Sunday, November 17, 2024

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

ترجمة مقال جيمس ب. مايلز المنشور فى عدد أكتوبر/نوفمبر 2024 من دورية "الفلسفة اليوم".
مايلز هو كاتب رائد في مجال الآثار الأخلاقية لمفهوم الإرادة الحرة، وقد نُشرت أعماله فى دوريات متخصصة كمجلات الفلسفة والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.

يعتقد "جيمس ميللر"  انه حتى لو وجدت فى الواقع شخصية ET السينمائيه، فانها لن تكون اكثر ذكاءا كثيرا من "كيم كاردشيان"، كما يعتقد بأن التهديد الحقيقى الذى يمثله الذكاء الاصطناعى، لم يفهم بعد بالطريقة الصحيحة.
فى العام ١٩٩٥ نشر عالم الأحياء والرياضيات الانجليزى "جون ماينارد سميث"، كتابه: التحولات الكبرى فى نظرية التطور.
"جون ماينارد" هو أحد المشاركين في تطوير "علم الأحياء التطورى" المرتكز على دراسة الجينات فترة الستينيات, وهو مؤسس نظرية اللعبة التطورية اوائل السبعينات.
ما توصل اليه "ماينارد" فى كتابه عن "المعدل العالى لذكاء الجنس البشرى" يعد عملا ثوريا, او على الأقل عملا بالغ التقدم.
كان المشارك الاخر فى تطوير هذا العلم، هو عالم الأحياء الامريكى "جورج سى ويليامز"، والاثنان مثلما كان "تشارلز داروين" نفسه، مولعين لأقصى حد بمعضلة ما يسمى "مفارقه الذكاء المرتفع للبشر"، وما تنطوى عليها من مشاكل تطورية.
ولعل ذلك الأمر هو ما دفع الداروينيين الأوائل للجوء للفلسفة فى محاولة لفك الغاز تلك المعضلة.
فعلى الرغم من أن عمليه التطور تتم  فى الغالب بشكل تدريجى، فإن علماء الأحياء النظرية يعترفون ايضا بوجود بسلسلة من أحداث التحول الكبرى،(الطفرات)  تضمنت تغييرات عميقة في طريقة تخزين المعلومات ونقلها فيما بين الأجيال المتعاقبة.
فى كتابه "التحولات الكبرى فى نظرية التطور" يرصد "ماينارد" ثمانيه من تلك الطفرات خلال أربعة مليارات سنة من تطور الحياة على كوكب الارض.
من تلك الطفرات، التحول المبكر من ال "RNA" الى ال "DNA" ، الانتقال من الخلايا البدائية إلى الخلايا ذات النواة، والانتقال من التكاثر اللاجنسى إلى التكاثر الجنسى.
كانت الطفره التطورية السابعه بالنسبة له، هى التحول الجينى الذي سمح لبعض الأنواع بالعيش فى مستعمرات كبيرة. وهذه الطفره تحديدا سببت انزعاجا ل"داروين" بسبب وجود الحشرات غير المنتجة والعمال العقيمين.
اما الطفره الثامنة بالنسبة ل"ماينارد" فكانت "معدل الذكاء المرتفع للبشر" والتى أدت تلقائيا الى قدرتهم على استخدام اللغة.
بالنسبة له كانت تلك هى الطفره التطورية النهائية.

يصطدم التطور الطبيعى للذكاء مع سقفين شديدى الصعوبه، ففى كل مكان من المحيط البيئى، يكون تطور الذكاء مقيدًا بمستوى تطور منخفض نسبيًا بسبب متطلبات استقرار المجموعة (هذا هو السقف الاول).
يطلق " ماينارد سميث" على هذا المفهوم  "استراتيجية الاستقرار التطورى" 'ESS' ، والذى يعنى أن مستوى طبيعى محدود من الذكاء يؤدى  الى استجابة مستدامة لضغوط الانتخاب الطبيعى.
وبالرغم من  ذلك، فإننا نجد ان الذكاء المرتفع مثل ذكاءنا نحن البشر، هو نتاج حدث تطورى رئيسى او طفرة، نسبة احتمال حدوثها هى مرة واحدة فى المليار.(علينا تذكر هذه النسبه حيث انها مفتاح فهم العلاقة بين كيم كاردشيان و .ET. وايضا خطورة الذكاء الصناعى).
ربما يبدو لك توصيف "ماينارد سميث" للذكاء البشرى المرتفع والذى نتج عنه استخدام اللغة، بوصفه احد طفرات التحول التطورية الثمانية الكبرى غريبًا.
ذلك أنه يضع التطور اللغوى البشرى على نفس مستوى الأهمية الذى يعادل ظهور التكاثر الجنسى أو تعدد الخلايا.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا التوصيف مبالغ فيه ومتحيز للجنس البشرى مقارنة بالكائنات الأخرى.
ذلك أن الطفرات السبعة الأخرى كان لها تأثيرات واحدة على من الآلاف إلى المليارات من الأنواع، اما تلك الطفرة الثامنة فقد اقتصرت على نوع واحد فقط من الكائنات الحية (الانسان العاقل).
ولكن هذا الطرح يمكن ان يبدو غريبًا فقط فى حالة إذا ما نظرنا إلى الذكاء باعتباره طيفًا متواصلًا.
ولكن ما توصل اليه "ماينارد"، (والذى ربما يكون أفضل عالم أحياء ورياضيات فى النصف الأخير من القرن العشرين)، هو ان الذكاء البشرى لا يمكن أن يوجد فى أى طيف من تطور ذكاء الرئيسيات الأخرى باستثناء البشر.
بل ان هذا الذكاء البشرى ليس سوى نتاجا لانفصال فى عمليه التطور نفسها اختص بها الانسان العاقل وحده دونا عن باقى الكائنات.
من هنا، فهذه الطفره فى الحقيقة هى نقطة التحول التطورية النهائية.

من ناحية اخرى فإن مستوى هذا الذكاء اللغوى القابل للتحقيق يصل هو الاخر إلى حده الأقصى (السقف 2)، فهذا النوع من الذكاء يصبح بعد ذلك غير مرئى لعمليات الانتخاب الطبيعى كما سنشرح لاحقا.

هذا يعني ببساطة ان الذكاء الإنسانى هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكون من ذكاء، بغض النظر عن عمر الكون، وبغض النظر عن المدة التى تتطور فيها بقية الأنواع.
لم يكن "ماينارد سميث" فى الحقيقة يقول شيئًا جديدًا. ففى مراسلات "داروين" مع "ألفريد راسل والاس" فى ديسمبر 1857، وصف "داروين" مستوى الذكاء البشرى بأنه "المشكلة الكبرى والأكثر إثارة للتساؤل بالنسبة لعلماء الطبيعة".
و قد اتفق "والاس" مع "داروين" فى هذا الشأن؛ ووصفها بأنها "المشكلة التى تخالف" عمله واعمال داروين والتى، ووفقا لنظرية الانتخاب الطبيعى، لم يكن ينبغى لها أن تحدث.

كتب "توماس هكسلى"، احد مريدى داروين، ورئيس الجمعية الملكية في عام 1883، وتحدث على نطاق واسع عن مفارقة او مشكلة الذكاء العالى للبشر.
بل ان "هكسلى"، والذى تقلد فى احد الأوقات رئاسة الجمعيه البريطانية الميتافيزقية، اضطر للتحول من علم الأحياء الى الفلسفة فى محاولة لتفسير تلك المعضلة، بالاستعانة باعمال فلاسفه من امثال، "هيراقليطس"، و"بيركلى"، و"كانط".
وفى محاولته للوصول إلى جوهر الحقيقة، قام "جورج ويليامز"، بالتعاون مع المؤرخ الثقافي "جيمس باراديس" من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، بكتابة كتاب عن إجابة "هكسلى" عن تلك المفارقة.

مفارقة او معضلة الذكاء العالى والمرتفع للبشر، تعد أكبر مشاكل "داروين" التطوريه وأكثرها إثارة للاهتمام.
فالبشر لا يتطورون بالطريقة التي تتوقعها نظرية الانتخاب الطبيعى. فنحن وعلى العكس من المفترض، نستطيع العيش والتعاون والانسجام معا فى جماعات ومجموعات ذات أحجام هائلة، أكبر بمراحل مما ينبغى لقدراتنا طبقا للنظرية. 
كما انه ليس من المفترض لنا نحن البشر أن نكون قادرين على امتلاك صفات التعاطف والتراحم الانسانى تلك كما حدث.
والاهم اننا فى الحقيقة أكثر ذكاءً بكثير مما ينبغى.

على اية حال، فهذه ليست مشاكل منفصلة، بل هى ثلاثيّة مركبة من المشاكل.
دعونا ننظر إلى كل واحدة منها على حده:

معضلة حجم الجماعات
يتم الحفاظ على حجم جماعات الكائنات الحية مستقرًا بشكل فعال من خلال العوامل التطورية سواء الإيجابية منها او السلبية، بما فى ذلك توافر الغذاء والأمن وايضا استراتيجيات السلوك المستقرة التطورية؛ ولكن بشكل عام، كلما أصبحت الثدييات أكثر ذكاءً، كلما كانت أحجام مجموعاتها أصغر.

تعبر قوافل الحيوانات البريه غابات افريقيا الاستوائية سنويا بأعداد هائلة تصل إلى عشرات الآلاف؛ وحيث ان العشب لم يتطور بطريقة تمكنه الهروب من هذا المصير، لذا لا يتوجب على تلك الحيوانات البرية التعاون معًا للحصول على الغذاء.
فى عام 1971، كتب عالم الأحياء من "جامعة أكسفورد" "بيل هاملتون" ورقة بحثية كانت بمثابة البداية لما يسمى "نظرية أنانية القطيع"، مسلطًا الضوء على أن أفراد القطيع يبحثون دائمًا عن الحمايه. من امثلة ذلك، تنافسهم للوصول إلى الاماكن الأكثر أمانًا وسط القطيع، بحيث يتركون الاخرين لمواجهة مصيرهم على الحواف الخطرة.
وعلى النقيض من ذلك، نجد الجماعات التى تتمتع بالتماسك الاجتماعى القوى تقتضى نوعيات من السلوك  الذى يستلزم تفاعلات تعاونية بين أفراد الجماعة.

