مستقبلنا الكمى
من بين جميع تقنيات الكم الحديثة الخاضعة للتطوير الآن، تُعدّ الحوسبة الكمومية ( الكمبيوتر الكمى) هى الأكثر احتمالاً لإحداث نقلة نوعية سواء فى العلم أو المجتمع.
ولكن كيف سيتحقق ذلك بالضبط؟ هذا ما ستحدثنا عنه "كارميلا بادافيك-كالاجان".
ربما لا تكون سمعة "فيزياء الكم" فى أفضل احوالها، حيث نسمع كثيراً ان سلوك الذرات والجسيمات التى تصفها يبدو غريب للغاية. وأدى ذلك لظهور العديد من المفاهيم الغامضة - مثل أننا ربما نعيش فى أكوان متعددة، أو أن الواقع الذى نراه ليس حقيقياً على الإطلاق.
نتيجةً لذلك، كثيراً ما نتجاهل حقيقة أن "فيزياء الكم" كان لها تأثير حقيقى على حياتنا: فعلى سبيل المثال، فى كل مرة تُلقى فيها نظرة على هاتفك الذكى، فإنك تستفيد من ظواهر الكم.
لكن قصة فوائد نظرية الكم لا تنتهى عند هذا الحد. فمع التقدّم المرجو، تُبشّر مجموعة جديدة من التقنيات بتأثير هائل على العلم والمجتمع.
إذا صدقتَ كل ما يشاع، فإن الحواسيب الكمومية قد تُسرّع من تطوير الأدوية، وتكتشف مواد ثورية جديدة، بل وقد تُساعد حتى فى التخفيف من آثار التغير المناخى. لكن رغم التطور الكبير الذى شهده هذا المجال، إلا أن مستقبله ليس واضحًا تمامًا. فالعقبات الهندسية كثيرة.
وما يتم إغفاله غالبًا فى خضمّ سباق التغلب على هذه التحديات هو هذا السؤال: لو استطعنا غداً بناء حاسوب أحلامنا الكمى، فماذا سنفعل به؟
الأشياء متناهية الصغر، كالجسيمات، تُظهر تأثيرات كمومية، كالتصرف أحيانًا كموجات. ولكنك غالباً لن تستطيع إقناع البرتقالة، المكونة من ذرات كمية، بأن تصبح موجة كما تفعل مع جسيم كمى واحد. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعديد من الأجهزة التى نعتبرها الآن أمرًا مسلمًا به، فإن الطابع الكمى للإلكترونات الفردية داخلها هو أمر بالغ الأهمية.
خذ مثلاً الترانزستور، اللبنة الأساسية للإلكترونيات الحديثة. فى هذه أشباه الموصلات النانومترية كيف نتحكم فى تدفق الإلكترونات داخل المعالجات الدقيقة. نصنعها عن طريق تغيير هندسة وتركيب السيليكون، وتكديسه فى طبقات، وإضافة ذرات من عناصر أخرى إلى تلك الطبقات. ولكن سيكون من المستحيل جعل الإلكترون يفعل أى شىء بهذه الطريقة إذا لم تكن تعلم أنه يتصرف أحيانًا كموجة، وهو سلوك كمى بامتياز.
ليس من المبالغة القول إن نظرية فيزياء الكم، التى تبدو مبهمة، قد غيّرت أسلوب حياتنا. لولا نظرية الكم، لما وُجدت الألياف الضوئية، ولا الإنترنت، ولا الهواتف الذكية. لكن علماء الفيزياء طالما شكّوا فى إمكانية حدوث تحوّل آخر إذا تمكّنا من بناء أجهزة لا تستفيد فقط من التأثيرات الكمومية، بل تستخدمها كمصدر رئيسى لها.
ومن الأمثلة على ذلك النقل الآنى (اللحظى) الكمى، الذى يعتمد على ظاهرة تُسمى التشابك - حيث ترتبط حالات جسيمين، بغض النظر عن المسافة بينهما. وقد نجح الباحثون بالفعل فى نقل معلومات لمسافة تزيد عن 100 كيلومتر عبر كابلات الألياف الضوئية، وأكثر من 12,900 كيلومتر عبر الأقمار الصناعية، والفكرة هى أن مثل هذه القدرة قد تدعم إنترنت كمى أسرع وأكثر أمانًا.
وهناك أيضًا الاستشعار الكمى، الذى يَعِد بقياسات أكثر حساسيةً بمراحل من جميع الأنواع الأخرى، والتى من شأنها تعزيز الملاحة والاستكشاف الجيولوجى والتشخيص الطبى.
