Sunday, November 17, 2024

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

ترجمة مقال جيمس ب. مايلز المنشور فى عدد أكتوبر/نوفمبر 2024 من دورية "الفلسفة اليوم".
مايلز هو كاتب رائد في مجال الآثار الأخلاقية لمفهوم الإرادة الحرة، وقد نُشرت أعماله فى دوريات متخصصة كمجلات الفلسفة والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.

يعتقد "جيمس ميللر"  انه حتى لو وجدت فى الواقع شخصية ET السينمائيه، فانها لن تكون اكثر ذكاءا كثيرا من "كيم كاردشيان"، كما يعتقد بأن التهديد الحقيقى الذى يمثله الذكاء الاصطناعى، لم يفهم بعد بالطريقة الصحيحة.
فى العام ١٩٩٥ نشر عالم الأحياء والرياضيات الانجليزى "جون ماينارد سميث"، كتابه: التحولات الكبرى فى نظرية التطور.
"جون ماينارد" هو أحد المشاركين في تطوير "علم الأحياء التطورى" المرتكز على دراسة الجينات فترة الستينيات, وهو مؤسس نظرية اللعبة التطورية اوائل السبعينات.
ما توصل اليه "ماينارد" فى كتابه عن "المعدل العالى لذكاء الجنس البشرى" يعد عملا ثوريا, او على الأقل عملا بالغ التقدم.
كان المشارك الاخر فى تطوير هذا العلم، هو عالم الأحياء الامريكى "جورج سى ويليامز"، والاثنان مثلما كان "تشارلز داروين" نفسه، مولعين لأقصى حد بمعضلة ما يسمى "مفارقه الذكاء المرتفع للبشر"، وما تنطوى عليها من مشاكل تطورية.
ولعل ذلك الأمر هو ما دفع الداروينيين الأوائل للجوء للفلسفة فى محاولة لفك الغاز تلك المعضلة.
فعلى الرغم من أن عمليه التطور تتم  فى الغالب بشكل تدريجى، فإن علماء الأحياء النظرية يعترفون ايضا بوجود بسلسلة من أحداث التحول الكبرى،(الطفرات)  تضمنت تغييرات عميقة في طريقة تخزين المعلومات ونقلها فيما بين الأجيال المتعاقبة.
فى كتابه "التحولات الكبرى فى نظرية التطور" يرصد "ماينارد" ثمانيه من تلك الطفرات خلال أربعة مليارات سنة من تطور الحياة على كوكب الارض.
من تلك الطفرات، التحول المبكر من ال "RNA" الى ال "DNA" ، الانتقال من الخلايا البدائية إلى الخلايا ذات النواة، والانتقال من التكاثر اللاجنسى إلى التكاثر الجنسى.
كانت الطفره التطورية السابعه بالنسبة له، هى التحول الجينى الذي سمح لبعض الأنواع بالعيش فى مستعمرات كبيرة. وهذه الطفره تحديدا سببت انزعاجا ل"داروين" بسبب وجود الحشرات غير المنتجة والعمال العقيمين.
اما الطفره الثامنة بالنسبة ل"ماينارد" فكانت "معدل الذكاء المرتفع للبشر" والتى أدت تلقائيا الى قدرتهم على استخدام اللغة.
بالنسبة له كانت تلك هى الطفره التطورية النهائية.

