ثلاث قصص قصيرة من الأدب الايطالى

قصة: "دومينيكو ستارنونى"

ترجمة: "حازم فرجانى"


"فيربا"

كان مُقررًا للاجتماع الشهرى أن يكون فى الساعة الثالثة. 

زملائى المحبطون، والمُكتئبون بعد يوم عمل طويل سيكونون من بين الحضور. وأيضاً اثنتان من الأمهات المُتحمستان لقيامهم بتمثيل خمسين من الآباء والأمهات، ومعهم  أب وام لا يُبالون بتمثيلهم. 

كما أتى إثنين من الطلاب بصفتهما مُمثلَين للصف - "ستيفانو دوفيديو" و"ليليانا مينيجينى".

يمكنهما بسهولة قول أشياء لم يكن بإمكانهما قولها لولا اكتشافهما أنهما يُمكنهما فعل ذلك!

عندما دخلتُ الغرفة، كان الجميع يُحدِّقون فى رسم كاريكاتورى رسمه أحدهم على السبورة: أنا كعملاقٍ مُتلعثم، أحدب الظهر، بعنق زرافة، أعانق طالبة فاتنة، وأطبع قبلة على خدها. كتبوا أسفل الفتاة: "جيزى سولوفرا، دلوعة المُعلم".

وبمجرد أن رأونى، توقفت الأمهات والطالبان وزملائى عن الضحك. ثم، فى هارمونى تام، بدأ الجميع يتظاهرون بالانزعاج ويقولون: "لم يعد هناك احترام"، أو شىء من هذا القبيل. 

بينما مسحتُ السبورة بسرعة وقلتُ متلعثمًا: "لا، لا، الأمر ليس كذلك على الإطلاق. الأطفال يحبوننى. نحن نتحدث بحرية، ولدينا علاقة ديمقراطية غير سلطوية، كأننا أخوة وأخوات - أليس كذلك يا "دوفيديو"؟"

تمتمت زميلتى "كالامارو"، التى فوضها المدير لقيادة الاجتماع بدلاً منه، قائلة: "أنت لا تدرى كم كلفنى إحضار جليسة الأطفال". ثم عيّننى سكرتيرةً، وهو ما يعنى عملياً تدوين المحاضر، وتدوين ما قيل حرفياً. "لماذا أنا دائماً؟"

- "لأنكِ أدبية."

- "وماذا يعنى ذلك؟"

- "أنا مثلاً لو اضطررتُ لتقديم إقرارات ضريبية، فسأطلب المساعدة من "زينالى"، بما أنها محاسبة."

ثم التفتُ نحو 'زينالى" وهمستُ: "حان دوركِ" .

أجابت "زينالى": "لا، أنا سعيدةً لحصولى على شهادة فى إدارة الأعمال.

- "ماذا أنتِ، هل أنت أمية؟"

 قالت 'زينالى': "أجل،"، بينما بدت أكثر غروراً من أى وقت مضى.

رأيتُ من طرف عينى اثنتان من الأمهات تهمسان لبعضهما البعض، ربما تقولان: "هؤلاء المعلمون لا يعرفون حتى كيف يكونون الجمل الصحيحة!"  إنهم مجموعة من الأميون!

- 'حسنًا" - لقد اتخذتُ قرار - "سأفعل. لكنك ستدفعين ثمن هذا يومًا ما يا "زينالى".

تحركت "كالامارو" ليبدأ الاجتماع.

كتبتُ وأنا أشعر بالاحباط: "٥ نوفمبر ١٩٩٠: بدأ اجتماع الموظفين الساعة ٣:١٠ مساءً."

بدأت كالامارو بالكلام: "سنبدأ بالأدب.

فى لغة المدرسة، أنا المقصود بالأدب، لأن هذا ما أُدرّسه. كان على أن أُقدّم تقريرًا موجزًا عن أداء الفصل. بجمل طويلة، سلسة، مُحكمة البناء، قلتُ إنه ليس لدى أى شكاوى تُذكر بشأن الطلاب، باستثناء مجموعة مُعينة من الأطفال - وهنا حدّقتُ باهتمام فى "دوفيديو" و"مينيجينى" - الذين عادة ما قاطعوا دروسى بين الحين والآخر. ثم دوّنتُ ما قلتُه للتوّ، ولكن بأسلوبٍ أكثر أناقة.