تعيش قرود البابون عادة في مجموعات تصل إلى بضع مئات فقط. ذلك ان الرئيسيات الأكثر ذكاءً تكون أفضل حنكة ودهاءا، ولمواجهة هذا التهديد، نجد ان الاحجام الأصغر للجماعات تجعلها أكثر فعالية  وافضل فى مواجهة تلك الحنكة وذلك الدهاء.
وعلى ذلك نجد ان أقرب أقربائنا الأحياء، مثل الشمبانزى والبونوبو، نادرًا ما يعيشون في مجموعات أكبر من مائة فرد.
اما البشر فكما وصفهم احد علماء "هارفارد" فانهم بحق "المخلوقات الفائقة القدرة على التعاون ".
ان آليات الوراثة الجينية المتنوعة جدًا فى الحياة، لا يمكنها  ولو حتى مجرد الاقتراب من خلق مخلوقات اخرى، تحاكى مستوى تعاوننا، أو مستوى اللاعنف لدينا.

قد يبدو هذا الأمر مدهشًا، لكننا بشكل عام أقل عنفًا بآلاف المرات من أنواع الرئيسيات الأخرى. وعلى حد تعبير "ستيفن جاى جولد" ، فإننا ودودون ولطفاء بشكل ملحوظ واستثنائى.
الا انه وبغض النظر عن اية نماذج جينية يتم دراستها، سنظل فى مواجهة معضله عدم وجود تفسير تطورى يبرر هذا الحجم الهائل لمجموعتنا البشرية.

لقد قيل أن فأر الخلد العاري هو أقرب الثدييات إلى التصرف مثل الحشرات الاجتماعية، حيث يعيش فى مستعمرات يصل عددها إلى ثلاثمائة فرد، ويتمتع بتقسيم سلوكي وتناسلي للعمل. لقد حققوا هذه الحالة المستقرة جزئيًا من خلال التزاوج الداخلى المكثف فيما بين أفراد القطيع. حيث يبلغ متوسط ​​​​القرابة داخل مستعمرة فئران الخلد العارية 0.81 - وهو أعلى معدل مسجل بالنسبة للثدييات فى الطبيعية. ومع ذلك، لا يمكننا القول بأن جرذان الخلد أو حتى الحشرات الاجتماعية  تعيش فى حالة وئام، اذا ما تم مقارنتهم بالبشر.
يشار عادة لمستعمرات جرذان الخلد العارية باعتبارها ـ "الديكتاتوريات الإنجابية"، فعادة ما  تكون الأنثى القادرة على الانجاب هى الحيوان المهيمن على المستعمرة. وتقوم الملكة بمهاجمة منافسيها القادرين على الإنجاب وقتلهم؛ وفى الاغلب يكون هؤلاء من أقاربها المقربين جدًا، كأخواتها مثلا.
وعلى حد تعبير "مارك إلجار" و"برنارد كريسبى" فى دراستهم الاستقصائية عن أكلى لحوم البشر بين الحشرات الاجتماعية، "يتغير الوضع الاجتماعى فى المستعمرات بشكل كبير عندما تبدأ هيمنة الملكة التى يتم التحكم فيها عن طريق الفيرمونات والسلوك فى الفشل أواخر الصيف... فيحدث القتال بين الملكات والعاملات، وبين العاملات وبعضهم البعض".
(Cannibalism: Ecology and Evolution Among Diverse Taxa, 1992).

كيم كاردشيان و إيه  تى

ولكن المفارقة لا تكمن فقط فى قدرة البشر على التعاون فيما بينهم فى جماعات مختلفة الأحجام فحسب، بل وايضا مهارتهم فى عمليات تقسيم وتوزيع العمل فيما بينهم، بطريقة لا يمكن تفسيرها بالحتمية الفيرومونية، أو الدكتاتوريات الإنجابية، أو القرابات الوراثية كالموجودة بين النمل، أو النحل، أو الدبابير، أو بالتزاوج الداخلى المكثف الموجود في مستعمرات النمل الأبيض.
إننا لا نجد أيضًا تفسيرا لسلوكياتنا  الأخلاقية، اذا ما حاولنا ربطها بالتحولات التطورية للكائنات السابقة.

وعلى حد تعبير عالم الرئيسيات "فرانس دي فال"، فإن الشمبانزى يعيش في "عالم عديم رحمة". وحتى قرود البونوبو، التى روج لها البعض باعتبارها من انواع  القردة الأخلاقية، بدأت تصدمنا، كالشمبانزى قبلها، مع ظهور المزيد من البيانات من الأبحاث الميدانية.
على سبيل المثال، في عام 2016، التقط "ناهوكو توكوياما" وزملاؤه مقطع فيديو لحالة أكل لحوم البشر لدى أمهات قرود البونوبو لصغارهم الميتة حديثًا. حيث أمسكت إحدى الأمهات بالجثة بيدها اليمنى وقضمت فجأة رأس الرضيع الذى كانت تعتنى به قبل ساعات قليلة فقط.
وطالما أنك تسلم أن البشرية قد تطورت من سلف مشترك مع الشمبانزي والبونوبو، فعليك أن تجد طريقة ما لتفسير هذا الانتقال من تماسك الجماعات الصغيرة في "عالم القردة بلا رحمة"، إلى هؤلاء البشر "المتعاونين" والى هذا "النوع البشرى المتعاطف والودود بشكل ملحوظ".
إن الذكاء البشرى يلعب دورًا حاسمًا فى قدرتنا على تنظيم أنفسنا فى مجتمعات، وفى عمليات تقسيم العمل المعقدة.
وهذا الذكاء الاستثنائى ضرورى للغاية لتطوير اللغة ، والكتابة، والتعلم ونقل الخبرات، والمهارات الدراسية، والفكر المتقدم.
فلا يمكنك الوصول إلى مرحلة التفكير المعقد والتعلم العابر للاجيال من خلال تلك الجماعات الصغيرة الموجودة فى الطبيعة. ولا تستطيع أيضًا الوصول لذلك من خلال العيش داخل جماعات مغلقة.
فالجماعات يمكنها النمو للوصول الى أعداد كبيرة، فقط عندما يكون هناك درجة عالية من الخصوصيه الجينية المستدامة، والا فكما هو الحال مع فأر الخلد العارى، فإن المجموعات التعاونية لن تتجاوز أبدًا بضع مئات.

ما الذى يفسر اذن ذلك الانفصال التطورى للبشر فى عمليات الانتخاب الطبيعى؟
بالنسبة ل"داروين"، فى كتابه "أصل الإنسان" (1871)، فإن هذا الانفصال حدث عندما اصبح الدماغ البشرى معقدًا بدرجة كافية - بما يكفى لجلب احاسيس ومشاعر من قبيل مشاعر الامل والخوف وغيرها، والاهم بسبب القدرة على استخدام هذا الوسيط الجامع المشترك بين البشر  المتمثل فى اللغة.
الان وبالنظر إلى وجود  سلف مشترك لنا مع الشمبانزى والبونوبو، يظهر التساؤل: هل يمكن لعملية تطور العقل البشرى وحدها، أن تكون كافية لتفسير قدرتنا الفائقة على التعاون ولتعاطفنا الانسانى؟

في كتابه القصير "السلام الدائم" عام 1795، اشار "إيمانويل كانط" الى أنه حتى لو وجدت جماعة من الشياطين، وكانوا أذكياء بالقدر المناسب، فسيمكنهم التعاون لبناء دولة.
لكن المشكلة انهم اولا يجب أن يتمتعوا وعلى مدى زمنى طويل بالقدرة على التفكير العقلانى.
وتطورهم هذا يمكن أن يصل إلى درجة معقوله لكنه لن يتميز بالكمال.
وثانياً، أنهم سيظلون في جوهرهم جنسًا من الشياطين بدلاً من نوعنا الودود والعاطفى بشكل استثنائى.

يوجد حاليا تفسيران شائعان في علم الأحياء لمعضلة الذكاء الانسانى. كلاهما يتطلب تعديلا او بالاصح طفرة ضخمه على المستوى الجينى.
الأول، هو "الانتخاب متعدد المستويات"، أو MLS، والذى يتطلب حدوث مستويات انتخاب أعلى بكثير مما تفترضه عمليات الانتخاب الطبيعى.
وعلى حد تعبير المنظر الرائد فى مدرسة ال MLS، "ديفيد سلون ويلسون"، فان "نظرية الانتخاب متعدد المستويات لديها القدرة على تفسير لماذا اصبح البشر هكذا اجتماعيون للغاية، وايضا لماذا كانوا استثناءا بتنوع فريد من عمليات الانتقاء الجمعى" (Unto Others، 1998).
لاحظ هنا مصطلح "اجتماعى للغاية"، وكذلك ذلك المطلب المزعج لـ"التنوع الفريد" فى عمليه الانتقاء الجمعى.
اما التفسير الثانى، المسمى "علم الاجتماع البيولوجى البشرى" Human Sociobiology- والذي انبثق من الفرع الشائع المسمى "علم النفس التطورى" - فانه يستلزم ظهور آلية وراثية جديدة ومعاكسة. يشار اليه احيانا ب (علم البيئة السلوكى*) Behavioral Ecology.
تم طرح نظرية علم الاجتماع البشرى في سبعينيات القرن العشرين من قبل اثنين من علماء الأحياء الأمريكيين هما "روبرت تريفيرز" و"إدوارد  ويلسون"، فى الرسالة التي سميت بهذا الاسم.
ومع ذلك ففى  عام 2010،  تخلى "أدوارد ويلسون" عن نظريته الخاصة  وتبنى بدلا منها نموذج "دافيد ويلسون" للتطور الاجتماعى المتقدم فى كل من الحشرات والبشر.
لا يربط "علم الاجتماع البيولوجى البشرى" ما بين تحولنا إلى هذا النوع الاجتماعى الرحيم الودود والعاطفى وبين تطور تعقيد الدماغ البشرى فى حد ذاته.
حيث ان "مبدأ أوكام" يخبرنا أنه من الأرجح أن يكون دماغنا المعقد الفريد قادراً بطريقة أو بأخرى على تفسير قدرتنا الاستثنائية على العيش في مجموعات كبيرة دونما الحاجة إلى القيام ببرمجة جينية فريدة.