يصطدم التطور الطبيعى للذكاء مع سقفين شديدى الصعوبه، ففى كل مكان من المحيط البيئى، يكون تطور الذكاء مقيدًا بمستوى تطور منخفض نسبيًا بسبب متطلبات استقرار المجموعة (هذا هو السقف الاول).
يطلق " ماينارد سميث" على هذا المفهوم  "استراتيجية الاستقرار التطورى" 'ESS' ، والذى يعنى أن مستوى طبيعى محدود من الذكاء يؤدى  الى استجابة مستدامة لضغوط الانتخاب الطبيعى.
وبالرغم من  ذلك، فإننا نجد ان الذكاء المرتفع مثل ذكاءنا نحن البشر، هو نتاج حدث تطورى رئيسى او طفرة، نسبة احتمال حدوثها هى مرة واحدة فى المليار.(علينا تذكر هذه النسبه حيث انها مفتاح فهم العلاقة بين كيم كاردشيان و .ET. وايضا خطورة الذكاء الصناعى).
ربما يبدو لك توصيف "ماينارد سميث" للذكاء البشرى المرتفع والذى نتج عنه استخدام اللغة، بوصفه احد طفرات التحول التطورية الثمانية الكبرى غريبًا.
ذلك أنه يضع التطور اللغوى البشرى على نفس مستوى الأهمية الذى يعادل ظهور التكاثر الجنسى أو تعدد الخلايا.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا التوصيف مبالغ فيه ومتحيز للجنس البشرى مقارنة بالكائنات الأخرى.
ذلك أن الطفرات السبعة الأخرى كان لها تأثيرات واحدة على من الآلاف إلى المليارات من الأنواع، اما تلك الطفرة الثامنة فقد اقتصرت على نوع واحد فقط من الكائنات الحية (الانسان العاقل).
ولكن هذا الطرح يمكن ان يبدو غريبًا فقط فى حالة إذا ما نظرنا إلى الذكاء باعتباره طيفًا متواصلًا.
ولكن ما توصل اليه "ماينارد"، (والذى ربما يكون أفضل عالم أحياء ورياضيات فى النصف الأخير من القرن العشرين)، هو ان الذكاء البشرى لا يمكن أن يوجد فى أى طيف من تطور ذكاء الرئيسيات الأخرى باستثناء البشر.
بل ان هذا الذكاء البشرى ليس سوى نتاجا لانفصال فى عمليه التطور نفسها اختص بها الانسان العاقل وحده دونا عن باقى الكائنات.
من هنا، فهذه الطفره فى الحقيقة هى نقطة التحول التطورية النهائية.

من ناحية اخرى فإن مستوى هذا الذكاء اللغوى القابل للتحقيق يصل هو الاخر إلى حده الأقصى (السقف 2)، فهذا النوع من الذكاء يصبح بعد ذلك غير مرئى لعمليات الانتخاب الطبيعى كما سنشرح لاحقا.

هذا يعني ببساطة ان الذكاء الإنسانى هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكون من ذكاء، بغض النظر عن عمر الكون، وبغض النظر عن المدة التى تتطور فيها بقية الأنواع.
لم يكن "ماينارد سميث" فى الحقيقة يقول شيئًا جديدًا. ففى مراسلات "داروين" مع "ألفريد راسل والاس" فى ديسمبر 1857، وصف "داروين" مستوى الذكاء البشرى بأنه "المشكلة الكبرى والأكثر إثارة للتساؤل بالنسبة لعلماء الطبيعة".
و قد اتفق "والاس" مع "داروين" فى هذا الشأن؛ ووصفها بأنها "المشكلة التى تخالف" عمله واعمال داروين والتى، ووفقا لنظرية الانتخاب الطبيعى، لم يكن ينبغى لها أن تحدث.

كتب "توماس هكسلى"، احد مريدى داروين، ورئيس الجمعية الملكية في عام 1883، وتحدث على نطاق واسع عن مفارقة او مشكلة الذكاء العالى للبشر.
بل ان "هكسلى"، والذى تقلد فى احد الأوقات رئاسة الجمعيه البريطانية الميتافيزقية، اضطر للتحول من علم الأحياء الى الفلسفة فى محاولة لتفسير تلك المعضلة، بالاستعانة باعمال فلاسفه من امثال، "هيراقليطس"، و"بيركلى"، و"كانط".
وفى محاولته للوصول إلى جوهر الحقيقة، قام "جورج ويليامز"، بالتعاون مع المؤرخ الثقافي "جيمس باراديس" من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، بكتابة كتاب عن إجابة "هكسلى" عن تلك المفارقة.