واصل كلٌّ زملائى الكلام نفسه تقريبًا عن فصولهم، ولكن بشكلٍ اكثر عشوائية لأنهم لا يُدرّسون الأدب. وعندما قمت بتدوين تعليقاتهم، جعلتُها تبدو أسوأ قليلًا، وخاصةً "زينالى"؛ حتى أننى جعلتها ترتكب بعض الأخطاء النحوية، وقمت بوضعها بين قوسين. بالطبع لم يجرؤ أحدٌ منهم على الكلام، كما يفعلون عندما نكون بمفردنا

في هذه الاجتماعات: نقول إن كل شىء على ما يُرام، والأمور تسير على أحسن حال؛ ولا ننشر غسيلنا المُتسخ علنًا. على الرغم من أن هؤلاء الأطفال يجب أن يكونوا فى مدارس الإصلاحية على أقصى تقدير. قد نذكر، بحذر، مدى وقاحة الطلاب، ولكن فقط إذا كانت هناك وثائق تثبت أن آباءهم أو معلميهم السابقين - وليس نحن - هم المسؤولون.

"أيها الآباء، هل لديكم أى إضافة؟" هكذا صرخت "كالامارو"، وكأنها تقول: أسرعوا.

استجمعت السيدتان شجاعتهما للتحدث: "يبدو أن كل شىء يسير على ما يرام... باستثناء اللغة الإيطالية." (وبالإيطالية، كانتا تقصداننى أنا: يمكن التعرف على من خلال أى من المواد التى أدرسها - اللغة، الأدب، أو التاريخ).

- "الأطفال لا يفهمونه عندما يُلقى محاضراته"

ما قصدتاه هو أنه على الرغم من استمتاع الجميع بدروسى، إلا أنهم لم يتمكنوا من التعبير عمّا أتحدث عنه.

احتججت: "لكن-" 

أسكتتنى "كالامارو" قائلة لهم:  هل تفهمون كل هذا حرفيًا؟Verba volan , scripta manent"وهى اللاتينية الوحيدة التى ما زلت أتذكرها.

تراجع ممثلو أولياء الأمور وأكدوا أن دروس الأدب شيّقة للغاية، وإن كانت معقدة بعض الشىء فى بعض الأحيان."

قالت "كالامارو": "حسنًا،" رُفع الاجتماع."

صاحت الوالدتان: "فعلاً؟!" ؛ فقد تطوّعتا ظانّتين أنهما ستستمتعان بوقتهما حتى المساء.

بينما صرخ "دوفيديو" و"مينيجينى: "ماذا عنّا؟" 

سألت كالامارو بنظرة غاضبة: "هل لديكما ما تقولانه أيضًا؟" 

- "أوه، شىء أو شيئين فقط،"

ملخص ما قاله "دوفيديو"، كان على النحو التالى:

"أن حقيقة أن الطلاب لا يفهمون دروسى كانت أقل ما يُقال؛  المشكلة الحقيقية هى أننى أسخر منهم وأذلهم؛ فأنا لا أشجعهم بما فيه الكفاية - على العكس من ذلك، فأنا أحبطهم ويصابون بالاكتئاب، مما يجعل من المستحيل عليهم الدراسة فى المنزل؛ وأيضًا، فأنا آكل وجباتهم الخفيفة، وأقول أشياء مثل "أعطنى قطعة بسكويت، أنا جائع"؛ وعلاوة على ذلك، فأنا دائمًا أتغزل فى "جيزى سولوفرا"، وهى المفضلة لدى، وأعطيها الوجبات الخفيفة التى سرقتها من بقية الفصل.

"أكاذيب! كلها أكاذيب"، هكذا دافعتُ عن نفسى، وآذانى ساخنه من الإحراج. "يا أيها الأوغاد! نادرًا ما تحضرون الصف ولا تفتحون كتبكم أبدًا."

تدخلت الأمّهتان، وقد غمرتهما البهجة من كيفية سير الأمور بعد الظهر. "يا أطفال! ما كل هذا؟ يجب ألا تكذبوا!"

ثم تكلمت "ليليانا مينيجينى". "إنها الحقيقة. لقد طلب منا الصف كله أن نذكرها. لم يكن بوسعنا تجاهلها."