إن ما سمح لنا بالتحول إلى هذه الجماعات كبيرة العدد، هو ذلك الدماغ المعقد والقابل للتأثر بمشاعر من قبيل الآمال والمخاوف، تلك القدرة المستقلة على اتخاذ القرارت.
لقد تكونت لنا آليات جينية و آليات انتخاب طبيعى جمعى جديدة.
ولكن بعد الوصول لهذه النقطة، تصبح الارتباطات الجماعية عمليه آلية تلقائيه بدلا من كونها وراثية، أو إذا فضلت أن تعبر عن الأمر بهذه الطريقة، تصبح عمليه ثقافية وليست عمليه بيولوجية.
وهكذا تتحول مجموعات بشريه تتألف مثلا من مائة فرد من الأقرباء البيولوجين فجأة إلى مجموعات غير عائلية تتألف من آلاف أو مئات الآلاف من البشر. وتتحول اللبنات الأسرية الصغيرة الى دول وأمم تتشكل وتتجدد وفقاً لمفاهيم ثقافية متغيرة ومتناقضة فى كثير من الأحيان.
ببساطه ذلك يعنى أنه لم يعد هناك أي شيء يمكن للانتخاب الطبيعى أن يعمل عليه - أى انه لم يعد هناك وجود لضغوط تطورية تدفعنا لكى نصبح أكثر ذكاءً.
فبعد ان تتخطى الجماعات البشرية المرحلة التى يصل فيها الدماغ البشرى إلى هذا التعقيد الذى يسمح بظهور المفاهيم المشتركة، ويدفع حجم الجماعات للنمو، يبدأ هنا دور الثقافة والحضارة فى دفع التطور البشرى قدما؛  ويتوقف فجأة كل شيء اخر له علاقة بالتطور البيولوجى.
فسلوكنا هنا لن يصبح نتاجا لعمليات الانتخاب الطبيعى البيولوجية التطورية.
حين نصل لهذة المرحلة، لن تتمكن الطبيعة من جعلنا أكثر ذكاءا مما وصلنا اليه بالفعل.
أى اننا الان، ببساطة اذكى المخلوقات التى يمكن ان توجد فى الطبيعية.

ذلك يعنى ايضا أنه حتى فى حالة وجود مخلوقات اخرى فى الاكوان الخارجية، فإن مستوى الذكاء عندها، سيكون فى نفس درجة مستويات ذكاء البشر على كوكب الأرض. المستوى الذي وصلنا إليه عندما تجاوزنا مرحلة الانتخاب الطبيعى الى تطورنا الاجتماعى والثقافى.
لقد كان لدينا دائمًا هذا التساؤل حول ما اذا كان الكون  يحوى مخلوقات اخرى من الاستثنائيين بالغى الذكاء بما يتجاوز ذكاءنا البشرى بكثير، كما كتب هربرت جورج ويلز عن المريخيين، أو كما اشار كارل ساجان الى هؤلاء "الفضوليين والمنعزلين الذين يراقبوننا من بعيد".
ولكن بسبب مشاكل كقدرة الجماعات الكبيرة على التماسك وارهاصاتها المحتملة، التى تعتمد بالكامل على عمليات الانتخاب الطبيعى، فإن تلك المخلوقات الرائعة التى تفوق عقولها ذكائنا البشرى بكثير - لا يمكنها أن توجد في هذا الكون.
نعم، يمكنهم من الناحية التكنولوجية، ان يكونوا أكثر تقدمًا منا بكثير؛ ولكن من الناحية النفسية والمزاجية والفكرية، فلن يكونوا أبدًا اعلى من مستوى الشخصيات الموجودة فى عائلة تلفزيون الواقع كارداشيان.
فبعد ثلاثة عشر مليار سنة من الانبثاق الهائل للنجوم، في هذا الكون الذى يمتد لعشرات المليارات وربما التريليونات من السنين الضوئية، فان كل ما وصل إليه الكون، أو ما سيصل إليه، من ذكاء لن يتخطى هذا المستوى من الصراعات السياسية، ونظريات المؤامرة، وبرامج تلفزيون الواقع.


مشاكل الذكاء الصناعى

حسب اخر معلوماتنا، فانه يوجد كائن واحد فقط من بين مليارات الكائنات، هو من نجح  فى ان لا يكون جزءا من هذا "العالم الخالى من الرحمة" (يمكننا أن نضم هنا الكلاب المستأنسة، التى تم منحها تعديلًا وراثيًا مصطنعًا يخفى هذه الطبيعة ولكن لا يمحوها).

لقد ازعج السلوك والفكر البشرى المتقدم "داروين" وشكل بالنسبة له"المشكلة الأعظم والأكثر إثارة للاهتمام".
ولنفس هذا السبب تبرز مخاوف هائلة من سعى البشر المحموم، لتخليق ذكاء اصطناعى شبيه بالتطور البيولوجى للبشر.
فقد ينتهى بنا الأمر الى تخليق كائن شديد الخطورة يتم إنتاجه عبر نفس تلك النسبه الذهبيه الخاصة بالانسان العاقل: الواحد من المليار.

لقد اختبرنا بالفعل كيفية التعايش مع نوع محدود من الذكاء الصناعى الاولى، الا ان الهدف النهائى لجميع أبحاث الذكاء الصناعى تقريبًا هو الذكاء العام، والذى يُطلق عليه أحيانًا الذكاء الاصطناعى القوى، أو الكامل، أو الحقيقى، الذى يكون على نفس مستوى ذكاء الإنسان (بل ويتخطاه)، والذى يُعرف رسميًا باسم "الذكاء العام الاصطناعى".
ومع ذلك، إذا ما تمت بنجاح مساعى تحقيق هذا "الذكاء الاصطناعى العام"  بالاستعانة بعلم الأحياء، فيبدو أن هناك احتمالًا أكبر بمليار مرة، أن هذا النوع من الذكاء لن يمر اطلاقا بمراحل التطور البيولوجى التى خضع لها البشر، والتى أدت فى النهاية لتمتعنا بتلك الطبيعة العطوفه الرحيمة.
بعبارة أخرى، من المرجح أن مثل هذا الذكاء الاصطناعى العام، و سيكون فى جوهره، ذكاءاً بلا اى رحمة. سيكون وبمليار مرة أكثر من أي شيء آخر، ذكاء منعدم الضمير تماما.

من أساسيات علم الأحياء، أن الكائنات الحية باستثناء الانسان، لن تتمكن من تحاشى التعقيدات البيولوجية التطورية، التى تجعلها "عديمة الرحمة "، لأن الصراع على البقاء هو الخوارزمية ذاتها التى تقف وراء هذا التعقيد. وذلك ما يجعل التطور عن طريق الانتخاب الطبيعى يعمل بنجاح كبير، وبالتالى ينتج أنماط السلوك الموجودة في الحشرات الاجتماعية، وجرذان الخلد، والحيوانات البرية، والكلاب المستأنسة، والقردة، والشمبانزى، والبونوبو.

خلال العقد الماضى، كان تطور الذكاء الاصطناعى يدور عادة حول المناحى البيولوجية. وقد حلت "الشبكات العصبيه الاصطناعية" ANNs التى تعد واحدة من أهم التقنيات المستخدمة في مجال الذكاء الإصطناعى والتي سُميت بهذا الإسم لأنها تُحاكى الشبكات العصبية الموجودة بالعقل البشرى،  محل الذكاء الاصطناعى الرمزى جزئيا، لأنه أصبح من الواضح أن التفكير الرمزى لا يمكن أن يقارع الذكاء البيولوجى.
يمكن القول ان "الشبكات العصبية الاصطناعية" هى السوفت وير المجرد للادمغة.

فى نفس الوقت، يبدو أن المناقشات حول "الذكاء الاصطناعى" الدائرة حاليا لا تدرك الخطر الحقيقى الذى يشكله "الذكاء الاصطناعى العام". لقد أحدث "جيفرى هينتون"، أحد عرابى الذكاء الاصطناعى، ضجة كبيرة عندما تحدث عن مخاطر الذكاء الاصطناعى العام. فقد صرح لمجلة "إم آى تى ​​تكنولوجى ريفيو" أنه يعتقد أن هناك نوعين من الذكاء فى العالم الآن، الذكاء البشرى والشبكة العصبية الاصطناعية: "إنه شكل مختلف تمامًا من الذكاء، شكل جديد وأفضل من الذكاء".
لكن الخطر الأعظم الذى قد يشكله الذكاء الاصطناعى العام (إذا وصلنا إليه يوماً ما) لن يكون أنه شكل جديد او أفضل من الذكاء؛ بل سيكون الخطر أنه شكل قديم جداً من أشكال الذكاء ــ شكل يعتمد تطوره على الانتقاء الطبيعى والاصطناعى، ولا يمتلك أى من خواص التعاطف او الضمير الانسانى.

إن الذكاء الاصطناعى يحاكى المنتجات البيولوجية للتطور، ولكن هل يعنى هذا بالضرورة أنه يحاكي التطور نفسه؟. وهل نحن راغبون فى رهن مستقبل الجنس البشرى فقط على قدرة خبراء التكنولوجيا على فهم والاهتمام بالفرق بين تقليد الكائنات الحية وبين تقليد التطور.
علاوة على ذلك، فالدليل الوحيد الذى نملكه حتى الان وعلى مدى الأربعة مليارات سنة الفائتة، هو أنه إذا قمت ببرمجة السلوك من خلال آلية وراثة ميكانيكية (مثل تلك يشار اليها هنا) فإنك وباستثناء فرصة واحد من المليار، سينتهى بك الأمر حتما إلى عالم منعدم الرحمة.

علاوة على ذلك، فإن أجزاء من مجتمعات تطوير الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلى، تستخدم وبنشاط فى اعمالها الخوارزمية التطورية نفسها.
وهكذا فكلما زاد الغموض والسرية فى عمليات التعلم العميق، و"التعلم غير الخاضع للإشراف"، وكلما زادت المنافسة والحاجة إلى تسريع وتيرة الانجازات، كلما ازدادت خطورة العواقب غير المتوقعة (أى السيئة).

إن الأبحاث التى يقوم بها الافراد دون التقيد بمحظورات او قيود بحثية يمكنها ان تصبح أسرع بكثير وأكثر استقرارًا وأقل عرضة للتخريب؛ لذا فإن تطور البحث الفردى هو طريقة سريعة وفعالة للغاية لتطوير التعلم الآلى. إلا انها فى نفس الوقت تحمل فى طياتها مليار من المشاكل!
ولا ننسى هنا مشاريع الذكاء الاصطناعى الخمسة التى يتم تطويرها خلف جدران الرقابة الحكومية الصينية؛ مع ثلاثة مشاريع أخرى تجري داخل جدران الفساد والعصابات الاجراميه فى روسيا الحديثة.