مفارقة او معضلة الذكاء العالى والمرتفع للبشر، تعد أكبر مشاكل "داروين" التطوريه وأكثرها إثارة للاهتمام.
فالبشر لا يتطورون بالطريقة التي تتوقعها نظرية الانتخاب الطبيعى. فنحن وعلى العكس من المفترض، نستطيع العيش والتعاون والانسجام معا فى جماعات ومجموعات ذات أحجام هائلة، أكبر بمراحل مما ينبغى لقدراتنا طبقا للنظرية. 
كما انه ليس من المفترض لنا نحن البشر أن نكون قادرين على امتلاك صفات التعاطف والتراحم الانسانى تلك كما حدث.
والاهم اننا فى الحقيقة أكثر ذكاءً بكثير مما ينبغى.

على اية حال، فهذه ليست مشاكل منفصلة، بل هى ثلاثيّة مركبة من المشاكل.
دعونا ننظر إلى كل واحدة منها على حده:

معضلة حجم الجماعات
يتم الحفاظ على حجم جماعات الكائنات الحية مستقرًا بشكل فعال من خلال العوامل التطورية سواء الإيجابية منها او السلبية، بما فى ذلك توافر الغذاء والأمن وايضا استراتيجيات السلوك المستقرة التطورية؛ ولكن بشكل عام، كلما أصبحت الثدييات أكثر ذكاءً، كلما كانت أحجام مجموعاتها أصغر.

تعبر قوافل الحيوانات البريه غابات افريقيا الاستوائية سنويا بأعداد هائلة تصل إلى عشرات الآلاف؛ وحيث ان العشب لم يتطور بطريقة تمكنه الهروب من هذا المصير، لذا لا يتوجب على تلك الحيوانات البرية التعاون معًا للحصول على الغذاء.
فى عام 1971، كتب عالم الأحياء من "جامعة أكسفورد" "بيل هاملتون" ورقة بحثية كانت بمثابة البداية لما يسمى "نظرية أنانية القطيع"، مسلطًا الضوء على أن أفراد القطيع يبحثون دائمًا عن الحمايه. من امثلة ذلك، تنافسهم للوصول إلى الاماكن الأكثر أمانًا وسط القطيع، بحيث يتركون الاخرين لمواجهة مصيرهم على الحواف الخطرة.
وعلى النقيض من ذلك، نجد الجماعات التى تتمتع بالتماسك الاجتماعى القوى تقتضى نوعيات من السلوك  الذى يستلزم تفاعلات تعاونية بين أفراد الجماعة.

تعيش قرود البابون عادة في مجموعات تصل إلى بضع مئات فقط. ذلك ان الرئيسيات الأكثر ذكاءً تكون أفضل حنكة ودهاءا، ولمواجهة هذا التهديد، نجد ان الاحجام الأصغر للجماعات تجعلها أكثر فعالية  وافضل فى مواجهة تلك الحنكة وذلك الدهاء.
وعلى ذلك نجد ان أقرب أقربائنا الأحياء، مثل الشمبانزى والبونوبو، نادرًا ما يعيشون في مجموعات أكبر من مائة فرد.
اما البشر فكما وصفهم احد علماء "هارفارد" فانهم بحق "المخلوقات الفائقة القدرة على التعاون ".
ان آليات الوراثة الجينية المتنوعة جدًا فى الحياة، لا يمكنها  ولو حتى مجرد الاقتراب من خلق مخلوقات اخرى، تحاكى مستوى تعاوننا، أو مستوى اللاعنف لدينا.

قد يبدو هذا الأمر مدهشًا، لكننا بشكل عام أقل عنفًا بآلاف المرات من أنواع الرئيسيات الأخرى. وعلى حد تعبير "ستيفن جاى جولد" ، فإننا ودودون ولطفاء بشكل ملحوظ واستثنائى.
الا انه وبغض النظر عن اية نماذج جينية يتم دراستها، سنظل فى مواجهة معضله عدم وجود تفسير تطورى يبرر هذا الحجم الهائل لمجموعتنا البشرية.