لكن يبقى السؤال: هل ستتجاوز هذه التقنيات الكمومية يومًا ما التطبيقات المتخصصة الحالية؟
من ناحية أخرى، يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية أن يكون لها تأثير أوسع بكثير، تمامًا كما فعلت سابقاتها التقليدية.
تكمن إمكاناتها فى الاختلاف الدقيق ظاهريًا فى طريقة عمل نوعى أجهزة الكمبيوتر. فى معالجات اجهزه الكمبيوتر التقليدية، يتمثل الدور الرئيسى للإلكترونات فى ترميز المعلومات إلى سلسلة من الآحاد والأصفار، أو البتات، والتى يمكن تفسيرها على أنها تشغيل وإيقاف التيارات الكهربائية.
فى معالجات اجهزه الكمبيوتر الكمومية، تُرمَّز المعلومات إلى خصائص كمية للجسيمات أو الذرات نفسها - فهى ليست مجرد عناصر تمثيليه تُنظِّم العمليات الحسابية، بل هى الجهات الفاعلة الرئيسية فيها.
إن ترميز 1 أو 0 فقط فى آنٍ واحد (فى نفس الوقت)، يستدعى الصورة الذهنية لجهاز كمبيوتر كمومى يُجرى حسابات بكلتا القيمتين على التوازى.
أما الواقع العملى فهو أكثر دقةً وتحديًا، كما يقول "ماريس أوزولس" من "جامعة أمستردام" فى "هولندا".
ما يميز "البت الكمومى" فى حالة التراكب عن "البت الكلاسيكى" هو إمكانية تحديد ما إذا كان البت يُشفّر 1 أم 0 بنسبة احتمال 100%. أما بالنسبة للبت الكلاسيكى، فقد لا يكون من الممكن القول إنه عند قياسه، ستجد القيمة 1، لنقل، فى 30% من الحالات.
تُجرى الحسابات على الحواسيب الكمومية على شكل تسلسلات من التغييرات فى حالات البتات الكمومية. إذا كانت هذه الحالات تراكبات، وإذا كانت مترابطة، فقد يُفيد ذلك عملية الحساب. ولكن لقراءة ما فعله الحاسوب الكمومى، يجب قياس هذه الحالات. سيُنتج القياس إجابات مختلفة باحتمالات مختلفة، ولكن ليس جميعها دفعة واحدة.
هذا يعنى أن هناك مسائل لا يضمن النهج الكمومى لها مسارًا أسرع للحل. على سبيل المثال، عند تحديد ما إذا كانت سلسلة عشوائية من الأصفار والواحدات تحتوى على عدد فردى أو زوجى من الواحدات، سيستغرق كل من "الحاسوب الكلاسيكى" و"الحاسوب الكمومى" نفس القدر من الوقت.
لذلك يُعد اختيار المشكلة الصحيحة، والخوارزمية الصحيحة لتطبيقها، أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق أقصى استفادة من إمكانات الحواسيب الكمومية.
إلا أن هذا الأمر يظل بالغ الصعوبة.
قد تُقدم التخصصات الرياضية، مثل نظرية التعقيد، بعض التلميحات حول نوع المشاكل التى يُمكن حلها باستخدام الحواسيب الكمومية ذات السرعات الأكبر مقارنةً بالنهج الكلاسيكى.
لكن كما يقول "أوزولز": "خوارزميات الكم العظيمة بحق تُعتبر بمثابة جواهر نادرة نعثر عليها من حين لآخر، ولا توجد طريقة بسيطة وموحدة لبناء خوارزميات الكم. إنها أقرب إلى الفن".
ويضيف: "لا يُمكننا تشغيل خوارزميات كمومية متطورة حتى الآن، لذا فإن التطوير يحدث فى هذا النوع بطريقة نظرية، حيث تُطور الخوارزميات وتُثبت فعاليتها، ولكنك لا تستطيع أبدًا التحقق منها عمليًا".
وإلى أن نمتلك حواسيب كمومية أكبر وأقل أخطاءً، سنبقى فى مأزق لا مخرج منه.
حتى أشهر خوارزمية حوسبة كمومية (التي اكتشفها عالم الرياضيات "بيتر شور" عام ١٩٩٤)، والتى يثق الباحثون بقدرتها على كسر مفاتيح التشفير التى لا تستطيع أى خوارزمية تقليدية كسرها، لا يمكن تطبيقها عمليًا على أجهزة الكمبيوتر الكمومية الحالية نظرًا لصغر حجمها وعرضتها للخطأ.