على الرغم من ان معرفتنا بمفارقة الذكاء العالى للإنسان تخطت 165 عامًا، الا اننا لم نحرز أي تقدم فى فهمنا لها. بل ويمكن القول إننا أبعد عن حل اللغز عما كنا عليه في العقود الأولى للداروينية. إنها المفارقة التي تستمر في الظهور. المفارقة التي تُظهر أن الحيوان البشرى هو الاستثناء الوحيد من بين مليار نوع من الكائنات الحيةالأخرى.
المفارقة التي تحول  إيه تى إلى كيم كارداشيان.

إن الخطر الحقيقى للذكاء الاصطناعى المتقدم لا يكمن في أنه سيكون شيئًا جديدًا ، بل فى أنه فى حقيقته ليس سوى مثالًا لشىء قديم،  قديم جدًا. 

Thursday, October 19, 2017

الدوله .....

ذهبنا فى مواضع سابقة إلى أن "الدولة" كيان معنوى محايد! 
والدولة المدنية الحديثة، خير تعبير عن ذلك، كيان معنوى محايد ليس له جنس أو دين أو إنتماء سياسى أو فنى، أو رياضى، أو غيرها من مشاعر عاطفية!
ومفهوم الدوله هكذا يحقق بأفضل وسيلة ممكنة، وفى ظل الظروف الإنسانية الحاليّه، مبدأ المساواة والتكافؤ والعدالة بين المواطنين.
ولعلى أكتب هذا مدفوعاً بما أثير مؤخراً من لغط حول قوانين الميراث، والزواج المختلط دينيا" وغيرها من المواضيع التى عدت شائكة.
ومفهوم الدولة المدنية الحديثة، طبقا للمعايير السابقة، قد يكون مطبقا فى منطقتنا من العالم جزئياً، ولكنه بالتأكيد غير مطبق بشكل كامل. 
وحتى تطبيقه بشكل كامل، فى أكثر بلاد العالم تحررا وتقدما، لا يؤدى بالضروره، إلى تحقيق العدل والمساواة الكامله بين المواطنين. ستبقى هناك تلك النوازع البشرية التى تميل فى أحيان كثيره إلى التحيّز وعدم الإنصاف، وإلى العنصرية التى قد تفرق بين المواطنين .
قد يحدث هذا، بسبب اللون أو العرق، أو حتى نوع الجنس سواء ذكر أو أنثى! 
ومع ذلك، فسيبقى هذا النظام، وحتى إشعار أخر، أفضل السبل الممكنه لتحقيق الحد الأدنى من الإنصاف والعدالة.
ولنكن أكثر تحديدا:
إننا نتحدث عن منطقتنا من العالم! لذلك فمن المهم تفهم أنه لا توجد دولة تعتنق دين أو عقيدة ما. 
لا توجد دولة مسلمة، أو دولة مسيحية، أو دولة هندوسية.
بمعنى أكثر تحديدا، الدول، طبقا للمفاهيم الدينية، لا تحاسب يوم الدينونة عن أفعالها بل هم الأفراد من يقومون بممارسة  فروضهم الدينية طبقا لمعتقداتهم المختلفة، ويحاسبوا أمام الخالق فى النهاية فرادى. 
أما الدول فلا تصوم أو تصلى أو تحج إلى بيت لحم أو إلى مكة أو إلى أى مكان أخر!
الدولة كائن معنوى من المفترض أن تكون مهمته الأساسية خدمة البشر!
إذا إتفقنا على مفهوم الدولة المدنية الحديثة هكذا، سنرى أن الأساس فيها هو القانون الموحد الذى يطبق على الجميع دون تمييز، والذى من المفترض أن يكفل الحد الأدنى من العدل والمساواه بين المواطنين فى تلك الدولة أمام القانون.
وحيث أن الدول فى العهود الحديثة أصبحت فى أغلبها الأعم متعددة الثقافات والأديان والمذاهب والمعتقدات، بات من الضرورى على مثل هكذا دول، أن تخضع لقانون مدنى موحد، يطبق على جميع مواطنيها دون تمييز.

ولنأخذ هنا موضوع المواريث، كمثال:
 القول بأن القانون المدنى الموحد سوف يساوى بين الورثة من الذكور والإناث فى أى بلد من البلاد، هو قول يخضع لقواعد العدالة المطلقه والمساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن خلفيتهم الدينية أو الثقافية أو العرقية. 
ودون الدخول فى مناظرات دينية أو فقهية، فإن إقرار مثل هكذا قانون فى إحدى الدول، لا يقف حائلاً دون أن يقوم أى شخص، إذا أراد، بترك وصية توزع بمقتضاها تركته بعد الوفاة، طبقاً للأنصبة التى يراها متوافقة مع ما يعتقد.
والواقع أن ذلك يحدث بالفعل فى بلد مثل "مصر"، حتى فى ظل القوانين الحالية، سنجد أن هناك من يقومون بتوزيع أنصبة تركتهم أو منح ما يمتلكون وهم مايزالوا على قيد الحياة، الى ورثتهم بأنصبة تختلف عما يراه أغلب المنظرين الدينيين. وهو أمر ينطبق على الكثير، بصرف النظر عن خلفياتهم الثقافية، أو الإجتماعية، بل وحتى عقائدهم الدينية المختلفة!

ننتقل الأن إلى الموضوع الأكثر حساسية، الزواج المدنى:
من مهام الدولة المدنية الحديثة، إدارة وتوثيق وتنظيم أحوال الأفراد الحياتية، من إصدار وثائق السفر والجنسية، وشهادات الميلاد وعقود الزواج وغيرها. وهى فى كل تلك الأحوال يجب أن تخضع لمقياس صارم محايد وموحد لجميع مواطنيها. 
فشهادات الميلاد أو جوازات السفر للذكر أو الأنثى أو أي مواطن بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته، يجب أن تكون واحده وتخضع لقوانين وإجراءات ثابتة للجميع.
ولنطبق ذلك الأن على وثائق الزواج والطلاق والأحوال الشخصية عامة. 
مهمة الدولة هُنا تنحصر فى توثيق عقود الزواج، بصرف النظر عن خلفية الراغبين فى الزواج الدينية أو المذهبية. 
يخضع هذا بالطبع لإستيفاء شروط الزواج الأخرى من حيث عمر راغبى الزواج المحدد قانونا، وألا تكون الزوجة أو الزوج، حسب قوانين الدولة، متزوجاً بالفعل، وغيرها من الأمور الإجرائية.
ونفس هذا المعيار، يجب تطبيقه، على وثائق وقوانين الطلاق، التى يجب أن تكون موحدة! 
لا توجد إجراءات وقوانين للطلاق، تخضع لعقائد المواطنين المختلفة، وإنما قانون موحد يسرى على الجميع.

نأتى هنا إلى التطبيق العملى لمثل هكذا قوانين:
سنجد أن الأغلبية الساحقة من المسلمين ومن المسيحيين وكل المؤسسات الدينيه فى مصر، سترفض زواج المسلمة من مسيحى، وأغلبية ساحقة من المسيحيين وكل المؤسسات الدينية المسيحية، سترفض زواج المسيحية من مسلم. فما بالك إذا أرادت مصريه أو مصرى أياً كانت عقيدته الدينية، الزواج من من يعتنقون البوذية أو الهندوسية أو أى دين خارج الأديان الإبراهيمية.
إذن فأنا هنا لا أناقش، من قريب أو بعيد، الموضوع من منظور دينى، أو من منطلق التحليل والتحريم، فلكل الحق المطلق فى إعتناق ما يراه الحق وتطبيقه على نفسه، ولكننى فقط أوضح أن " الدولة المدنية" لَيْس لها دخل بذلك! 
الدولة مهمتها إصدار وثائق الزواج والطلاق، والأحوال الشخصية، طبقاً للقانون المدنى، دون النظر لأى إعتبارات أخرى.

الموضوع المطروح هنا إذن، لا علاقة له بالمرجعية الدينية، وإنما له علاقة بحقوق الإنسان بشكل عام وبشكلٍ خاص أيضاً!
فسيظل من حق الكنيسة الأرثوذكسية وأتباعها، إذا أرادوا، إعتبار الطلاق دون موافقة كنسية عمل يخرج صاحبه من المله. وسيظل من حق المؤسسات الدينية الإسلامية وكثير من المسلمين، إذا أرادوا،  إعتبار زواج المسلمة من غير المسلم غير جائز شرعاً. 
ومع هذا فستظل مهمة الدولة الحديثة، تنظيم إجراءات الأحوال المدنية والشخصية بين أفرادها، بمقياس عادل، صارم وموحد.

إن وجود مثل هذه الدولة المدنية، معصوبة العينين، فى كثير من بلدان المهجر، والغرب،عامة، هى الضمانة الحقيقية لحقوق الكثير من المهاجرين، من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية متعددة.
وتظل مثل تلك الدولة المدنية الحديثة، حتى بما تحتويه بالضرورة من سلبيات، وحتى إشعار أخر، أفضل سبيل ممكن للعدالة بين البشر.
أو على الأقل هذا ما أظنه...

Friday, December 18, 2015

"ناش" قصة قصيرة من أربع فصول



ناش

حذرنى الجميع  
- شخص عصبى متقلب المزاج
هكذا وصفه مديرى المباشر، وأردف محاولاً تخفيف إندفاعه
- ولكنه خبره لا يستهان بها، لا شك ستستفيد كثيراً بعملك معه.
- أرجو فقط ألا تستفيد من حماقته، كخبره إضافية !
هكذا علق أحد الزملاء، فاتحاً المجال للحاضرين للإدلاء بدلوهم:
- بل هو إنسان أنانى لا يرى إلا نفسه
- إنه خشن المعشر، جلياط، لا يراعى شعور الأخرين.
- كفى مبالغه، هو ربما فقط لا يراعى الله فى شىء، 
وأضاف شارحاً
- غالباً والعياذ بالله، ملحد.
- بل هو بإختصار، مجنون
هكذا إختتم أحد الزملاء باقة التوصيفات

==========

تحركت العربه بسرعه، وهى تجتاز مدق بين الكثبان الرملية وسط الصحراء المنبسطة أمامها إلى مالانهايه، متجهه إلى مقر العمل الجديد.
لم يشغلنى طوال الطريق الممل الطويل التفكير فى وظيفتى المؤقتة، أوإبتعادى عن المدينة والأهل والأحباء، بل شغلنى فقط هذا المعتوه الذى على أن أعمل معه ولمدة إسبوع أو إثنين كل شهر.
لم تمثل تلك الوظيفه بالنسبة لى رغبه فى تحقيق الذات أو الإرتقاء، بل فقط وسيله لكسب المال!
شركه أجنبيه تريد عاملين يجيدون لغة أجنبيه للعمل بموقعها بالصحراء.
لا بأس. صحيح أنى سأضطر لقضاء إسبوعين فى الصحراء، ثم أجازه لإسبوع واحد أعود بعده للعمل، ولكن الراتب أكثر من مجزى.
 ثم أن الموضوع سيستمر بضعة أشهر فقط وعلى الأكثر سنه.
بدا كل شىء مثالياً، إلى أن ظهرت حكاية ناش هذا

- قل لى من فضلك
هكذا خاطبت السائق، بعد فترة صمت طويله
- إنت تعرف الأستاذ ناش؟
ضحك السائق وأجاب بصوت عال
- طبعا وهو فيه حد فى الصحرا مايعرفش ناش، والله راجل طيب.
أخيرا ذكره أحد بخير، هكذا طمأنت نفسى بصمت.