لقد قيل أن فأر الخلد العاري هو أقرب الثدييات إلى التصرف مثل الحشرات الاجتماعية، حيث يعيش فى مستعمرات يصل عددها إلى ثلاثمائة فرد، ويتمتع بتقسيم سلوكي وتناسلي للعمل. لقد حققوا هذه الحالة المستقرة جزئيًا من خلال التزاوج الداخلى المكثف فيما بين أفراد القطيع. حيث يبلغ متوسط ​​​​القرابة داخل مستعمرة فئران الخلد العارية 0.81 - وهو أعلى معدل مسجل بالنسبة للثدييات فى الطبيعية. ومع ذلك، لا يمكننا القول بأن جرذان الخلد أو حتى الحشرات الاجتماعية  تعيش فى حالة وئام، اذا ما تم مقارنتهم بالبشر.
يشار عادة لمستعمرات جرذان الخلد العارية باعتبارها ـ "الديكتاتوريات الإنجابية"، فعادة ما  تكون الأنثى القادرة على الانجاب هى الحيوان المهيمن على المستعمرة. وتقوم الملكة بمهاجمة منافسيها القادرين على الإنجاب وقتلهم؛ وفى الاغلب يكون هؤلاء من أقاربها المقربين جدًا، كأخواتها مثلا.
وعلى حد تعبير "مارك إلجار" و"برنارد كريسبى" فى دراستهم الاستقصائية عن أكلى لحوم البشر بين الحشرات الاجتماعية، "يتغير الوضع الاجتماعى فى المستعمرات بشكل كبير عندما تبدأ هيمنة الملكة التى يتم التحكم فيها عن طريق الفيرمونات والسلوك فى الفشل أواخر الصيف... فيحدث القتال بين الملكات والعاملات، وبين العاملات وبعضهم البعض".
(Cannibalism: Ecology and Evolution Among Diverse Taxa, 1992).

كيم كاردشيان و إيه  تى

ولكن المفارقة لا تكمن فقط فى قدرة البشر على التعاون فيما بينهم فى جماعات مختلفة الأحجام فحسب، بل وايضا مهارتهم فى عمليات تقسيم وتوزيع العمل فيما بينهم، بطريقة لا يمكن تفسيرها بالحتمية الفيرومونية، أو الدكتاتوريات الإنجابية، أو القرابات الوراثية كالموجودة بين النمل، أو النحل، أو الدبابير، أو بالتزاوج الداخلى المكثف الموجود في مستعمرات النمل الأبيض.
إننا لا نجد أيضًا تفسيرا لسلوكياتنا  الأخلاقية، اذا ما حاولنا ربطها بالتحولات التطورية للكائنات السابقة.

وعلى حد تعبير عالم الرئيسيات "فرانس دي فال"، فإن الشمبانزى يعيش في "عالم عديم رحمة". وحتى قرود البونوبو، التى روج لها البعض باعتبارها من انواع  القردة الأخلاقية، بدأت تصدمنا، كالشمبانزى قبلها، مع ظهور المزيد من البيانات من الأبحاث الميدانية.
على سبيل المثال، في عام 2016، التقط "ناهوكو توكوياما" وزملاؤه مقطع فيديو لحالة أكل لحوم البشر لدى أمهات قرود البونوبو لصغارهم الميتة حديثًا. حيث أمسكت إحدى الأمهات بالجثة بيدها اليمنى وقضمت فجأة رأس الرضيع الذى كانت تعتنى به قبل ساعات قليلة فقط.
وطالما أنك تسلم أن البشرية قد تطورت من سلف مشترك مع الشمبانزي والبونوبو، فعليك أن تجد طريقة ما لتفسير هذا الانتقال من تماسك الجماعات الصغيرة في "عالم القردة بلا رحمة"، إلى هؤلاء البشر "المتعاونين" والى هذا "النوع البشرى المتعاطف والودود بشكل ملحوظ".
إن الذكاء البشرى يلعب دورًا حاسمًا فى قدرتنا على تنظيم أنفسنا فى مجتمعات، وفى عمليات تقسيم العمل المعقدة.
وهذا الذكاء الاستثنائى ضرورى للغاية لتطوير اللغة ، والكتابة، والتعلم ونقل الخبرات، والمهارات الدراسية، والفكر المتقدم.
فلا يمكنك الوصول إلى مرحلة التفكير المعقد والتعلم العابر للاجيال من خلال تلك الجماعات الصغيرة الموجودة فى الطبيعة. ولا تستطيع أيضًا الوصول لذلك من خلال العيش داخل جماعات مغلقة.
فالجماعات يمكنها النمو للوصول الى أعداد كبيرة، فقط عندما يكون هناك درجة عالية من الخصوصيه الجينية المستدامة، والا فكما هو الحال مع فأر الخلد العارى، فإن المجموعات التعاونية لن تتجاوز أبدًا بضع مئات.