يقول "أوزولز": "ليس لدينا القدرة على تجربة الخوارزميات على الأجهزة".
فما هى إذن التطبيقات، وما هو التأثير الذى نتوقعه من أجهزة الكمبيوتر الكمومية على المجتمع مع استمرار تقدمها؟
هناك ما يدعو للتفاؤل. ففى العامين الماضيين، أحرزت عدة فرق تقدمًا ملحوظًا نحو أجهزة الكمبيوتر الكمومية المصححة للأخطاء.
على سبيل المثال، أظهر باحثون فى "Google Quantum AI" قدرتهم على زيادة عدد البتات الكمومية فى جهاز الكمبيوتر الكمومى "Willow" الخاص بهم بطريقة تجعل الجهاز الأكبر حجمًا يرتكب أخطاء أقل. وهذا بالضبط ما هو ضرورى لصنع أجهزة كبيرة مقاومة للأخطاء.
إذا استمر هذا الزخم، فقد تتمكن الحواسيب الكمومية، فى غضون بضع سنوات، من معالجة مشاكل فى الكيمياء وعلوم المواد ذات تطبيقات واقعية، خاصةً إذا استُخدمت كجزء من منظومة حوسبة أوسع.
قد تُستخدم هذه الحواسيب فى تحديد خصائص الجزيئات التى يُمكنها تحسين المحفزات فى خلايا الوقود، أو التى قد تُصبح مُكوّنًا للجيل القادم من الألواح الشمسية.
أما فى مجال علوم المواد، فقد تُساعد فى نمذجة وابتكار موصلات فائقة أفضل تُنقل الكهرباء دون فاقد، ودون الحاجة إلى التبريد.
يمكن للحواسيب الكمومية أيضًا أن تُعزز اكتشاف الأدوية. وهى فى الواقع، تُستخدم بالفعل فى حسابات تُساعد فى تحديد أفضل طرق ارتباط الأدوية بالجزيئات البيولوجية، والتنبؤ بجزيئات الأدوية المحتملة التى قد تثبت فى النهاية أنها سامة.
على حين أن هذا النوع من التطورات قد يكون بعيد المنال، إلا أن الحواسيب الكمومية تُحرز بالفعل بعض التقدم.
يقول "جون بريسكيل" من "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" فى "باسادينا" إن هناك بالفعل عشرات الاكتشافات التى تُسد الثغرات فى فهمنا لكيفية عمل عالمنا من الداخل. تشمل هذه الاكتشافات رؤىً حول كيفية تطور مغناطيسية سلاسل الذرات، ومحاكاة "بلورات زمنية" غريبة يبدو أنها تبقى فى حركة دائمة، ودراسات للأنظمة التي يُمكنها بشكل انتقائى، مقاومة إتجاه الكون نحو الفوضى المتزايدة، أو الإنتروبيا.
ترى "عزيزة سليمان" من "جامعة كاليفورنيا"، "بيركلى"، أن الحوسبة الكمومية جديرة بالاهتمام بغض النظر عن تطبيقاتها المستقبلية. وتشير إلى مثال مرصد موجات الجاذبية بتداخل الليزر، الذى يرصد تموجات الزمكان الناتجة عن أحداث ضخمة مثل تصادمات الثقوب السوداء.
وقد أدى تكييف أساليب الكم للتحكم فى الضوء، على غرار تلك المستخدمة فى بعض تصميمات الحواسيب الكمومية، إلى زيادة كبيرة فى وتيرة هذه الاكتشافات. وتقول إن السعى المستمر لإتقان تأثيرات الكم بشكل شامل، بما يسمح لنا ببناء حاسوب كمومى بمليون كيوبت، من شأنه أن يُسفر عن تأثيرات ثانوية مماثلة.
فى النهاية، يقول "ديماركو" إن عدم اليقين بشأن أنواع الخوارزميات التى ستعمل بشكل أفضل على الحواسيب الكمومية يجعل من الصعب التنبؤ بتأثيرها. وهذا لا يعنى أنها لن تُغير العالم - بل إننا لسنا متأكدين تمامًا من كيفية حدوث ذلك حتى الآن.
يُشبّه "ديماركو" هذا بسؤال شخص كان يُصنّع الحواسيب الشخصية فى سبعينيات القرن الماضى عن توقعه بإمكانية وجود هاتف آيفون مثلاً.
ويضيف: "أنا فى الواقع أكثر حماسًا للأشياء التى لا يمكننا التنبؤ بها".
تعليقات