"حسنًا، لقد أبلغتنا،" اختتمت "كالامارو" الحديث، وهى تنظر إلى ساعتها، ثم نظرت إلى بازدراء. "دوّن ذلك. شكرًا لكِ، وإلى اللقاء."

صاحت إحدى الأمهات. "يا لهم من مثيرى شغب،" "ما يحتاجونه هو ضربةٌ قوية! يدٌ حازمة..."

"أضفتُ الى قولها: "أحيانًا تمد يدك فيمسكون بذراعك بالكامل" 

سألت "كالامارو": "هل دونت كل ذلك؟" 

 كتبتُ بسرعة: "أعرب ممثلا الطلاب "دوفيديو" و"مينيجينى" عن تقدير الفصل بأكمله لمعلم الأدب. ومع ذلك، يشعر بعض الأفراد بالإهمال ويتمنون لو حظوا بمزيد من الاهتمام. رُفع الاجتماع الساعة 3:50 مساءً."


"المحرّك"

اعتقد أن زميلى "ألاسيو" هو الشخص الوحيد المتبقى فى المدرسة التى أقوم بالتدريس فيها، الذى مازال يعتقد أن الطبقة العاملة هى محرّك التاريخ. 

يسأل بعضنا أنفسنا، ويُعذب آخرون أنفسهم بالتساؤل "هل لا يزال للتاريخ محرّك؟" "وإذا كان، فمن هو المحرّك الجديد؟". لكن معظمنا لا يُبالى، ليس فقط بالمحرّك، بل بالتاريخ أيضًا. ومع ذلك، فى هذا الموضوع تحديداً، يُصرّ زميلى "ألاسيو" على القول: "إنها الحقيقة"، "فبدون الطبقة العاملة، حتى الساعات ستتوقف عن الدوران".

وبطبيعة الحال، لديه هو الآخر نصيبه من التشكك فى بعض الأمور، ولكن أن للتاريخ محرّك ليس واحدًا منها؛ فهذا بالنسبة له يبدو أمرًا لا جدال فيه. لكنه، كغيره، يرغب فى معرفة الاتجاه الذى يسلكه التاريخ ومحرّكه بالضبط. لهذا السبب، يُراقب عن كثب السرديات الكبرى، وكذلك السرديات الصغيرة والمتوسطة؛ والحواجز الأيديولوجية، والجدران العالية والمنخفضة؛ والطريق الذى يتجه فيه الشمال جنوبًا والجنوب شمالًا؛ عن الشيوعية، وهو مصطلح سيتطلب فهمه بعد سنوات دراسة طويلة؛ وعن الطبقات الاجتماعية والكتل؛ وعن الصحف والدفاتر، كتلك التى أستخدمها لأحاول تدوين كل ما يقوله أثناء قوله، حتى يلاحظه ويسأل: "ماذا تكتب؟ كف عن هذا".

إنه قلق بشكل خاص على جيل الشباب. إنهم كما يقول يشعرون بالحزن، نحيفون وبدينون ومرتبكون، ولا يُفكرون فى التاريخ ولا فى آلياته: ينشغلون بأشياء غير هامة مثل الكنيسة أو النادى الذى يشجعونه.

يراقب "ألاسيو" الشباب منذ سنوات. ولمراقبتهم وجمع بياناته، هو يطلب منهم كتابة أوراق بحثية: عن أفكارهم، وأحلامهم، وأنواع العمل التى يمارسها آباؤهم وأمهاتهم. لمهن آبائهم أهمية خاصة فى عمله كمعلم. 

كلما كانت وظائفهم مهينة، زاد اهتمام "ألاسيو" بمصير أبنائهم. 

فى الواقع، يعمل أولياء أمور مدرستنا فى ضواحى المدينة فى مختلف أنواع الوظائف المهينة، وهذا يعنى أنه فى النهاية يهتم اهتمامًا بالغًا بجميع طلابه - أو معظمهم. يكاد لا يوجد ممثلون للطبقة المتوسطة - على الأكثر، قلة من أصحاب المتاجر أو الموظفين، الذين يحاول "ألاسيو" غرس قيم أقوى فى نفوس أبنائهم مما غرسه فيهم أهلهم.