ما الذى يفسر اذن ذلك الانفصال التطورى للبشر فى عمليات الانتخاب الطبيعى؟
بالنسبة ل"داروين"، فى كتابه "أصل الإنسان" (1871)، فإن هذا الانفصال حدث عندما اصبح الدماغ البشرى معقدًا بدرجة كافية - بما يكفى لجلب احاسيس ومشاعر من قبيل مشاعر الامل والخوف وغيرها، والاهم بسبب القدرة على استخدام هذا الوسيط الجامع المشترك بين البشر  المتمثل فى اللغة.
الان وبالنظر إلى وجود  سلف مشترك لنا مع الشمبانزى والبونوبو، يظهر التساؤل: هل يمكن لعملية تطور العقل البشرى وحدها، أن تكون كافية لتفسير قدرتنا الفائقة على التعاون ولتعاطفنا الانسانى؟

في كتابه القصير "السلام الدائم" عام 1795، اشار "إيمانويل كانط" الى أنه حتى لو وجدت جماعة من الشياطين، وكانوا أذكياء بالقدر المناسب، فسيمكنهم التعاون لبناء دولة.
لكن المشكلة انهم اولا يجب أن يتمتعوا وعلى مدى زمنى طويل بالقدرة على التفكير العقلانى.
وتطورهم هذا يمكن أن يصل إلى درجة معقوله لكنه لن يتميز بالكمال.
وثانياً، أنهم سيظلون في جوهرهم جنسًا من الشياطين بدلاً من نوعنا الودود والعاطفى بشكل استثنائى.

يوجد حاليا تفسيران شائعان في علم الأحياء لمعضلة الذكاء الانسانى. كلاهما يتطلب تعديلا او بالاصح طفرة ضخمه على المستوى الجينى.
الأول، هو "الانتخاب متعدد المستويات"، أو MLS، والذى يتطلب حدوث مستويات انتخاب أعلى بكثير مما تفترضه عمليات الانتخاب الطبيعى.
وعلى حد تعبير المنظر الرائد فى مدرسة ال MLS، "ديفيد سلون ويلسون"، فان "نظرية الانتخاب متعدد المستويات لديها القدرة على تفسير لماذا اصبح البشر هكذا اجتماعيون للغاية، وايضا لماذا كانوا استثناءا بتنوع فريد من عمليات الانتقاء الجمعى" (Unto Others، 1998).
لاحظ هنا مصطلح "اجتماعى للغاية"، وكذلك ذلك المطلب المزعج لـ"التنوع الفريد" فى عمليه الانتقاء الجمعى.
اما التفسير الثانى، المسمى "علم الاجتماع البيولوجى البشرى" Human Sociobiology- والذي انبثق من الفرع الشائع المسمى "علم النفس التطورى" - فانه يستلزم ظهور آلية وراثية جديدة ومعاكسة. يشار اليه احيانا ب (علم البيئة السلوكى*) Behavioral Ecology.
تم طرح نظرية علم الاجتماع البشرى في سبعينيات القرن العشرين من قبل اثنين من علماء الأحياء الأمريكيين هما "روبرت تريفيرز" و"إدوارد  ويلسون"، فى الرسالة التي سميت بهذا الاسم.
ومع ذلك ففى  عام 2010،  تخلى "أدوارد ويلسون" عن نظريته الخاصة  وتبنى بدلا منها نموذج "دافيد ويلسون" للتطور الاجتماعى المتقدم فى كل من الحشرات والبشر.
لا يربط "علم الاجتماع البيولوجى البشرى" ما بين تحولنا إلى هذا النوع الاجتماعى الرحيم الودود والعاطفى وبين تطور تعقيد الدماغ البشرى فى حد ذاته.
حيث ان "مبدأ أوكام" يخبرنا أنه من الأرجح أن يكون دماغنا المعقد الفريد قادراً بطريقة أو بأخرى على تفسير قدرتنا الاستثنائية على العيش في مجموعات كبيرة دونما الحاجة إلى القيام ببرمجة جينية فريدة.