- هو صحيح "مناخوليا" شويه، بس ربنا دايما له حكمه.

لم أعد متأكد إذا كان من الحكمة إستكمال الطريق، أم من الأفضل العودة فى نفس الحافله!

- بس مش غريبه إسم ناش ده؟ إسمه ناش؟
نظر إلى السائق بإعتبارى مستجد عديم الخبره، ثم أفهمنى أن إسمه "إحسان النشرتى" ولكن الجميع ينادونه "ناش"

ويبدو أن سذاجتى فى طرح الأسئلة أغرت السائق، فإستمر المدة الباقيه من الطريق فى محاولة إبصارى بما خفى عنى من وسائل التعامل فى الشركة وأفضل الطرق للتعامل مع الخواجات كما أسماهم. وحين وصلنا إلى المقر كان منهمكاً فى شرح مغامراته النسائية وخبراته الطويله فى التعامل مع المرآه وطرق شكمها على حد تعبيره.

===========

إستقبلنى مدير الموقع بترحاب وإصطحبنى فى زيارة سريعة للمكان، أتبعها بإجتماع قصير فى مكتبه، أوضح خلاله أن "ناش" كان من المفترض أن يكون حاضرا، ولكنه على الأغلب مشغول.
وطبقا لتقسيم العمل، فأنا و"ناش" نقوم بنفس المهام تماما، وبالتالى سنعمل سويا إسبوعا واحدا، ثم يتم تناوب الأجازات فيما بيننا بالترتيب.
إصطحبنى الرجل إلى المكتب المخصص لنا، حيث بقيت ساعتان على الموعد اليومى لإنتهاء العمل فى السابعة مساءا
سبقنى إلى المكان وصاح بمرح بلكنته الإنجليزية المميزة :

- هيه، ناش، كيف حالك؟
أجابه صوت آجش مميز:
- لا بأس
- ناش، هذا هو شريكك الجديد فى العمل.
قالها وهو يربت على كتفى منصرفا

كنت قد قررت أن أبدو بمظهر اللامبالاة وعدم الإهتمام بصغائر الأمور. وبما أن احد الزملاء فى القاهرة تطوع بإعلامى عن إلحاد الرجل فقد قررت تجنب التحية ب سلامو عليكو مستعيضا عنها بمساء الخير.
لكن شىء ما فيه جعلنى أرفع يدى فى الهواء بالتحيه وأنا أقول بالإنجليزية ببساطه:

- هاى، هاو أر يو!

وبما أن الرجل كان متجها ناحيتى بكل جسده، فلم أفهم تماماً لماذا نظر إلى شىء ما بجوارى!
وبينما كنت أحاول تبيان سر المكان الذى نظر إليه، كان يتجه للخارج متمتما ببضعة كلمات غير مفهومه.
بالطبع كان يمكننى بسهوله أثناء خروجه أن أتبين نوع من الحول الواضح فى عينه.
بدايه غير موفقه لا شك!

==============

يبدو أن الرجل ميئوس منه تماماً وبصوره فاقت توقعاتى!
لم يكلف نفسه عناء رد التحية أو بيان كيفيه عمل المكتب أو حتى البقاء قليلا. فقط تركنى وإنصرف بمنتهى البساطه.
حاولت رسم صوره سريعة له فى ذهنى. 
ضخم، قوى البنيه، ممتلىء قليلا، يكلل رأسه شعر أملس غزير ناصع البياض.
وهو بالتأكيد أكبر مما توقعت، ربما فى منتصف السيتينيات، 
يمتلك صحه جيده وملامح قويه وغير محايدة.
 ما كان يلفت النظر أيضاً، أنه الوحيد الذى لم يرتدى زى العمل (الأفرول) الأزرق الذى يغطى الملابس، ولم يعتمر حتى خوذة الرأس الإجبارية. بدا مظهره غريبا ببنطلون أبيض، أو بالأحرى كان أبيض يوماً ما، وفانله تنافس لون البنطلون، بل لعلى لمحت فتقاً فى مكانٍ ما فيها!
على كلٍ، تجاهلت الأمر تماماً، وبما أنى كنت أعلم طبيعه العمل وكيفية آداءه بسهوله من خبراتى السابقة، فقد بدأت فى فحص الأوراق والخرائط وتأملت جهاز الكمبيوتر المغلق.
وبينما أقلب فيها، آملا ً أن يأتى ويرانى شرعت فى العمل بالفعل، لفت نظرى هذا الكم الهائل من البيانات والتقارير المكتوبة بدقه وعنايه شديده لا تحتاجها هذه النوعية.
بيانات وتقارير وإقتراحات مكتوبه بلغه إنجليزية راقيه ومرتبه بطريقه إحترافية، 
يبدو أن الرجل غير مخبول تماماً !

فى كل الأحوال، فإنه لم يعد ثانية، فغادرت إلى مدير الموقع، الذى إصطحبنى إلى مقر إقامتى، ثم إلى المبنى الإجتماعى، حيث يلتقى العاملون أثناء وجبات الطعام، ثم ساعات مابعد إنتهاء العمل وحتى موعد النوم.
المبنى لا بأس به، فبالإضافة إلى المطعم، هناك قاعتين، يحتل تليفزيون صدر إحداهما، ومكتبه صغيره صدر الأخرى.
لا ضير من التعرف على أناس جدد، وقضاء أمسيات صاخبه إن أمكن.
ولكنى لم أقاوم إغراء البحث عنه فى المكان، وبسهوله ميزت صوته الغريب قادم من قاعة المكتبه يتحدث مع شخص أخر، عرفت لاحقا أنه طبيب الموقع.

==============


- أنا بشكل شخصى لم أنخدع أبداً فى هذه الجماعة، وأرها جماعه فاشيه ستجنح للإرهاب عند الضروره.
 الحياه السياسية المصريه لن يكتب لها النجاح أبدا ما لم يتم كشف أغراض هذه الجماعة  وأساليبها البعيدة تماماً عن أى حرية أو ديموقراطية.
كان ذلك تقريبا ما سمعته من حديثه وأنا أقترب منهما فى قاعة المكتبه
- والله أنا شايف إنهم ناس طيبين، بس محتاجين فرصه لإثبات كفاءتهم كفايه إنهم منظمين
هكذا علق الطبيب، ولكن ناش قام منصرفاً، وهو يوضح بصوته الجهورى:
- طيبين إيه ياأستاذ، دول تلاميذ "نيتشه" لا يؤمنوا إلا بالقوة ، تصبحوا على خير
رددنا عليه السلام، 

عرفت نفسى بالطبيب الذى بدا بشوشا إجتماعيا، وسألنى بلهجته الريفية :
- وحضرتك رأيك إيه؟
- والله أنا ماليش إهتمام جامد بالسياسة، يعنى متهيألى مش حتفرق قوى.
-إزاى؟ برضه لما البلد يمسكها ناس تعرف ربنا يبقى أحسن كثير.
- أه طبعا أكيد أحسن
كنت قد تعودت منذ فتره على عدم الإنخراط فى مناقشات لا طائل من ورائها، وخاصة إذا كان الجدل سيتخلله تعبيرات من قبيل "ناس طيبين" أو "بتوع ربنا"!
قلت محاولا تغيير مجرى الحديث
- وحضرتك متخصص فى إيه؟
أجاب ضاحكاً:
- أمراض جلديه، 
- طيب عال، ده تخصص ممتاز خصوصا نصه الثانى.
بادلنى الضحك ثم سألنى
- أول مره لك فى الصحراء؟
- لا الحقيقة أنا متعود على شغل المناطق النائية . أنا حكون رديف للأستاذ ناش.

ويبدو أن تلك كانت تلك فاتحه مفيدة، فقد أخبرنى الطبيب تقريبا كل شىء.
إتضح أنه جار قديم لناش، منذ أتى إلى القاهره من أكثر من عشرين سنه مضت لدراسة الطب.
سكن حجره أعلى بنايه فى قلب المدينة كان ناش وعائلته يمتلكونها قديما، وإنتهى بهم الحال الى شقتين بالإيجار.
عرفت أنه ينتمى إلى عائلة النشرتى بالغة الثراء قبل ثورة يوليو، وأن عمه حسن باشا النشرتى كان وكيل لوزارة الخارجيه فى عهد الملك.
كما أخبرنى بأصول والدته الفرنسية، وكيف أن ناش كان قد أتم دراسته الجامعيه فى سويسرا.
وإختتم الطبيب سلسلة المعلومات الغريبة، بإيضاح أن الرجل كان يعمل دبلوماسيا فى بدايات حياته، نظرا لإجادته التامه لأربعة لغات.

كانت معلومات غزيره ومفاجئة ، ولا تعكس أى إنطباع أولى عن الرجل، لذا قبل إن يغادر الطبيب للنوم، قلت معلقاً :

- واضح أنكم أصدقاء
أطرق قليلا ثم أبان بحسم:
- أنا لا أستطيع وصف علاقتى به بالصداقه، 
كلا لا أعتقد أننا أصدقاء!


