العملى.
الخيارات ذات العواقب:
الخرافة الأولى التى يجب علينا دحضها، وهى خرافة مُقلقة للغاية لجميع التعدديين. إنها الافتراض الخاطئ بأن تعزيز التنوع فى الخيارات يعنى جعل خياراتنا الحياتية غير ذات أهمية.
اختيار متابعة الدراسات الأكاديمية، أو الدخول فى علاقة عاطفية، أو الانخراط فى العمل السياسى، كلها خيارات ذات عواقب: تفتح أبوابًا وتغلق أخرى. وهذه هى مفارقة الاختيار الحر، إذ أن حرية ما قد تصبح تقييد لأنفسنا فى نفس الوقت: أى يصبح علينا إختيار أى جزء من حريتنا نكون مستعدين للتضحية به لممارسة أجزاء أخرى. لكن فقدان جزء من حريتنا يُعطى فى نفس الوقت معنى لمهنة، أو علاقة حب، أو مشاركة سياسية.
الاختيار الحر، الذى يتم فهمه باعتباره القدرة على السعى وراء ما نريد دون تحمل أى عواقب، هو خرافة روّجت لها وسائل الإعلام الترفيهية والإعلانات الاستهلاكية. فوفقًا للدعاية الاستهلاكية، أفضل طريقة لتعزيز التعددية هى جعل جميع خياراتنا سهلة قدر الإمكان - كشراء منتج عبر الإنترنت وتوصيله إلى باب منزلنا، دون أى عواقب علينا أو على العالم من حولنا.
فى مثل هذه العملية، لو كان من الممكن تبسيط جميع رغباتنا وطموحاتنا بهذه الطريقة لتمكن التقدم التكنولوجى والصناعى من حل بقية مشاكلنا مع تحسين الإنتاج. حينها، سنتمكن حينها من شراء المزيد من الأشياء دون عناء، واتخاذ المزيد من الخيارات، والشعور بأن لدينا فرصًا أكبر لتحقيق أهدافنا باكثر من ذى قبل.
إحدى المشكلات الكبرى فى هذا التفسير "الاستهلاكى" لحرية الاختيار هى أن الخيارات المجردة من العواقب تفقد، عاجلاً أم آجلاً، الكثير من معناها. قد لا يعنى لنا اختيار شراء شىء آخر عبر الإنترنت الكثير، لأنه قد لا يمثل التزامًا جديا بأى شىء. علاوة على ذلك، إذا لم نكن منتبهين، فقد تسوق الإعلانات خيارات المستهلكين بحيث نفقد كل معنى حقيقى، وتصبح الحياة لعبة بلا هدف أسمى أو أنبل.
قد يظن البعض أن السفر والتجوال هو هدف أسمى فى الحياة من مجرد شراء المنتجات. فالسفر يعنى اكتشاف ثقافات وبيئات جديدة، وبالتالى توسيع آفاقنا. ومع ذلك، فإن كل من سافر كثيرًا يعلم أن حتى هذا ليس بلا حدود. كلما زادت رحلاتنا، قلّت احتمالية إثراء كل رحلة جديدة لوجودنا بخبرات جديدة. وكما هو الحال مع الاستهلاك، فقد يشكل هذا ستارًا يمنعنا من التفكير فى خيارات أخرى فى الحياة.
ينبغى على التعدديين الامتناع عن الانحياز إلى أى طرف من أطراف منظومة القيم، وبالتالى لا ينبغى لهم، على سبيل المثال، الزعم بأن أى مسعى فى الحياة لا معنى له إذا أصبح سهلًا. ومع ذلك، فإن التعددية القيمية لا تعنى تسهيل السعى وراء كل ما نريد أو الإيمان به، بل فى اتخاذ خيارات ذات معنى. ولكى تكون مساعينا ذات معنى، يجب أن تكون ذات عواقب، أى أنها يجب أن تحد من خياراتنا المستقبلية.
وحتى الخيارات ذات العواقب، فإن لها حدود أيضًا. من غير المرجح أن تزيد الخيارات التى تُحدد حياة المرء بأكملها بجميع جوانبها من تعدد الخيارات المتاحة. بل إن عواقبها ستكون حينها وخيمة لدرجة أنها قد تجعل من المستحيل السعى وراء أى هدف آخر أو تغيير منظومة قيمنا. هذه العواقب الوخيمة تجعل عددًا محدودًا من الخيارات ذا معنى بالغ، ولكن على حساب أى خيارات أخرى. لذا، مهما كانت مسيرتنا المهنية أو علاقاتنا أو انتماءاتنا السياسية، فلا ينبغى لها أبدًا أن تُملى علينا وجودنا بأكمله.
يريد التعدديون منا أن نسعى وراء معتقداتنا: ولكن ليس بهذه السهولة التى يُفقد فيها الخيار معناه، وأيضاً ليس بهذه الصعوبة التى تجعل التغيير مستحيلاً. إذن، بعيدًا عن السعى التبسيطى وراء الخيارات السهلة، فإن تعددية القيم ممارسة ذاتية تهدف إلى تعظيم تعددية الخيارات.
لا يُروج التعدديون إذن للخيار الحر (وهذه خرافة أخرى)، بل لتعددية الخيارات.
الحياة مليئة بالقيم والخيارات المتنافسة؛ ومن المستحيل علينا اختيارها جميعًا. هذا ما يجعل من الاختيار امرا مثيرًا للاهتمام وأيضاً وجوديًا: فببساطة، لا يمكننا اختيار كل شىء. لذا، فإن أفضل طريقة لتعزيز تعددية الخيارات ليست جعل جميع الخيارات ممكنة للجميع فى جميع الأوقات، بل ضمان قدرة الناس على اتخاذ خيارات ذات معنى لا تنتمى جميعها إلى نفس منظومة القيم، بحيث يتم، بشكل عام، استكشاف أقصى قدر من الخيارات الحرة وتحقيقها فى المجتمع.
تحقيق الخيارات:
لتعظيم الخيارات الفردية، علينا أن نكون أكثر دقة فى التمييز بين الخيارات المهمة وغير المهمة. فالخيارات "غير المهمة"، من حيث عدم تأثيرها على خيارات الفرد المستقبلية، قد تؤثر بطرق أخرى على هويتنا.
فالسفر، وتناول الخضراوات، وكتابة المنشورات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعى، قد تكون قرارات غير مهمة نسبيًا عندما يُتخذ كل منها على حدة؛ أما تكرارها المستمر فهو المهم. وعندما تتكرر، تصبح وسائل للناس لتأكيد قناعاتهم وإعادة تأكيد التزامهم بمنظومة قيمية ما. إنها تُصبح ما يمكن تسميته خيارات مُحققة. إن اتخاذ خيارات مُحققة أمرٌ مهم لأنه يسمح لنا بعيش قيمنا، مُجسدين إياها ورؤيتنا لمعنى أن تكون إنسانًا.
أحيانًا، قد نتخذ خياراتنا الصغيرة المُكررة قبل أن نُدرك أهميتها.
قد يبدو الاستمتاع بالمشى كل صباح أمرًا غير مهم، حتى نُدرك أننا لا نستطيع العيش فى مكان لا يسمح لنا بالحفاظ على هذا الروتين. قد تكون الخيارات التى تتحول إلى عادات خيارات حياتية ضمنية. لذلك، يجب على التعدديين توخى الحذر عند النظر فى مثل هذه الخيارات، لأنها لا تعمل كالقرارات؛ فهى غالبًا ما تكون غير واعية، ومع ذلك فإن أهميتها قد تكون هائلة.
يُعد شراء ملابس رخيصة مثالًا واضحًا على قرار غير ذى أهمية نسبيًا، لأنه لا يتطلب التزامًا كبيرًا منا. لكن جميع هذه المشتريات غير المهمة، مجتمعة، يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة على البيئة، أو على رفاهية عمال المصانع.
مرة أخرى، يجب على التعدديين الامتناع عن الحكم على منظومة القيم التى تحفز مثل هذه المشتريات. فى الواقع، يمكن للملابس أن تكون أداة فى بناء هوياتنا الشخصية، وبالتالى فإن تحقيق خيارات الموضة يمكن أن يكون مهمًا. يمكن أيضًا اعتبار اتجاهات الموضة مصدرًا للتنوع.
للأسف، العقل البشرى غير مؤهل للمقارنة ما بين الخيارات السهلة التنفيذ والمتكررة مع الخيارات الأخرى ذات العواقب الجسيمة. وهذا سبب آخر يجعل الاستهلاكية نظامًا غير مُرضٍ من منظور تعددى: فهى لا تساعدنا على اتخاذ قرارات مدروسة، بل تستغل ميلنا لتجنب ذلك.
إحدى الطرق التى تُمكّن الناس من تقدير معنى وعواقب خياراتهم المتكررة فى التنفيذ هى عدم قدرتهم على اتخاذها دائمًا.
قد تُلغى رحلتنا، وقد يُتيح لنا ذلك فرصةً للبحث عن شىء ذو معنى فى أماكن تواجدنا. أو قد لا نجد السترة الملونة التى نرغب فى شرائها، فنقرر الاستمرار فى ارتداء السترة القديمة.
اختيار عدم الاختيار:
بعد خرافة حرية الاختيار، يمكن التطرق إلى خرافة أخرى شائعة، وهى أن تعدد الخيارات أمرٌ مُبالَغ فيه، وأن الناس أيضاً بحاجة إلى تقبّل ما يُتاح لهم. علاوةً على ذلك، يُقال إن الاعتقاد بأننا قادرون على اختيار نظام قيمنا هو اعتقادٌ مُتغطرس، إذ إن بيئتنا الاجتماعية هى ما تحدد ذلك بأكثر مما ندرك.
هناك بعض الحقيقة فى هذا. فنحن لا نختار أصولنا؛ ولا نختار قدراتنا؛ وبالكاد نختار شخصياتنا. لذا، لا ينبغى اعتبار التعدديين مُجبرين على أى خيار. عليهم أيضاً أن يُدركوا أن الاختيار قد يكون مُرهقاً، وأن اختيار عدم الاختيار هو خيارٌ قائمٌ بذاته، ويجب احترامه فى حد ذاته.
قد يُخلق اختيار المستهلك وهماً بالاستقلالية الذاتية فى حياةٍ تُحددها العوامل الاقتصادية. الهوية مثالٌ آخر على أمرٍ لا يرغب الناس بالضرورة فى اتخاذ خياراتٍ بشأنه. قد يكون اختيار جنسنا أو هويتنا الثقافية أو انتماءنا السياسى أمراً لا يُطاق إذا فُرض علينا اتخاذ مثل هذا الخيار.
الخيارات غير الواقعية لا تخدم التعددية القيمية أيضًا. وعلى التعدديين القيام بتثبيطها لأنها قد تعيق الخيارات التى يمكن أن تُحدث فرقًا حقيقيًا. على سبيل المثال، معرفة أننا لا نستطيع اختيار جذورنا الثقافية أو خلفيتنا الاجتماعية لا تعنى التخلى عن قيم كالعالمية أو تكافؤ الفرص، بل تعنى أن نُحقق قيمنا من خلال خيارات أكثر واقعية، كالتبادل الثقافى والسعى إلى الحراك الاجتماعى. "المعرفة لا تُحررنا بمنحنا إمكانيات أوسع نختار من بينها، بل بحمايتنا من إحباط محاولة المستحيل".
خيارات خيالية:
إذا كان لدينا خيار عدم الاختيار، فلماذا نشغل أنفسنا بخيارات لا نرغب فى اتخاذها أو لا نستطيع اتخاذها؟ وفقًا لكيكس، يكمن الجواب فى خيالنا: نحتاج إلى "خيال متطور بما يكفى لتكوين فكرة مناسبة عن طبيعة إمكانياتنا".
دعونا نعطى مثالًا: انت غالباً لن تكون رائد فضاء أبدًا، وربما لم يكن ذلك حلمك. لو سعيتُ لهذا الهدف منذ الطفولة، لربما أصبحتُ كذلك، لكن هذا ليس مؤكدًا، ولا ينبغى لذلك أن يُحزنك. على أى حال، فقد فات الأوان. لقد اتخذتُ خياراتٍ مهمة فى حياتك جعلت هذا الخيار مستحيلًا الآن. هل ينبغى على التعدديين اعتبار هذا خطأً، والتدخل لجعله ممكنًا بالنسبة لك؟ بالنظر إلى التكلفة الحالية لتكنولوجيا الفضاء، لا أعتقد أنهم يجب أن يفعلوا ذلك. ستحرم الميزانية المرتفعة الكثيرين من خياراتٍ أكثر جدوى، وستُقلل من تعدد الخيارات بشكل عام. هل يعنى هذا إذن أن عليك عدم الاهتمام بالسفر إلى الفضاء والفرصة التى قد تتاح للآخرين للسفر إليه؟ الإجابة هى لا: ليس فقط بسبب الإيثار، ولكن أيضًا لأن حقيقة أنك تستطيع تخيل أشخاص آخرين يسافرون إلى الفضاء توسع من إمكانياتك الخاصة. فى كل مرة ترى فيها رائد فضاء، قد يذكرك ذلك بشغف استكشاف المجهول، وهو جزء لا يتجزأ من نظام قيمى؛ ويمكننا جميعًا استكشاف المجهول بطرق مختلفة عديدة. قد تقوم بذلك من خلال الكتابة.
لا يجب أن تكون حرية الاختيار أنانية، والقدرة على التفكير فى الآخرين وتخيل خياراتهم لمجرد أنها ترضى خيالنا، هى جزء لا يتجزأ من حريتنا.
فى الواقع، لا يمكن أن تكون هناك حرية بدون خيال: الخطوة الأولى فى أى من قراراتنا هى القيام بتخيل خياراتنا - وهو أمر يمكن أن يتأثر بشكل كبير بالخيارات التى يمكن أن يتخذها الآخرون أو اتخذوها. يمكن أن يكون اختيار عدم الاختيار خيارًا قيّمًا فى حد ذاته؛ لكن اختيار عدم تصور ما يمكن أن تكون عليه خياراتنا فى الحياة، لا يمكن أن يكون إلا ضارًا لأنفسنا وللمجتمع ككل.
الخلاصة: خرافة الفوضى:
هذا يقودنا إلى خرافة أخيرة: أن الترويج للتعددية أمرٌ مُستحيل لأنه يتعامل مع أنظمة قيمٍ يستحيل مقارنتها، وأن الجمع بينها لا يؤدى إلا إلى الفوضى.
ومع ذلك، تُظهر لنا هذه الخرافة المدى الذى يتجاهل به أصحاب المذهب الواحد الأخلاقى، ذاتية نظام قيمهم نفسها. فالمساواة والعدالة والسعادة والمنفعة أمثلة على قيمٍ يستحيل قياسها. قد تُتيح الأنظمة المختلفة فى بعض الحالات مقارناتٍ واضحةً نسبيًا، لكنها فى معظم الحالات لا تفعل ذلك.
لننظر إلى التصنيفات التى وُضعت لمقارنة جودة الحياة حول العالم، بما فى ذلك السعادة، وحرية الصحافة، والمساواة، والتعليم. قد تكون هذه التصنيفات موضوعيةً إلى حدٍ ما عند مقارنة المُدخلات فى أعلى التصنيفات بتلك الموجودة فى أسفله؛ ولكن ماذا عن مقارنة ترتيب المُدخلات الخمسة الأولى، أو الخمسة الأخيرة - هل يُمكن أن يكون ذلك موضوعيًا؟
قد تستند جميع هذه المقاييس إلى حقائق؛ لكن هذا لا يجعل التصنيف الذى تُفضى إليه موضوعيًا تمامًا. إن استنتاج أن مجتمعًا ما أفضل من آخر لمجرد أدائه الأفضل بناءً على معايير معينة سيظل دائمًا تقييماً ذاتيًا. هذا لا يمنع الأكاديميين والمشرعين على حد سواء من اقتراح معايير جديدة للمساواة والإنصاف والسعادة والصالح العام. كما أنه لا يمنع الأنظمة السياسية بأكملها من الاعتماد على هذه المعايير التعسفية لقياس قيمها وفعاليتها.
يُقرّ التعدديون بذاتهم، بينما يرفض أصحاب المذهب الأخلاقى الواحدى الاعتراف بذاتية نظام قيمهم. لكن هذه الميزة لا تجعل التعدديين معادين للواحدية. يجب أن يفهم أصحاب المذهب الواحدى أنه بينما يتحدى التعدديون عالمية مبادئهم، فإنهم، بصفتهم أصحاب مذهب التعددية القيمية، ما زالوا يُقدّرونها.
هذا ما يُميّز التعددية القيمية عن الفوضوية: يعتبر الفوضويون جميع أنظمة القيم غير ذات صلة، بينما يُريد التعدديون أن يتعايش ويزدهر أقصى عدد منها. التعدديون ليسوا مدافعين ساذجين عن الحرية، ولا أناركيين يُهددون بتدمير جميع أنظمة القيم. الذاتية لا تمنعنا من اتخاذ القرارات، بل على العكس، تشجعنا على تحفيز خياراتنا دائمًا، ومنحها قيمة ذاتية وجمالية.
التعددية ليست أقل عملية من الواحدية، لكنها أقرب إلى الطبيعة البشرية، وأقرب إلى مفارقاتها وشكوكها. وهذا ما يجعلها مفضلة.
عن: كريستوف بروشانسكى- الفلسفة الآن
تعليقات