إن ما سمح لنا بالتحول إلى هذه الجماعات كبيرة العدد، هو ذلك الدماغ المعقد والقابل للتأثر بمشاعر من قبيل الآمال والمخاوف، تلك القدرة المستقلة على اتخاذ القرارت.
لقد تكونت لنا آليات جينية و آليات انتخاب طبيعى جمعى جديدة.
ولكن بعد الوصول لهذه النقطة، تصبح الارتباطات الجماعية عمليه آلية تلقائيه بدلا من كونها وراثية، أو إذا فضلت أن تعبر عن الأمر بهذه الطريقة، تصبح عمليه ثقافية وليست عمليه بيولوجية.
وهكذا تتحول مجموعات بشريه تتألف مثلا من مائة فرد من الأقرباء البيولوجين فجأة إلى مجموعات غير عائلية تتألف من آلاف أو مئات الآلاف من البشر. وتتحول اللبنات الأسرية الصغيرة الى دول وأمم تتشكل وتتجدد وفقاً لمفاهيم ثقافية متغيرة ومتناقضة فى كثير من الأحيان.
ببساطه ذلك يعنى أنه لم يعد هناك أي شيء يمكن للانتخاب الطبيعى أن يعمل عليه - أى انه لم يعد هناك وجود لضغوط تطورية تدفعنا لكى نصبح أكثر ذكاءً.
فبعد ان تتخطى الجماعات البشرية المرحلة التى يصل فيها الدماغ البشرى إلى هذا التعقيد الذى يسمح بظهور المفاهيم المشتركة، ويدفع حجم الجماعات للنمو، يبدأ هنا دور الثقافة والحضارة فى دفع التطور البشرى قدما؛  ويتوقف فجأة كل شيء اخر له علاقة بالتطور البيولوجى.
فسلوكنا هنا لن يصبح نتاجا لعمليات الانتخاب الطبيعى البيولوجية التطورية.
حين نصل لهذة المرحلة، لن تتمكن الطبيعة من جعلنا أكثر ذكاءا مما وصلنا اليه بالفعل.
أى اننا الان، ببساطة اذكى المخلوقات التى يمكن ان توجد فى الطبيعية.

ذلك يعنى ايضا أنه حتى فى حالة وجود مخلوقات اخرى فى الاكوان الخارجية، فإن مستوى الذكاء عندها، سيكون فى نفس درجة مستويات ذكاء البشر على كوكب الأرض. المستوى الذي وصلنا إليه عندما تجاوزنا مرحلة الانتخاب الطبيعى الى تطورنا الاجتماعى والثقافى.
لقد كان لدينا دائمًا هذا التساؤل حول ما اذا كان الكون  يحوى مخلوقات اخرى من الاستثنائيين بالغى الذكاء بما يتجاوز ذكاءنا البشرى بكثير، كما كتب هربرت جورج ويلز عن المريخيين، أو كما اشار كارل ساجان الى هؤلاء "الفضوليين والمنعزلين الذين يراقبوننا من بعيد".
ولكن بسبب مشاكل كقدرة الجماعات الكبيرة على التماسك وارهاصاتها المحتملة، التى تعتمد بالكامل على عمليات الانتخاب الطبيعى، فإن تلك المخلوقات الرائعة التى تفوق عقولها ذكائنا البشرى بكثير - لا يمكنها أن توجد في هذا الكون.
نعم، يمكنهم من الناحية التكنولوجية، ان يكونوا أكثر تقدمًا منا بكثير؛ ولكن من الناحية النفسية والمزاجية والفكرية، فلن يكونوا أبدًا اعلى من مستوى الشخصيات الموجودة فى عائلة تلفزيون الواقع كارداشيان.
فبعد ثلاثة عشر مليار سنة من الانبثاق الهائل للنجوم، في هذا الكون الذى يمتد لعشرات المليارات وربما التريليونات من السنين الضوئية، فان كل ما وصل إليه الكون، أو ما سيصل إليه، من ذكاء لن يتخطى هذا المستوى من الصراعات السياسية، ونظريات المؤامرة، وبرامج تلفزيون الواقع.