                                           (٢)

بدأت يومى مبكرا، ورغم أنى لم أحظ إلا بساعات نوم قليله، إلا أننى صحوت فى نشاط بالغ لا مبرر له.
 لم تكن الساعه قد بلغت الخامسة صباحا بعد، لكنى إرتديت ملابس العمل وحذاء العمل الممل، الذى يأخذ عادة وقتاً طويل فى إرتداءه، وغادرت مسرعا إلى المطعم لتناول الإفطار.
كان المطعم خالياً إلا من مدير الموقع وإثنين من العاملين الأجانب. أشرت لهم بالتحيه من بعد، وبدأت إختيار الطعام من الأصناف المتواجدة. 
وبالطبع لم أنسى ملء الماج بالقهوة الساخنة، وجلست أتناول الطعام وأحتسى القهوة بمنتهى الهدوء.
كان أغلب جدار المطعم من الزجاج الشفاف الذى يتيح لك رؤية المنظر الخارجى بسهوله.
 بدا إنعكاس شروق الشمس على رمال الصحراء الممتدة أمامنا مبهج للغايه ،، ولاحت من بعيد الكثبان الرملية المتباينة الإرتفعات بلمعانها الساحر كجزء من لوحه تشكيلية أنستنى مع الإفطار الشهى والقهوة الساخنة، ما الذى أفعله بالضبط فى هذا المكان!

أنهيت إفطارى وغادرت المطعم وأنا أحيى بعض العاملين الذين بدأوا فى التوافد، وإتجهت إلى المكتب وقد إنتابنى الإرتياح لعدم رؤيتى "ناش" منذ الصباح، 
يمكننى الأن بدء اليوم والعمل قبل وصوله.
دلفت يميناً إلى الحاوية التى تضم مكتبنا، وكان غريبا وأنا أقترب أن ألحظ بوضوح "ناش" وهو تقريبا فى نفس هيئته بالأمس، ممسكا مقشه خشبيه، شارعاً فى تنظيف المكتب بكل همه ونشاط!

- صباح الخير
- خير
قالها وكأنه يحادث نفسه أكثر منه يرد تحيتى

لم أفهم سبب وجوده فى هذا الوقت المبكر، من المفترض ألا يبدأ العمل إلا بعد ساعه من الأن، كما أن عمليات التنظيف التى بدا منهمكاً فيها، يوجد مختصون يفترض أن يقوموا بها فى الصباح الباكر كما جرت العاده.
بنظره سريعة، لمحت ثلاجه وموقد صغيريين، وبراد كهربائى بجواره عده أوعيه لأصناف عديده من القهوة والشاى ومشروبات أخرى.
بدا واضحا أنه لا يعتمد كثيرا على مطعم الموقع، وعرفت فيما بعد أنه يتظاهر بتناول العشاء هناك، فقط كى يتاح له التواجد مع المجموعة وقت العشاء وتبادل الأحاديث وإبدا آراءه الواضحة والمميزه فى أغلب الأحوال.

جلست على المكتب الخاص بى، وبدأت فى إعداد بعض التقارير التى يفترض أن نقدمها فى الإجتماع الأسبوعى لممثلى كل الإدارات فى الغد والأربعاء من كل إسبوع.
ألقى نظره سريعة على ما أفعله وهو يواصل بنشاط تلميع الجزء المجاور لى بمنتهى الهمه، ولم يبدى أى ملاحظات أو رد فعل، إلا عندما شاهدنى أشرع فى إستخدام الكمبيوتر. 
كان الكمبيوتر فى ذلك الوقت من أوخر الثمانيات، غير منتشر بنطاق واسع، وبرامجه غير متقدمة ، إلا أنى وجدت برنامج كان يسمى وقتها لوتس ١٢٣مفيدا فى سرعة إنجاز التقارير. 
الواقع أن توجسه الظاهر من الكومبيوتر تحول فى دقائق إلى نوع من الفضول دفعه لأن يخاطبنى مباشرة لأول مره 

- طيب وإيه الفائدة ، أله كاتبه بشاشه
- يعنى مش بالضبط، ممكن نقول إنها برضه أله حاسبه سريعة جداً 
وأضفت محاولا مواصلة الحديث
- وبعدين أنا خطى سىء جداً فطبعا التقارير المطبوعة تنقذنى

لم يهتم كثيراً بإيضاح أن خطى ربما لم يكن بهذا السوء!
 وخشيت أن يتوقف الحديث هنا فخاطبته قائلا :

- أستاذ إحسان ... 
قاطعنى سريعا مستنكرا ً
- أستاذ إحسان مين
- حضرتك
- ناش إسمى ناش
- أه أسف .. أقصد ناش
لكنه لم يمهلنى، وغادر فجأه
بدايه غير موفقه أخرى ليوم أخر!

====================

لا أعتقد أننا تبادلنا الحديث فى الأيام التاليه، إلا عندما طلب منى حضور الإجتماع الإسبوعى مع مدير الموقع وباقى رؤساء الإدارات، موضحاً أنها فرصه لمعرفة باقى المجموعه.
أدهشنى هذا الطلب قليلا، فقد جرت العاده فى دنيا الموظفين، على إستئثار الأقدم والأعلى مرتبه على مثل هذه الإجتماعات، ببساطه كى يظهر دائماً فى الصورة كما يفسرونها.
 والأغرب أنه أعطانى التقارير والبيانات التى أعدها، كى أستعين بها فى الإجتماع.
أما بإستثناء ذلك، فلم نتبادل إلا كلمات مبهمه خلال الأيام الخمسة الباقيه على موعد أجازته المقرر لها الإثنين.

الواقع أنى وجدت فى "ناش" شخصيه لا مثيل لها، وتسليه مريحة تسعفنى من الملل المزمن الذى يلازمنى أينما حللت.
قررت مواصله مراقبه الرجل ومحاوله سبر أغواره وفهم شخصيته، واعتبرت تلك هى اللعبه التى سألهو بها فى فترات وجوده. 
أما أثناء غيابه فيمكننى أن أتمتع بحياه طبيعية إلى حد ما، فطبقا لتقسيم العمل بيننا، لن نجتمع سوياً سوى لإسبوع واحد كل شهر على الأكثر.
وبعد مراقبتى له بضعة أيام، إكتشفت أنه لا يتجنبنى بشكل شخصى أو عدائى، بل هو لا يستريح فى وجود أى شخص فى دائرته الخاصة، حتى لو كانت العمل. 
وقد يفسر ذلك قيامه حتى بأعمال النظافة بنفسه، فهو لا يريد غرباء فى مكان عمله أو إقامته.
وبدا عجيباً هذا التناقض بين حرصه الشديد على النظافة، وبين مظهره الشخصى الذى لا يعكس أى مظهر حقيقى لذلك. 
كما لاحظت أنه لا يستخدم المطعم إلا نادرا، مكتفياً بخضروات وفواكه طازجة.
ومع ذلك، إكتشفت لاحقا أنه طباخ ماهر، ويمكنه إعداد وجبات معقده من كل أنحاء العالم. وحين يكون فى مزاج مناسب يتنافس المصريون والأجانب فى طلب وجبات معينه يعدها بنفسه فى مطبخ الموقع.
ورغم مزاجه المتقلب وعصبيته الزائده، فإنه يبدو فى أحسن أحواله فى التجمع المسائى، خاصة إذا دار الحديث عن السياسه أو الفن وبالتأكيد الفلسفة التى لم أهتم بها كثيرا.
والواقع أنى حرصت فى الأيام الأولى على التواجد قريباً منه فى تلك الأمسيات، ربما لأنى وجدت أراءه مختلفه وغير تقليديه، والأهم أنها تتفق مع توجهاتى الشخصية. 
ورغم ذلك فقد حرصت دائماً على البقاء مستمعا، ولم أحاول التداخل فى مناقشات يكون هو طرفها، حتى أننى إعتقدت أنه لا يلحظ وجودى.
ولكن ظنى بدا فى غير محله، إذ بينما كان مستغرقا فى مناقشه حاده عن "كانت" مع مهندس بلجيكى، فإنه عندما رأنى، حول لغة الحوار من الفرنسية إلى الإنجليزية.
خطوه لا بأس بها..

=====================

 الأثنين صباحا
اليوم المرتقب،
سأستعيد اليوم حريتى.
فى العاشرة سيغادر الأتوبيس الخاص بالشركة، حاملا العاملين إلى أجازاتهم، وسيحمل معه ناش.

حرصت منذ الأمس على ترتيب إجتماع صباحى لا جدوى منه مع إداره أخرى، حتى لا أضطر لقضاء أى وقت معه.
أنهيت الإجتماع فور مشاهدتى الأتوبيس وهو يحمل العاملين، ٍيغادر الموقع مخلفا سحابه من الرمال والغبار.

إتجهت فى إرتياح، نحو المكتب مشعلا سيجارتى بهدوء، دون أن أحرص على إنهائها قبل وصولى، كما تعودت أثناء وجوده.

تأملت الحاويات المصطفه كمكاتب، بنظام ومن خلفها، بدت المخازن الضخمة بأسقفها الزرقاء،
راقبت من بعيد شعله اللهب المنبثقة من الحقل، وأحسست كأنى أشاهد المكان للمره الأولى.

صعدت السلالم مسرعا، وأنا أدندن بأغنيه قديمه، وفتحت باب المكتب وأنا أأخذ نفسا عميقاً
وفاجأنى أخر مشهد كان بإمكانى تخيله.
ناش جالسا على المكتب، وأمامه جهاز كمبيوتر ، بينما يداه تدقان بسرعه فائقه على لوحة المفاتيح!

يبدو أن أثار الصدمة بدت واضحه للغايه على وجهى، حتى أنه قال مفسرا الأمر:

- يعنى أنا قلت أجرب الكمبيوتر، والله مش بطال.

الكمبيوتر؟
يظن أنى مندهش لأنه يستخدم الكمبيوتر!

لم أجد ما أقوله، فإتجهت فورا إلى مدير الموقع،
كان منشغلا فى إجتماع، فأشرت إليه 
ويبدو أن الإنزعاج البادى على وجهى، دفعه للإسراع إلىًًًًًًًًًًًًّ متسائلا،
قلت بصوت متهدج
- ناش!
- ماذا به؟ 
- لم يغادر
- أه،  نعم، 
وأردف بعد فترة صمت قصيره:
- الواقع أن ناش عادة لا يغادر ...
قالها وهو يحاول ألا ينظر إلىّ مباشرة 
أطرقت، وأنا أردد فى سرى هذه العبارة المبهمه
ناش ،،، لا يغادر

يالها من ورطه!