لكن معظم الطلاب ينحدرون من عائلات تعمل فى مصانع النسيج أو الأسمنت أو الصلب أو الكيماويات، ويُعيرهم "ألاسيو" الكتب، ويدعوهم إلى منزله، ويُعرّفهم على زوجته وأولاده.  

أحيانًا يشك أحد الوالدين فى اهتمامه ويسأل المدير: "لماذا هذا المعلم مهووس بابنتى؟". ورغم أن المدير لا يحب "ألاسيو" - لأنه دائمًا ما يثير المشاكل - إلا أنه دائمًا ما يرد: "لا تقلق، إنه ليس منحرفًا. إنه فقط يأخذ مهمته كمعلم على محمل الجد".

مؤخرًا، كلف زميلى طلابه بواجب كتابى داخل الفصل، وكان الهدف منه: "قرر زوجان قضاء عطلة. عرّفوا من هما بدقة، من منظور اجتماعى، وصفوا بعض مغامراتهما".

قلت: "موضوع جميل" أنا شخصيًا، دائمًا ما أجد صعوبة فى إيجاد أفكار.

لكن بعد قراءة قصصهم، شعر "ألاسيو" بالحزن:  "تفضل، اقرأ هذا"

قال ذلك، وهو يُناولنى عمل "سيلفاجيا كوليلا"، التى كتبت بإبداعٍ بالغ (أى بلغة إيطالية مليئة بالأخطاء) عن "جيادا"، عارضة الأزياء المحترفة، وعطلتها فى "كينيا" مع طيار مقاتل من طراز تورنادو.

سألت : "وماذا؟" .

قال لى "ألاسيو" بتأوهٍ مضطرب: "وماذا؟" "والد الفتاة يقضى أيامه فى خلط الأسمنت.

ليساعدنى على فهم المشكلة بشكل أفضل، قرأ لى المزيد من القصص عن أزواج مميزين آخرين. صحفية وتاجر تحف شاب يسافران إلى "النرويج" لتأمل المضايق؛ سمسار بورصة ومصممة ديكور داخلى يسافران إلى "كاليفورنيا" لقضاء عيد الميلاد؛ راقصة تعرٍّ وعازف كورنيت يقضيان أسبوعًا حالمًا فى المغرب؛ دى جى ومراسلة تلفزيونية يهربان معًا إلى "هايتى"، وإن لم يتضح السبب تمامًا.

أثناء قراءته، أخبرنى زميلى بما كان يفعله والدا كل من مؤلفى هذه القصص لكسب عيشهما: أحدهما كان يعمل فى مصنع صغير فى وادى ساكو ويغادر منزله فى الرابعة صباحًا ليصل إلى عمله فى الوقت المحدد؛ أم أرملة كانت تنظف سلالم مبنى سكنى؛ وكان الأب المصاب بمرض رئوى سائق شاحنة.

قال "ألاسيو"، وقد امتلأ غضبًا وهو يُسلمنى ورقة تلو الأخرى: "هل فهمت الآن؟".  

كان مستقبل الجيل القادم، كما رآه، حافلاً بالأحلام العبثية، والمشتتات الخطيرة، والوظائف التى لا تُشكّل شخصيات صلبة، واستنزافاً للطاقة لا طائل منه فى النهاية، فجباههم تتصبب عرقاً لمجرد الاستمتاع فحسب. 

لم يكن دوره كمعلّم - حاول هنا إقناعى بأن أقول "دورنا كمعلّمين" - أن نغض الطرف ونتظاهر بأن شيئاً لم يحدث. لذا، ليُظهر للطلاب مدى صعوبة العمل اليدوى، خذلهم جميعاً ومنحهم علامات سيئة.

اختتم حديثه: "هذا سيُعلّمهم". ولم أجرؤ على سؤال ماذا.

ثم ظهر السيد "كوليلا" - والد "سيلفاجيا".

كان "كوليلا" رجلاً عابساً: ضخم الجثة، مُهترئاً بفعل عوامل الزمن، ذو يدَين ضخمتين؛ ومثل "ألاسيو"، كان ناشطاً سابقاً فى نقابة CGIL، غاضباً من كل التسويات، والتنازلات، والتنازلات، والخيانات، وما إلى ذلك.  

كان زميلى سعيدًا بالجلوس مع زميل له فى صناعة التاريخ، لكن السيد "كوليلا" لم يبدُ سعيدًا بنفس القدر. فقد أخذ إجازة لمدة ساعة من العمل ليعرف سبب حصول ابنته على علامة ضعيفة. وهذا بالضبط ما سأله: "لماذا؟"

حاول زميلى "ألاسيو" شرح مسار تفكيره، واثقًا بأنه يتحدث إلى شخص سيفهمه أفضل منى، ليس بسبب طبيعته بل بسبب وضعه الاجتماعى والاقتصادى. لكنه للأسف، واجه بعض النكسات: فنظرا لبريق عينى الرجل الحاد، وشفته المرتعشة، ويديه العريضتين المرتعشتين والمهددتين. لم يستطع "ألاسيو" النطق إلا ببضع كلمات قبل أن يقاطعه "كوليلا" ليسأله بأدب عن سبب دعوته ابنته باستمرار إلى منزله، ودائمًا بنفس العذر: "سأعيرك نسختى من رسائل مقاتلى المقاومة المحكوم عليهم بالإعدام".

ولكى لا يُساء فهمه، قرأ رفيقى قصة "سيلفاجيا" بصوت عالٍ من البداية إلى النهاية، وكأنه يقول: استمعوا إلى هذا!  عندما انتهى، ربت لوالد الفتاة بحفاوة بالغة على ظهره، ثم انتقل إلى الصيغة غير الرسمية، وقال: "بينما أنت تعمل بجد فى خلط الأسمنت، هى فى جلسة تصوير فى "كينيا" مع طيار! إلى أين يتجه هذا العالم؟"

كان "ألاسيو" يأمل أن يطمئن على حال مكابس الكون وشمولية أهدافه. كان مستعدًا للاستسلام والقول: "أنا أعانى هنا، والناس يعيقون العمل باستمرار، فلماذا أحاول أصلًا؟" لكن "كوليلا" رد عليه بصراحة: "سواء كانت عارضة أزياء أم لا، كف عن التلاعب بابنتى". ثم أضاف: "أود أن أراك تجرب تشغيل خلاطة الأسمنت!" و: "كيف تجرؤ على التحدث معى دون تكلف"! من تظن نفسك؟ متى تناولنا الطعام من طبق واحد؟"


"والدة بليندا"

يكره زميلى "زانيلا"، الناشط النقابى المخضرم فى الاتحاد العام للعمال الإيطالى (CGIL)، "أليساندرو مانزونى"*، ويصفه بمرارة بأنه ليس أكثر من ديمقراطى من القرن التاسع عشر. 

*[المترجم: يعتبر"أليساندرو مانزونى" أحد أكبر روائيى إيطاليا عبر العصور، خصوصاً لروايته المخطوبون (I promessi sposi)، وهى أشهر أعماله ولا تزال تشكل علامة فارقة فى الأدب الإيطالية، وهو روائى، وشاعر، وفيلسوف]

يسخر "زانيلا" قائلاً: "محنة البسطاء؟" "أرجوك ذلك كاف. كان "مانزونيى"مخلصًا للبسطاء كما أن جماعات حقوق الحيوان مخلصة للحيوانات."

كان "زانيلا" يقرأ كتاب "المخطوبون" بصوت عالٍ لعقود، لطلابه فى الصفين التاسع والعاشر بسخرية شديدة، ويضحك مع نفسه: "إلى أى مدى يمكن أن يصل إلى هذا الحد من الحماقة؟" 

لكن مؤخرًا، يبدو أن "مانزونى" بدأ يحفر لنفسه مكانًا مؤرقا فى صدر "زانيلا" كأنه ورم خبيث. فهو لا يزال يبدأ الحديث بأسلوبه الساخر المعتاد، لكن بعد بضع جمل فقط، ينجذب هذا الرجل الفظّ النارى إلى تلك القصة رغمًا عنه، فيبدأ بالتلعثم كدون أبونديو، ويتحدث بلهجة تهديدية كالبرافى، ويمد يده إلى خنجره كرينزو؛ حتى أنه ينجح فى إخراج صوت خافت من صدره العريض كصوت لوسيا.