مشاكل الذكاء الصناعى

حسب اخر معلوماتنا، فانه يوجد كائن واحد فقط من بين مليارات الكائنات، هو من نجح  فى ان لا يكون جزءا من هذا "العالم الخالى من الرحمة" (يمكننا أن نضم هنا الكلاب المستأنسة، التى تم منحها تعديلًا وراثيًا مصطنعًا يخفى هذه الطبيعة ولكن لا يمحوها).

لقد ازعج السلوك والفكر البشرى المتقدم "داروين" وشكل بالنسبة له"المشكلة الأعظم والأكثر إثارة للاهتمام".
ولنفس هذا السبب تبرز مخاوف هائلة من سعى البشر المحموم، لتخليق ذكاء اصطناعى شبيه بالتطور البيولوجى للبشر.
فقد ينتهى بنا الأمر الى تخليق كائن شديد الخطورة يتم إنتاجه عبر نفس تلك النسبه الذهبيه الخاصة بالانسان العاقل: الواحد من المليار.

لقد اختبرنا بالفعل كيفية التعايش مع نوع محدود من الذكاء الصناعى الاولى، الا ان الهدف النهائى لجميع أبحاث الذكاء الصناعى تقريبًا هو الذكاء العام، والذى يُطلق عليه أحيانًا الذكاء الاصطناعى القوى، أو الكامل، أو الحقيقى، الذى يكون على نفس مستوى ذكاء الإنسان (بل ويتخطاه)، والذى يُعرف رسميًا باسم "الذكاء العام الاصطناعى".
ومع ذلك، إذا ما تمت بنجاح مساعى تحقيق هذا "الذكاء الاصطناعى العام"  بالاستعانة بعلم الأحياء، فيبدو أن هناك احتمالًا أكبر بمليار مرة، أن هذا النوع من الذكاء لن يمر اطلاقا بمراحل التطور البيولوجى التى خضع لها البشر، والتى أدت فى النهاية لتمتعنا بتلك الطبيعة العطوفه الرحيمة.
بعبارة أخرى، من المرجح أن مثل هذا الذكاء الاصطناعى العام، و سيكون فى جوهره، ذكاءاً بلا اى رحمة. سيكون وبمليار مرة أكثر من أي شيء آخر، ذكاء منعدم الضمير تماما.

من أساسيات علم الأحياء، أن الكائنات الحية باستثناء الانسان، لن تتمكن من تحاشى التعقيدات البيولوجية التطورية، التى تجعلها "عديمة الرحمة "، لأن الصراع على البقاء هو الخوارزمية ذاتها التى تقف وراء هذا التعقيد. وذلك ما يجعل التطور عن طريق الانتخاب الطبيعى يعمل بنجاح كبير، وبالتالى ينتج أنماط السلوك الموجودة في الحشرات الاجتماعية، وجرذان الخلد، والحيوانات البرية، والكلاب المستأنسة، والقردة، والشمبانزى، والبونوبو.

خلال العقد الماضى، كان تطور الذكاء الاصطناعى يدور عادة حول المناحى البيولوجية. وقد حلت "الشبكات العصبيه الاصطناعية" ANNs التى تعد واحدة من أهم التقنيات المستخدمة في مجال الذكاء الإصطناعى والتي سُميت بهذا الإسم لأنها تُحاكى الشبكات العصبية الموجودة بالعقل البشرى،  محل الذكاء الاصطناعى الرمزى جزئيا، لأنه أصبح من الواضح أن التفكير الرمزى لا يمكن أن يقارع الذكاء البيولوجى.
يمكن القول ان "الشبكات العصبية الاصطناعية" هى السوفت وير المجرد للادمغة.

فى نفس الوقت، يبدو أن المناقشات حول "الذكاء الاصطناعى" الدائرة حاليا لا تدرك الخطر الحقيقى الذى يشكله "الذكاء الاصطناعى العام". لقد أحدث "جيفرى هينتون"، أحد عرابى الذكاء الاصطناعى، ضجة كبيرة عندما تحدث عن مخاطر الذكاء الاصطناعى العام. فقد صرح لمجلة "إم آى تى ​​تكنولوجى ريفيو" أنه يعتقد أن هناك نوعين من الذكاء فى العالم الآن، الذكاء البشرى والشبكة العصبية الاصطناعية: "إنه شكل مختلف تمامًا من الذكاء، شكل جديد وأفضل من الذكاء".
لكن الخطر الأعظم الذى قد يشكله الذكاء الاصطناعى العام (إذا وصلنا إليه يوماً ما) لن يكون أنه شكل جديد او أفضل من الذكاء؛ بل سيكون الخطر أنه شكل قديم جداً من أشكال الذكاء ــ شكل يعتمد تطوره على الانتقاء الطبيعى والاصطناعى، ولا يمتلك أى من خواص التعاطف او الضمير الانسانى.

إن الذكاء الاصطناعى يحاكى المنتجات البيولوجية للتطور، ولكن هل يعنى هذا بالضرورة أنه يحاكي التطور نفسه؟. وهل نحن راغبون فى رهن مستقبل الجنس البشرى فقط على قدرة خبراء التكنولوجيا على فهم والاهتمام بالفرق بين تقليد الكائنات الحية وبين تقليد التطور.
علاوة على ذلك، فالدليل الوحيد الذى نملكه حتى الان وعلى مدى الأربعة مليارات سنة الفائتة، هو أنه إذا قمت ببرمجة السلوك من خلال آلية وراثة ميكانيكية (مثل تلك يشار اليها هنا) فإنك وباستثناء فرصة واحد من المليار، سينتهى بك الأمر حتما إلى عالم منعدم الرحمة.

علاوة على ذلك، فإن أجزاء من مجتمعات تطوير الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلى، تستخدم وبنشاط فى اعمالها الخوارزمية التطورية نفسها.
وهكذا فكلما زاد الغموض والسرية فى عمليات التعلم العميق، و"التعلم غير الخاضع للإشراف"، وكلما زادت المنافسة والحاجة إلى تسريع وتيرة الانجازات، كلما ازدادت خطورة العواقب غير المتوقعة (أى السيئة).

إن الأبحاث التى يقوم بها الافراد دون التقيد بمحظورات او قيود بحثية يمكنها ان تصبح أسرع بكثير وأكثر استقرارًا وأقل عرضة للتخريب؛ لذا فإن تطور البحث الفردى هو طريقة سريعة وفعالة للغاية لتطوير التعلم الآلى. إلا انها فى نفس الوقت تحمل فى طياتها مليار من المشاكل!
ولا ننسى هنا مشاريع الذكاء الاصطناعى الخمسة التى يتم تطويرها خلف جدران الرقابة الحكومية الصينية؛ مع ثلاثة مشاريع أخرى تجري داخل جدران الفساد والعصابات الاجراميه فى روسيا الحديثة.

على الرغم من ان معرفتنا بمفارقة الذكاء العالى للإنسان تخطت 165 عامًا، الا اننا لم نحرز أي تقدم فى فهمنا لها. بل ويمكن القول إننا أبعد عن حل اللغز عما كنا عليه في العقود الأولى للداروينية. إنها المفارقة التي تستمر في الظهور. المفارقة التي تُظهر أن الحيوان البشرى هو الاستثناء الوحيد من بين مليار نوع من الكائنات الحيةالأخرى.
المفارقة التي تحول  إيه تى إلى كيم كارداشيان.

إن الخطر الحقيقى للذكاء الاصطناعى المتقدم لا يكمن في أنه سيكون شيئًا جديدًا ، بل فى أنه فى حقيقته ليس سوى مثالًا لشىء قديم،  قديم جدًا.