                        (٣)


هناك شئ ما فى رائحة بحر إسكندرية تذكرنى بالطفوله وأيام الصبا.
تناول الإفطار فى التريانون رغم رداءة الطعام والقهوة، متعه لا أستطيع مقاومتها!
هل هو المكان ، أم الإطلاله على البحر، لا أدرى
لعله القرب من محطة الرمل وتمثال سعد زغلول العتيد.
أحيانا يحلو لى تخيل نفسى كأحد شخصيات روايات "نجيب محفوظ" ، 
"ميرامار" على الأغلب، فأحداثها تدور فى الأسكندريه
ولكن من؟
حسنى علام؟ 
لا أظن 
لا أحمل من صفاته سوى النزق، وسرعة الملل.
منصور باهى؟،
 ربما فقط إحساسه الدائم بالذنب دون مثالياته!
سرحان البحيرى؟ 
أتمنى لا! 
ولكن أليس بداخل كل منا هذا البحيرى الطامح للنجاح والمال والمركز ربما بأى وسيله. 
فقط التجربة ما قد تثبت أى شخصيه فى النهايه تكون.
أو لعلى أتوق لحياة السيد أحمد عبد الجواد!
وبينما أنا غارق فى تأملاتى، أرتشف القهوه المالحة، فاجأنى مشهد وكأنه قادم من إحدى تلك الروايات
دخلت المكان سيده أنيقه، بكامل هيئتها، تحمل شنطة لامعه من الطراز القديم. تأملت المكان بعينين  تشعان برأه،  رغم تجاوزها السبعين، 
وتساءلت بعد أن تجولت بهدوء فى أركان المكان بصوت واضح
- فين أعزائى؟ فين أحبائى؟
ويبدو أن تعبيراتها الأتيه من الأربعينيات، وربما الثلاثينيات أثارت الضحك بالإضافة إلى الفضول ولكنها واصلت بمنتهى التصميم وهى تعيد تأمل المكان والزبائن!

- فين أحبائى؟ فين أعزائى؟ .... 
وأردفت ببساطه وهى تتأمل المكان، وتشير على الجالسين بيديها:
-إيه الزباله دى؟!

إكتفى البعض بالإبتسام والبعض بالضحك، بينما السيده تجوب أرجاء التريانون فى ذهول.

أنقذنى من الموقف وصول صديقى، "عارف كمال" الذى أتيت إلى الإسكندريه خصيصا لمقابلته.

==============
                                  
صداقتى ب "عارف كمال" تعود إلى أكثر من عشر سنوات، تعرفت عليه عن طريق صديق مشترك وكان يعمل وقتها فى إحدى السفارات الأجنبية بالقاهرة. 
رغم فارق السن الذى يتعدى العشر سنوات، إلا أننا أصبحنا أصدقاء فورا ومنذ اليوم الأول.  
كنا نقطن سويا حى مصر الجديده، وكانت لقاءاتنا شبه يوميه، إما وحدنا أو مع شله من الأصدقاء.
لم تنقطع هذه العاده، إلا بعد عودته إلى موطنه الأصلى "الإسكندريه" منذ أكثر من خمسة أعوام، لأسباب عائليه.
ولأنى أعلم أن عارف عمل فى بدايات حياته فى شركة مصر الجديده قبل تأميمها، قفز إسمه إلى ذهنى فورا عندما ذكر أحد العاملين فى الموقع، أن ناش كان يعمل فى شركة مصر الجديده!
لم أنتظر ساعتها موعد عودتى، بل توجهت فورا إلى حجرة الاتصالات فى الموقع (لم يكن هناك هواتف خلويه وقتها) وهاتفت "عارف كمال"

- عارف كيف حالك؟
- إيه يا راجل أين أنت؟ إتجوزت ولا إيه؟!
- أسكت كنت حأعملها ولكن الله ستر! أنا فى الصحراء، موقع شركة شل
- طيب عال حأشوفك إمتى؟
- غالبا الأسبوع القادم، قل لى ، إنت تعرف ناش ؟
- ناش!
- أيوه "إحسان النشرتى" شركة مصر الجديده
- ناش،،،، طبعا أعرفه، هو معاك؟ أنا عارف إنه إشتغل فى البترول
- أيوه معايا، وهايل أنك تعرفه، أنا حأكون عندك بعد يومين أو ثلاثه بالكثير ونتكلم

ولابد أن عارف ذهل، لأنى أغلقت الهاتف فورا، ولم أكلف نفسى حتى عناء السلام!

وهكذا كان أول شىء فعلته فى أول أجازة لى أن توجهت للقاء " عارف كمال" فى الأسكندريه، بدلا من مقابلة من تنتظرنى فى القاهره لأكثر من ثلاثة أسابيع!

=================

ربما كان لقائى بعارف كمال هو نقطة التحول فى نظرتى لناش وعلاقتى به.
ومن لا يعرف عارف كمال ( وربما كان ذلك مستبعد، لكثرة معارفه ومحبيه! ) فهو يبدو كأسعد إنسان على ظهر البسيطه! 
دائم المرح، لا تتوقف قفشاته وضحكاته العاليه. يمكنك أن تراه أول مرة فيأسرك بإقتحامه لمفاتيح شخصيتك بقفشه أو ضحكه، فتكره أن تغادر مجلسه، وتصبح من مريديه!
ودائما ما يكون غاية فى اللطف والتفهم لمشاعر الغير بسهوله ودون تكلف.
وهو رغم ذلك، تنطوى حياته على مأساه أو لعلها مأسى تتعلق بفقدان أولاده عبر مرض نادر خطير، لا يمهلهم أكثر من عامين، تنطفئ بعدها أضواء الحياه فى منزله،
 ويعيش بعدهامع زوجته أحزانهم مبتعدين عن الأهل والأصدقاء، لفترات تقصر أحيانا وتطول أحيانا أخرى.
ودائما ما تدهشنى قوة إيمانه وقدرته على قهر الحزن، والعودة الى هذا الشخص المرح السعيد المتسامح.

أبهرنى عارف كمال مره أخرى بقدرته على تحليل المواقف الاجتماعية والسياسيه، وتقليده للأصدقاء ببراعته المعهودة، وكدت أقع على الأرض فعليا وهو يقلد لى ناش صائحا بصوت أجش:

- أوركسترا إيه ياأستاذ؟ بيسموا العك ده أوركسترا

ضحك عارف عاليا وبعد فترة صمت نظر إلى بجديه وقال

- تعرف، أنا زى كل الناس وزيك كنت فاكر ناش شخص معدوم المشاعر جاف، وخصوصا عندما لم يكلف نفسه تعزيتى فى أحد أبنائى.
نظرت إليه بصمت وأنا أعلم مدى حزنه العميق المستمر.

- بس ناش هو سبب حياة إبننا الوحيد.

كان إندهاشى جليا، فأوضح:

- فى يوم وجدت ناش يقتحم على مكتبى، رغم إن علاقتنا لم تكن وطيده، بل ومتوتره عادة، وقال لى بثقه:
   
   - إسمع، انت لازم تاخد الولد وتطلع على فرنسا خلال أسبوعين على الأكثر

- كنت قد فقدت للتو أحد أبنائى، وبقى إبن واحد لم يبلغ السنتين، 

و ناش أمامى يخبرنى بثقه أنه بحث بعمق موضوع هذا المرض وأنه بعد قراءات عديده توصل إلى أنه توجد لهذا المرض النادر عيادة أبحاث متخصصة فى فرنسا يمكنها علاج المرض طالما أنه فى المراحل الأولى.

- ناش اللى عمل كده؟ أعتقد أنك أخبرتنى عن ذلك من قبل ولكن دون تفاصيل
أردف عارف 
- الغريب مش بس كده. 
ناش أعطانى أوراق العياده، والموافقة على إستقبالنا للعلاج دون مقابل، وخطاب رسمى السفاره الفرنسيه بالقاهرة للحصول على التأشيرات.

 وعندما هممت بشكره وأنا مذهول
صاح وهو يبتعد كأنه لا يعرفنى
- أنا لم أفعل شىء ، أنت تعلم أن صديقتى موظفه كبيره فى فرنسا

- نعم يقولون فى الموقع أنه يغادر سنويا لمدة شهر، للقاء زوجه أو صديقه فى فرنسا. وبإستثناء ذلك لا يغادر إلى القاهره، إلا أيام معدوده كل حين وأخر.
- سيده رائعه بكل معنى الكلمه، قامت معنا بدور رائع أثناء وجودنا فى فرنسا.
- سيده رائعه، ويبدو أنه هو أيضاً شخص رائع!
- بأكثر مما تتصور، ..
قالها مطرقا، وبتأثر

وهكذا غادرت عارف كمال والأسكندريه، وأنا أقل قلقا وحيره،،

                                               (٤)


كانت تلك هى نقطة التحول فى علاقتى ب "ناش".
لم يعد بالنسبة لى لغز غامض، عصى على الفهم، بل ربما كان أكثر بساطة من كثيرين من من صادفتهم فى الحياة.
لم يعد القلق والتوجس رفيقاى حين عودتى إلى مقر العمل هذه المرة. 
قررت أن أتجنب ذكر "عارف كمال"، كى لا أكشف له سر تحولى!

فقط أعدت رسم صورة "ناش" فى مخيلتى، فوجدته شخص بالغ الذكاء، مفرط الحساسية، وفوق ذلك خجول إلى حدٍ لا يمكن تصوره..

- إزيك ياناش، عامل إيه؟
رمقنى بنظرة سريعة، وتمتم:
- الحمد لله
أو على الأقل هذا ما إعتقدت أنه قاله. 
مش مهم!
كنت قد قررت تجربة الخطة التى وضعتها أثناء الأجازه. لذلك ودون مقدمات: 

- إسمع يا "ناش" أنا عايز أأقول لك حاجة، 
صحيح أنا بأشتغل معاكم هنا، بس إهتمامى الحقيقى هو بالسياسة والفلسفة والتاريخ.

أعتقد أن تلك كانت هى المرة الأولى التى يتجه بناظريه نحوى ويرانى فعلاًَ!
لذلك لم أدع الفرصة تمر، فإستأنفت:

- والحقيقة أنا كنت طول الفترة الماضية بأتابع حواراتك وآراءك، ولىّ بعض الإستفسارات، لو معندكش مانع يعنى.

بالطبع كنت متأكد أنى أفتح الباب السحرى، وعلىّ أن أعترف أنى لم أندم على ذلك قط.

شهدت الأسابيع والأشهر اللاحقة، واحده من أعمق وأثرى وأجمل المناقشات والمحاورات والمساجلات التى خضتها فى حياتى.
الرجل موسوعة متنقلة بكل ما تعنيه الكلمة.
 معارفه ومعلوماته لا تقتصر على مجالٍ أو تخصص واحد، بل تتشعب وتتوسع لتجمع أطراف معارف متباينه، وعلوم متنوعة.
فتجده يتدارس مع مهندسى الحفر أحدث آلات ووسائل الحفر المائل، أو الحفر البحرى.
ويناقش مهندسى الإنتاج فى وسائل اللحام الحديثة وأخر تقنياتها.
وينبرى فى مناقشات طبية مع الدكتور، وكثيراً ما يعترف الطبيب فى النهاية بصحة آراء "ناش".

أما عن الفلسفة والتاريخ، فحدث بلا حرج!
ولعل البداية كانت "إبن عربى"،
لقد كان يرى فى "محى الدين بن عربى" المثال الأعلى لكل الأديان ، ورغم حبه وتقديره لجلال الرومى" ، إلا أنه كان مفتوناً تماماً بفلسفة "إبن عربى". ويرى بوجوب عدم وضعهما فى مقارنة من الأساس.
والواقع أن إهتماماتى الصوفية كانت ضئيلة فى تلك المرحلة، فلم إتفهم سر تحمسه البالغ، إلا فى مرحلة لاحقة من الحياة.
ولكن معرفتى المتنامية بالرجل، ومناقشتنا المتعددة فى موضوع الأديان، جعلتنى أتعجب من تلك الأقاويل حول إيمانه أو إلحاده!
ومع توطد علاقتنا، صارحته بآرائى فيما يتعلق بمذاهب الشيعه، وأهل السنه والجماعة، غيرها.
فقد كنت أرى أنه من العجيب ألا يرى المعاصرون إرتباط أفول "الحضارة الإسلامية" إرتباطاً واضحاً بالهجمة الساحقة على أهل "العدل والتوحيد"، وصعود أفكار "أحمد بن حَنْبَل".
ولعلها كانت المرة الأولى التى يجلجل فيها ضاحكا وهو يحذرنى فيها:

- خلى بالك، أنت كده تقترب من قدس الأقداس الذى صنعوه لأنفسهم. أهم منك بكثير لم يجاهروا بهذا الرأى.
ثم أضاف بجدية بعد فترة صمت.
- لقد أخطأ "المأمون" حين أعطى قضية خلق القرآن كل هذه الأهمية، لقد وجب أن ينتصر لحرية الرأى والإعتقاد.

والواقع أن مناقشاتنا أظهرت لى جانب مخفى أخر من شخصيته، 
جانب مرح فكاهى، محب للحياة. وهو فوق ذلك حكاء رائع حين يثق بك. 
والواقع أن فضولى دفعنى دوماً إلى معرفة المزيد عن حياته، ولعل شغفى بالتاريخ هو الشفيع لى فى هذا!

فى إحدى المرات، كان يحدثنى عن فترة عمله كدبلوماسى شاب فى فرنسا قبيل العدوان الثلاثى، وكيف أنه تعلم وقتها إتقان إستخدام الأله الكاتبه، بشكل جعله أمهر من أى سكرتيره فى السفارة.
وقد برر ذلك بأنه يجب على الدبلوماسى أن يكتب تقاريره بنفسه، وعدم الإعتماد على أى سكرتارية، لما قد تحويه مثل تلك التقارير من معلومات سرية.
طبعاً كان رأيى أن السبب الحقيقى، هو خجله، الذى ربما يجعله يتردد فى الطلب من أى سكرتيره أن تكتب أى تقرير، إضافة إلى إتساق ذلك مع شخصيته التى يمكن وصفها بال "one man show"
ودفعنى ذلك لسؤاله عن سبب تركه العمل فى "الخارجية".
وقد بدأ رده بهذه الجملة التمهيدية الشهيرة، التى دائماً ما يستخدمها، حين يود شرح شئ هام وشخصى لا يقبل عنده الجدل :
 " إسمع بقى لما أأقول لك"

لذلك قال:
- إسمع بقى لما أأقول لك، أنا عندى عيله، أنا مسئول عنها، ومصاريف، وبعدين جالى عرض ممتاز من "شركة مصر الجديده" أيام ما كان بيديرها البلجيك، معقول أرفض؟
- مش عارف. بس الخارجيه مكان مرموق برضه.
- ماهو علشان كده أنا رحت لعمى أستشيره، قبل ما أستقيل.
- تمام.
- عمى نهرنى بشده، وقال ماينفعش، لازم حد من العيله يكون فى الخارجيه. 
فأنا إقترحت عليه إنه يتكفل بفرق المرتب، وأنا أفضل فى الخارجية.
ضحكت وأنا أقول
- طبعاً لم يوافق.
- لم يوافق إيه، ده شتمنى وطردنى وهو يصيح،، روح يا إبن ال ...... إعمل اللى أنت عايزه.

والغريب أنه طوال فترة معرفتى به، لم يشير من قريب أو بعيد إلى إنتمائه لعائلة أرستقراطية مصريه، أو إلى أصول والدته الفرنسيه، بل كان يشير إلى نفسه دائماً بأنه ذلك "الصعيدى" الساذج الذى وجد نفسه مضطرا للتواجد قسطاً من حياته فى أوروبا.

ورغم هذا التحول الدراماتيكى فى علاقتى ب "ناش"، إلا أن الأمر لم يخلو عادة من مفاجآت!
فأحياناً ينصرف عنى تماماً، ويتجاهل وجودى، وكأنه لا يدرى من أنا أصلاً، وأحياناً يقبل بدون تحفظ ويتطوع بإسداء نصائح، غالباً ما أثبتت الأيام صدق حدسها.
إلا أن وجوده وتقلباته أياً كان نوعها، باتت العزاء الوحيد فى تلك الصحراء المترامية .

والغريب أنه أثناء عملى فى تلك الفترة، لا أذكر أنه ترك الموقع الصحراوى فى أيام أجازاته، إلا مرة واحده، وهو ما دفعنى لسؤاله:

- ناش، ألا تشتاق أبدا لأجازه فى القاهرة؟
أجاب ببساطة:
- إسمع بقى لما أأقول لك، أنا بنت أختى تزوجت من عدة سنوات، وأنت عارف أزمة السكن. 
- طبعاً
- طيب هى وزوجها راح يعملوا إيه فى المشكل ده؟
- مش عارف
- أنا شفت إنهم أحسن يقيموا فى الشقة بتاعتى،
- الشقة بتاعتك؟
 - أيوه طبعاً، علشان كده مش لطيف إنى كل شويه بقى أنزل وأحرجهم.
لم أجد رداً مناسبا فقلت ببساطة 
- عندك حق

أعلم مدى تعلقه بأسرته وحرصه عليها، ورغم تنوع ثقافاته، وسفره لأنحاء مترامية من العالم، وإبتعاده المستمر والدائم، فإن الدنيا تبدأ وتنتهى عنده عند حدود تلك الأسرة الصغيرة.
وقد سألته مره فى السر فى عدم زواجه، رغم علمى أن لديه صديقه فرنسية منذ مايقرب من الأربعين عام، 
فنظر إلىٓ، كأنى مخبول وقال بشئ من الحده:

- إزاى؟ أنا والدتى أرملة، ولى شقيقة لم تتزوج، يعنى أسيبهم وأتزوج؟

بالطبع كانت والدته قد جاوزت التسعين فى ذلك الوقت، وشقيقته فى حدود عمره، 
لذا لم أجد بداً من تأييد رأيه بإيماءة من رأسى.

===================

لم تنقطع صلتى به، بعد تركى العمل فى الموقع.
صحيح أنه ورغم توطد علاقتنا، لم يهتم كثيرا بتوديعى عند مغادرتى، إلا أننى لم أغضب.
وعلى مر الأيام بعدها، صادفت نماذج متعددة من البشر فى الحياة والعمل، جعلت "ناش" يمر بخاطرى كثيراً، 
وجعلتنى آتسأل عن سر هذه الشخصية الفريدة، التى لم أصادف مثلها أبداً !
هل كان سعيداً فى حياته ؟ 
هل عد نفسه ناجحاً فى الحياة؟ أم إنه ببساطة لم يهتم بمثل تلك التساؤلات؟
ولماذا إرتبط فى ذهنى دائماً بسيدة التريانون فى الأسكندرية؟!

لقد كان فى نظرىٓ، ذكياً، مثقفاً، متعدد المواهب، يمتلك شهادات رفيعة، ويجيد العديد من اللغات، إلا أنه لم يحصل فى حياته على أى منصب أو تقدير مادى أو أدبى حقيقى، 
ويبدو إنه لم يلحظ ذلك مطلقاً،،

لعدة سنوات بعدها، صادفته كثيرا فى شوارع وسط القاهرة، حيث مقر إقامة عائلته، 
لم تكن رؤيته وسط الجموع عسيره، فهو يطل عليك دائماً بقامته المديده العريضة، ووجه المنحوت كتمثال فرعونى قديم، بشعر ناصع البياض، حليق وأنيق، يعتنى به طالما تواجد فى القاهرة.
يرتدى دائماً وأبداً، بدلة بيضاء تميل للكريم، وقميص أزرق فى لون السماء، فيقبل عليك مصافحاً بحراره، ونمضى بعض الوقت فى أحاديث متنوعة، ونحن نحتسى القهوة، ثم أغادره دون إتفاق على أى ميعاد، مؤقناً أنى سألاقيه لاحقا فى نفس المكان مصادفة.

مرت عدة سنوات قضيتها خارج البلاد، وأثناء سيرى فى شارع "طلعت حرب" فى إحدى المرات، كانت سعادتى بالغة حين وجدته فى مواجهتى فجأة!
صافحته بحرارة وتبادلنا احاديث عابرة سريعة، نظراً لإرتباطى بموعد سابق
 وحين غادرته، إستوقفنى قائلاً
- إسمع أن عايز أسألك على حاجة
- خير ياناش؟
- أنا بأفكر أطلع أشتغل فى الخليج، يعنى أدخر شويه بقى.

 كان فى آواخر السبعينيات من عمره.
ولم أراه بعد ذلك أبدا .....

تمت

ملحوظة: رغم أن الشخصية الرئيسية فى هذه القصة "ناش" مبنيه على شخصية حقيقيه، فإن الأغلب الأعم من هذه القصة من وحى الخيال.
حازم فرجانى