قبل فترة وجيزة، سمع المدير صيحات من فصل "زانيلا" أثناء مروره، فأطلّ برأسه من الباب. كان "زانيلا" فى الداخل، لكنه لم يكن على طبيعته تمامًا، وهو لم يكن كذلك منذ فترة. 

كان يتجول بفتور من فصل إلى فصل نحو تختة "بليندا تيرابوشى". كان يمسح خصلات شعره الطويلة غير المحتشمة، بيديه الكبيرتين المشعرتين الملطختين بالطباشير. ثم عضّ شفتيه الممتلئتين تحت شاربه، وقال بنبرةٍ مُلمّحة: "أنتِ من يجب أن تُخبرينا إن كان هذا النبيل قد لاحقكِ بشكلٍ غير لائق". 

فتلعثمت "بليندا" فى ردّها: "سيدى... أمى... القس..."، تاركةً بقية الصفّ ينهارون فى هستيريًا من الضحك.

أغلق المدير الباب بسرعة فى وجه "زانيلا" وهو فى تلك الحالة المضطربة. لم يُخبر أحدًا بما رآه، لكنه مع ذلك أمر الحراس بمراقبة "زانيلا" من خلال ثقب المفتاح، تحسبًا لغضبه وهذيانه المفاجئ.

فى هذه الأثناء، بدأ "زانيلا" يُعلن كراهيته لمانزونى أكثر فأكثر.

أعلن "زانيلا"، "إنه يسوعى"، ثم أصبح "مختلًا عقليًا"، و"ساديًا" و"جبانًا". علاوة على ذلك، "لم يُمارس ما يُبشر به". حتى أنه وصفه بأنه "مثقف إيطالى كلاسيكى". وأخيرًا، "لم يكن حتى ابن والده الحقيقى".

كما انتقد أسلوب "مانزونى": كان مبتذلًا، فظًا، كلومباردى مُتنكر فى زى توسكانى. صرخ بى ذات يوم:  "وانسَ أبيات شعره!" "كيف نأخذ شخصًا على محمل الجد وهو يكتب كلماتٍ تافهة كـ "ليبيرى نون ساريم سى نون سيام أونى"؟" ثم طلب منى أن أردد عبارة "لن نكون أحرارًا إن لم نتحد" لأشعر، مثله، بقشعريرة اشمئزاز تسرى فى انحاء جسمى.

ثم صرخ وهو يدفعنى بيده، "وماذا عن مشهد والدة سيسيليا؟"  أراد منى أن أهين "سيسيليا"، تلك الفتاة المسكينة فى مسرحية "المخطوبة" التى ماتت بالطاعون فى أحد أكثر المشاهد إيلامًا فى الأدب العالمى.

قال: "استمع فقط إلى وصفه لأمها،" "إنه يستخدم كلمة "لكن" بشكلٍ مُفرط. هل ستفكر ولو للحظة فى كتابة شىءٍ كهذا؟"

وبدأ يقتبس من ذاكرته: "امرأة يوحى مظهرها بشباب متقدم فى السن، لكنه لم يتجاوزه بعد. كانت تشعّ جمالاً مُخفتاً، لكنه لم يُفسده عاطفة عارمة وكسل مُميت... كانت مشيتها مُرهقة، لكنها لم تكن مُتذبذبة." وفى النهاية، كان يصرخ: "كم مرة يستطيع كاتب واحد استخدام كلمة "لكن"؟"

لم يستطع التوقف عن تحليل نثر "مانزونى" فى ذلك اليوم. فى إحدى المرات، اقتبس: "كانت تحمل بين ذراعيها جثة هامدة لفتاة صغيرة فى التاسعة من عمرها تقريبًا." ثم بدأ يضحك كالمجنون. "أرأيت ما أقصد؟" قال بين قهقهاته. "فى التاسعة من عمرها تقريبًا!" 

لم أفهم ما الذى يقصده. فقام بشرحه لى.  

إما أن يكون عمر الطفل تسع سنوات أو لا. التاسعة عمرٌ دقيق. لو لم يكن "مانزونى" متأكدًا من عمر "سيسيليا"، لكان عليه أن يقول "حوالى العاشرة". لا يمكنكِ قول "حوالى التاسعة"! ماذا يعنى ذلك أصلًا، "حوالى التاسعة؟" 

واختتم حديثه قائلًا: "مانزونى مُبالغٌ فى كلامه يا صديقى. مُبالغٌ فى كلامه بشكل غير عادى." ثم اختنق قليلًا بلعابه، واضطررتُ للركض لأحضر له كوبًا من الماء.

لبضعة أيام بعد نوبة الغضب تلك، كان هادئًا. لكن بالأمس، بينما كنتُ أمرّ أمام فصله، رأيتُ حارسةً تُحدّق من ثقب المفتاح، منحنيةً بزاوية تسعين درجة. عندما سمعتنى قادم، لوّحت لى بحماس قائلةً: "أسرع! أسرع!"

تردد صدى صوت "زانيلا" الكئيب بوضوح فى الردهة وهو يصيح بابيات الرواية: "نزلت من أحد تلك الأبواب متجهةً نحو الموكب، فجاءت امرأة..."

ترددتُ فى قبول دعوة الحارسة، لكن عندما رأيتُ إمارات البهجة فى عينيها، وتحت ضغط يدها الضخمة على مؤخرة رقبتى، انحنيتُ لألقى نظرة.

جلس الصف فى صمتٍ غير طبيعى. لقد أصبح "زانيلا" هو والدة "سيسيليا".

لقد كانت معجزة. على الرغم من أن "زانيلا" تجاوز الخمسين بكثير، إلا أن مظهره يوحى بشابٍّ متقدم فى السن ولكنه لم يتجاوزها بعد. على الرغم من شاربه الكثيف وكونه من أسكولى بيتشينو، إلا أنه كان يشعّ بجمالٍ ناعمٍ وعظيمٍ كان يتدفق فى دم اللومباردى. غمرته عاطفةٌ كبيرةٌ وضعفٌ قاتلٌ وأخفتا ملامحه، لكنهما لم يُفسداها. وشق طريقه من المُدفأة إلى الصف الأمامى من تخت التلاميذ بخطى مُرهقة، لكنها ليست مُتذبذبة.

لم يبدُ الأمر حقيقيًا. الضوء المُشرق عبر النوافذ جعل "زانيلا" يبدو شاحب اللون، كما لو كان جثة تُنقل فى عربة. كان يحمل فتاة تقوم بلعب دور جثة هامدة فى حوالى الخامسة عشرة من عمرها؛ شعرها المُبعثر مُثبت بمشبك شعر وردى كبير، وكانت ترتدى قميصًا أخضر فستقيًا وبنطال جينز ممزقًا عند الركبة، كاشفًا عن جوارب بيضاء تحته. 

لم يكن مُنبطحًا بل مُنتصبًا، وصدرها مُتكئ على صدره كما لو كانت لا تزال على قيد الحياة. يدها صغيرة شاحبة مُشمعة، بخاتم فى كل إصبع وأظافر طويلة مُطلية باللون الأرجوانى، تتدلى بلا حياة على جانب واحد. رأسها مُستقر على كتف "زانيلا" باستسلام أقوى من النوم.

كانت الفتاة هى "بليندا تيرابوشى"، وقد حملها زميلى بين ذراعيه وهو يتلو سطوره.

كان المشهد مؤثرًا لدرجة أنني لم أستطع تحمل المشاهدة. أردتُ الابتعاد عن الباب. لكن جزئيًا لأن الحارسة (التي بالكاد استطاعت كبت ضحكتها، ولم تكن تطيق الانتظار لمشاركة تسليتها معى ومع المدير) كانت لا تزال تضع يدها على مؤخرة رقبتى، مما جعل وجهى ملتصقًا بثقب المفتاح، وجزئيًا لأننى ببساطة لم أكن أملك القوة للابتعاد، بقيتُ. 

وعندما التفتت والدة "بليندا" إلى "فرانشيسكو سوليمانو"، الجالس فى الصف الأول، وخاطبته كما لو كان جامع جثث بغيضًا، قائلة: "سيدى، عندما تمر من هنا هذا المساء، ستحتاج إلى الصعود إلى الطابق العلوى لأخذى أيضًا، وليس أنا فقط"، لم أستطع كبح جماح نفسى، وبدأت أبكى كما لو كانت "بليندا" ابنتى.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة