هل الأخلاق موضوعية أم ذاتية؟

 سنعرض هنا لآراء أشخاص من خلفيات غير متخصصة. وإذا اردتم هذه المرة إضافة رأيكم الخاص، بدلا من رأيى، فسأكون سعيداً بالإضافة.

- "نيك بيفان"، لندن:

إذا كان هناك إلهٌ قديرٌ ورحيم، فإن الأوامر الأخلاقية الصادرة عنه ستكون مستقلةً عن عقولنا أو مشاعرنا، وبالتالى ستكون حقيقيةً موضوعياً. سيكون القانون الأخلاقى حقيقةً واقعةً، تماماً كما أن الماء H2O حقيقةٌ واقعة. ولكن إذا استبعدنا الٱلهة من المعادلة، فسنبقى مع العالم الطبيعى، الذى لا يقدم لنا مثل هذا التوجيه. لذلك عندما ننظر إلى المجتمعات المختلفة نجد مجموعةً متنوعةً من القواعد الأخلاقية. قد يوحى هذا بأن الأخلاق ذاتية - وأن المبادئ الأخلاقية ليست سوى تعبيراتٌ عن تفضيلاتٍ ثقافية، أو قواعد وضعها بعض الأفراد الأقوياء لمصلحتهم الخاصة، أو مجرد تعبيراتٍ عن المشاعر. 

ويمكن تعزيز الحجة الذاتية بتسلّيط الضوء على التغيرات التى لا نهاية لها والتى حدثت المعتقدات والممارسات عبر التاريخ.

لكن لا شك أن هناك أفعالًا نشعر بشكل تلقائى أن إدانتها مبررة عقلانيًا حتى عندما تحدث في مجتمعات بعيدة عنا كالإبادة الجماعية مثلًا او حق الشعوب فى تقرير المصير. ولكن إذا كانت الأخلاق ذاتية، فعلى أى أساس سيرتكز هذا الانتقاد، بخلاف حجة "أفعالك لا تروق لى من الناحية الأخلاقية"؟

يبدو أننا  فى هذه المرحلة، عالقون فى متاهة اتباع النهج الذاتى للأخلاق، وفى الوقت نفسه نحن نشكك فى ذاتية الأخلاق. وبما أن الأخلاق تعد أساس أى مجتمع منظم، فإن هذه ليست مسألة بسيطة. 

لذا، اعتقد أن السؤال نفسه مضلل، إذ يوحى بثنائية جامدة، بينما الإجابة أكثر تعقيدًا.

لا شك أن الأخلاق تتغير بمرور الوقت. ولكن الأهم من ذلك، أن القيم الأخلاقية  وعلى العكس، مثلاً، من تفضيلات الطعام أو الموسيقى - هى موضوع يخضع للنقاش العقلانى. إذ لا يكفى أبدًا القيام بتبرير موقف أخلاقى، بإرجاعه إلى ذوق المرء: يجب أن تكون المواقف الأخلاقية قابلة للدفاع عنها (حتى لو كانت الحجة هى مجرد خضوع لسلطة أعلى). 

أشك فى إمكانية التوصل إلى نظرية أخلاقية موحدة، كما يحلم بها بعض الفلاسفة؛ لكننى أجادل (دون الحاجة إلى تبنى شكل أصيل من الواقعية الأخلاقية يضع القضايا الأخلاقية على قدم المساواة مع الحقائق العلمية) بوجود قدر من الموضوعية فى الخطاب الأخلاقى؛ وأن هناك معايير يمكن من خلالها الحكم على الحجج الأخلاقية؛ وأن التقدم فى النظرية الأخلاقية هو أمر ممكن.


- "بيتر بيرس"، لوتويتش، أستراليا:

إن طرح الأسئلة بهذه الطريقة الثنائية البسيطة سيولد أيضاً إجابات ثنائية بسيطة، وغالبًا لن تكون ذات فائدة كبيرة. الأخلاق ليست بسيطة، وليست متجانسة، إنها أمر أكثر تعقيداً. هناك نسيج من الطيف الأخلاقى، والأسئلة والأجوبة التى تتفاعل مع هذا النسيج تقدم المزيد من الاضافات. 

الأمور الموضوعية هى تلك التى تتطلب مصدرًا يمكن التحقق منه خارجيًا - نقطة بداية ما ليست من صنع الإنسان. مثال على ذلك الجاذبية التى يمكننا اختبارها وقياسها بشكل موضوعى، وتكون موجودة سواء كان البشر حاضرين أم لا ليشعروا بآثارها. على حد علمنا، الاخلاق هى ممارسة إنسانية بشكل حصرى، وليس لها مصدر غير بشرى يمكن التحقق منه، و على هذا الأساس فهى ذاتية. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك، فلأن الأخلاق ذاتية، تكون عرضة لتقلبات التفضيلات البشرية بمرور الوقت. 

يتغير الطيف الأخلاقى، فبعض الأفعال البشرية التى كانت تعتبر فى وقت ما غير أخلاقية، تتحول إلى مقبولة أخلاقيًا، والعكس صحيح. 

هذا هو المقصود بكونها ذاتية، ولكن من ناحية أخرى، فإن بعض العناصر  الأخلاقية تظل ثابته. على سبيل المثال، يُنظر إلى القتل والسرقة والكذب على أنها أفعال خاطئة أخلاقيًا عبر العصور والثقافات والأديان. 

هذا الثبات والانتشار يُضفيان على هذه العناصر الأخلاقية الأساسية طابعًا موضوعيًا. فهى تُشير إلى وجود متطلبات أخلاقية أساسية لجميع المجتمعات، واعتبار هذه الأساسيات موضوعية يُساعد على فهم الأسس الأخلاقية الموضوعية، والمتغيرات الذاتية.


- "كارولين ديفورش"، ليشترفيلد، بلجيكا:

فى أغنيتها "سرد القصص" تُغنى "تريسى تشابمان": "أحيانًا يكون الكذب هو الأفضل". يُعتبر الكذب عادةً أمرًا سيئًا، ومع ذلك هناك مواقف يبدو فيها الكذب من أجل قضية نبيلة هو "الأفضل". 

لنأخذ مثلاً الكذب أثناء الحروب من أجل حماية المدنيين. تُثير أمثلة كهذه سؤالًا جوهريًا: هل تعتمد الأخلاق على السياق، أم أن هناك قواعد موضوعية تُطبّق دائمًا؟

تبدو بعض المبادئ الأخلاقية عالمية. يُنظر إلى سفاح القربى والقتل والاغتصاب على أنها أمور سيئة فى كل ثقافة تقريبًا. يبدو أن هذا يُشير إلى وجود حقائق أخلاقية موضوعية.

يُؤذى القتل الأفراد ويُزعزع المجتمعات؛ لكن تفسير القتل بأنه خطأ قد ينبع من التعاطف والعقلانية معًا. وهكذا، يبدو أن الأخلاق مبنية على الحقائق والقيم. لذا، عندما نقول إن القتل غير مقبول أخلاقيًا، فإننا لا نعنى فقط أنه يُسبب الضرر: بل إنه يُلامس شيئًا أعمق؛ شعورًا غريزيًا نشعر به بالعدالة واحترام الحياة. 

يلعب السياق دورًا هامًا هنا أيضاً. فالصدق، على سبيل المثال، قاعدة عامة، لأن المجتمع الذي يكذب فيه الجميع عشوائيًا لا يُمكن أن يعمل بشكل صحيح. ومع ذلك، هناك حالات يكون فيها الكذب مُبررًا. فى مثل هذه الحالات، نشعر غريزيًا أن النية والعواقب تفوق القاعدة. هذا لا يعنى أن القواعد الأخلاقية تعسفية، بل إن تطبيقها يعتمد على الظروف.

لذلك، أؤمن بنهج مُختلط يُقرّ بالمبادئ الأخلاقية الموضوعية والسياق. الأخلاق مُتجذرة فى القيم والحقائق المتعلقة بالرفاهية والمعاناة، لكن تطبيق مبادئها يختلف. هذا يجعل الأخلاق ليست مسألةً واضحةً تمامًا، بل تفاعلًا دقيقًا بين القيم العالمية والتفسير البشرى. أحيانًا يكون الكذب هو الأفضل - ولكن ليس دائمًا.


- "ديفيد بيرجر"، لوسون، أستراليا:

يُقال لنا إن هناك شيئًا يُسمى "الأخلاق"، ولكن لا يُمكن رؤيته أو لمسه: فالمفهوم غير قابل للتحليل التجريبى. ولكن يُمكننا تحليله عقلانيًا، على سبيل المثال باستخدام "أسطورة المُعطى" لويلفريد سيلارز أو "التفكيكية" لجاك دريدا. تزامن كلا النهجين مع التخلى عن الإيمان بالعلم، عندما اجتاحت نظرية المعرفة صرختها القائلة بأن "لا أسس للمعرفة!" مع "رفض "الأساسيات" (المعتقدات التي تُؤخذ على أنها لا تقبل الشك). 

يُجادل "سيلارز" بأن كل وعى إنما هو شأن يتعلق باللغة. علاوة على ذلك، لا ينبغى الخلط بين الإيمان و الأخلاق. ببساطة، يُجادل "سيلارز" بأنه من الخطأ القول بأننا من خلال تجربة رد فعل أخلاقى يمكن أن نُدرك (طبيعة) الأخلاق نفسها. هذه هى "أسطورة المُعطى".  

على العكس من ذلك، لكى اشرح فهمى للأخلاق، على أن اشرح أن فكرتى عن السلوك الجيد (القواعد) لا تتطابق مع سبب هذا السلوك (المشاعر). ولكى نصبح أخلاقيين بتعلم قواعد السلوك الجيد، إنما هى تجربة ذاتية تمامًا.

يقول "دريدا" إنه لا يوجد شيء واحد يمنحنا محورًا للفهم؛ كل ما يمكننا تحقيقه هو مجموعة من وجهات النظر المختلفة. هذا يعنى أن الأخلاق "مجردة" و "غامضة"، قد تتكون من تحيزات عنصرية وجنسية وغيرها، تحاول مجموعة مهيمنة فرضها على الآخرين. فى الواقع، يقول "دريدا" إن "الأخلاق" فى الحقيقة ليست سوى دليل على أجندة خفية يقودها قطاع من المجتمع فى زمان ومكان معينين، وأنه يمكننا تفكيك أى أخلاق بإظهار نقيضها.

إذن، الأخلاق بناء بشرى، وبالتالى حدث ذاتى. لا يوجد سبب وجيه للقول إن الأخلاق موضوعية.

 

- "فيليب براون"، بورى سانت إدموندز:

يُعرّف قاموس كامبريدج الأخلاق بأنها "مجموعة من المعايير الشخصية أو الاجتماعية للسلوك والشخصية الجيدة أو السيئة، أو الصفات المتعلقة بالصواب والنزاهة". قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الأمر غير قابل للنقاش - حتى نصل إلى تناول الجزء الأخير، "الصواب والنزاهة". 

هل يُمكن للجميع أن يوافقوا على ما هو الصواب والنزاهة؟ أنا متأكد من أنه فى جميع أنحاء العالم، وفى العديد من الصراعات العنيفة، يعتبر الناس من كلا الجانبين أنفسهم على حق وصدق مبرر. وقبل أن نبدأ بالاعتقاد بأننا فى الغرب لدينا الفكرة الصحيحة عما هو الصواب والنزاهة، أنا متأكد من أن أسلافنا الذين استعمروا العالم واستعبدوا أو أبادوا السكان الأصليين وهم يلوحون بالإنجيل كانوا يعتقدون أنهم على حق وصدق أيضًا. كان لبناء الإمبراطوريات نفس الأثر لآلاف السنين؛ ولكن على عكس أسلافنا، لم يعد معظمنا (مع بعض الاستثناءات البارزة) يؤمن بأن القوة هى الحق. وهذا يُشير إلى تطور ما يُعتبر أخلاقيًا. مع اختلاف وجهات النظر حول ماهية السلوك الصحيح والصادق، كيف يُمكن للأخلاق أن تكون موضوعية؟ 

من المؤكد أنها ذاتية، وتتأثر بالثقافة السائدة؟ ولكن يُمكن القول أيضًا إن الأخلاق يعاد تقييمها باستمرار فى ضوء المستحدثات الجديدة. لذا أعتقد أن الأخلاق شىء يُكتشف، كما تكتشف الرياضيات البحتة الحقيقة الكونية: يدّعى علماء الرياضيات عادةً اكتشاف النظريات لا اختلاقها، وبنفس المعنى نكتشف، من خلال النقاش والتجربة، مع تطورنا كنوع ما هو أخلاقى وما هو ليس. 

لذا، فالأخلاق موضوعية.


- "ألاستير جراى"، بوجنور ريجيس:

إذا اعتبرنا التعبير "موضوعيًا" بمعنى الموضوع، و"ذاتيًا" بمعنى الذات، يبدو لى للوهلة الأولى أنه من غير المعقول أن تكون الأخلاق غير ذاتية. لو كانت الأخلاق موضوعية، لكانت بطريقة ما صفةً للموضوع مستقلةً عن تجربة الذات أو إدراكها. لا بد أن يكون افتراض خطأ القتل أو صواب الإحسان من سمات هذه الأشياء الأخلاقية. ومع ذلك، إذا شاهدنا شخصًا يُعطى ورقة نقدية من فئة 20 جنيهًا إسترلينيًا لشخص مشرد، مثلاً، يمكننا أن نرى لحظة التبادل، ويمكننا أن نرى المادة التى صُنعت منها الورقة النقدية نفسها، ويمكننا أن نرى تعبير وجه الشخص الذى استلم المال: الشىء الوحيد الذى لا يمكننا رؤيته هو "صواب" الفعل. وبالمثل، إذا شاهدنا شخصًا يُقتل، فقد نتمكن من رؤية جميع أنواع التفاصيل المروعة، لكننا لا نرى "الخطأ". إذن، لا "الصواب" ولا "الخطأ" صفتان موضوعيتان بالمعنى المعتاد لـ "الموضوعى".

 مع ذلك، ليس من الصحيح القول بأن الأخلاق يجب أن تكون ذاتية بالضرورة لأنها ليست موضوعية. بل من المستحسن القول بدلاً من ذلك إنها تقييم يُجريه شخص (ربما بغير وعى) لشىء أو فعل، على غرار رؤيتنا لعمل فنى على سبيل المثال. لكن المشكلة أننا إذا نظرنا إليها بهذه الطريقة، فذلك يعنى أننا ما زلنا نفترض وجود شىء ما تشير إليه كلمة "أخلاق". هذا يشبه وجود كلمة "المتنورون" وافتراض وجود مثل هذه المجموعة، وإلا فلماذا نملك كلمة تُعبّر عنها؟

إذن، الأخلاق ليست موضوعية، لكنها ليست ذاتية أيضًا. إنها إشكالية مرجعية - أى أنها كلمة لا يمكن تحديد مرجعها. ادعى مفكرون عديدون أن ما نسميه أخلاقًا هو رغبة فى الموافقة أو الرفض. فى هذه الحالات، لن تكون الأخلاق سوى انفجار عاطفى، بل وفسيولوجى. هذا لا يشبه الاعتقاد الأصلى بأن التقييم الدقيق يمكن أن يكشف عن الأهداف الأخلاقية.  لذا، فالأخلاق ليست ذاتية ولا موضوعية. إنها كلمة بلا مرجع. لا وجود للأخلاق.


عن: "الفلسفة الآن"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة