Friday, December 18, 2015

"ناش" قصة قصيرة من أربع فصول



ناش

حذرنى الجميع  
- شخص عصبى متقلب المزاج
هكذا وصفه مديرى المباشر، وأردف محاولاً تخفيف إندفاعه
- ولكنه خبره لا يستهان بها، لا شك ستستفيد كثيراً بعملك معه.
- أرجو فقط ألا تستفيد من حماقته، كخبره إضافية !
هكذا علق أحد الزملاء، فاتحاً المجال للحاضرين للإدلاء بدلوهم:
- بل هو إنسان أنانى لا يرى إلا نفسه
- إنه خشن المعشر، جلياط، لا يراعى شعور الأخرين.
- كفى مبالغه، هو ربما فقط لا يراعى الله فى شىء، 
وأضاف شارحاً
- غالباً والعياذ بالله، ملحد.
- بل هو بإختصار، مجنون
هكذا إختتم أحد الزملاء باقة التوصيفات

==========

تحركت العربه بسرعه، وهى تجتاز مدق بين الكثبان الرملية وسط الصحراء المنبسطة أمامها إلى مالانهايه، متجهه إلى مقر العمل الجديد.
لم يشغلنى طوال الطريق الممل الطويل التفكير فى وظيفتى المؤقتة، أوإبتعادى عن المدينة والأهل والأحباء، بل شغلنى فقط هذا المعتوه الذى على أن أعمل معه ولمدة إسبوع أو إثنين كل شهر.
لم تمثل تلك الوظيفه بالنسبة لى رغبه فى تحقيق الذات أو الإرتقاء، بل فقط وسيله لكسب المال!
شركه أجنبيه تريد عاملين يجيدون لغة أجنبيه للعمل بموقعها بالصحراء.
لا بأس. صحيح أنى سأضطر لقضاء إسبوعين فى الصحراء، ثم أجازه لإسبوع واحد أعود بعده للعمل، ولكن الراتب أكثر من مجزى.
 ثم أن الموضوع سيستمر بضعة أشهر فقط وعلى الأكثر سنه.
بدا كل شىء مثالياً، إلى أن ظهرت حكاية ناش هذا

- قل لى من فضلك
هكذا خاطبت السائق، بعد فترة صمت طويله
- إنت تعرف الأستاذ ناش؟
ضحك السائق وأجاب بصوت عال
- طبعا وهو فيه حد فى الصحرا مايعرفش ناش، والله راجل طيب.
أخيرا ذكره أحد بخير، هكذا طمأنت نفسى بصمت.

- هو صحيح "مناخوليا" شويه، بس ربنا دايما له حكمه.

لم أعد متأكد إذا كان من الحكمة إستكمال الطريق، أم من الأفضل العودة فى نفس الحافله!

- بس مش غريبه إسم ناش ده؟ إسمه ناش؟
نظر إلى السائق بإعتبارى مستجد عديم الخبره، ثم أفهمنى أن إسمه "إحسان النشرتى" ولكن الجميع ينادونه "ناش"

ويبدو أن سذاجتى فى طرح الأسئلة أغرت السائق، فإستمر المدة الباقيه من الطريق فى محاولة إبصارى بما خفى عنى من وسائل التعامل فى الشركة وأفضل الطرق للتعامل مع الخواجات كما أسماهم. وحين وصلنا إلى المقر كان منهمكاً فى شرح مغامراته النسائية وخبراته الطويله فى التعامل مع المرآه وطرق شكمها على حد تعبيره.

===========

إستقبلنى مدير الموقع بترحاب وإصطحبنى فى زيارة سريعة للمكان، أتبعها بإجتماع قصير فى مكتبه، أوضح خلاله أن "ناش" كان من المفترض أن يكون حاضرا، ولكنه على الأغلب مشغول.
وطبقا لتقسيم العمل، فأنا و"ناش" نقوم بنفس المهام تماما، وبالتالى سنعمل سويا إسبوعا واحدا، ثم يتم تناوب الأجازات فيما بيننا بالترتيب.
إصطحبنى الرجل إلى المكتب المخصص لنا، حيث بقيت ساعتان على الموعد اليومى لإنتهاء العمل فى السابعة مساءا
سبقنى إلى المكان وصاح بمرح بلكنته الإنجليزية المميزة :

- هيه، ناش، كيف حالك؟
أجابه صوت آجش مميز:
- لا بأس
- ناش، هذا هو شريكك الجديد فى العمل.
قالها وهو يربت على كتفى منصرفا

كنت قد قررت أن أبدو بمظهر اللامبالاة وعدم الإهتمام بصغائر الأمور. وبما أن احد الزملاء فى القاهرة تطوع بإعلامى عن إلحاد الرجل فقد قررت تجنب التحية ب سلامو عليكو مستعيضا عنها بمساء الخير.
لكن شىء ما فيه جعلنى أرفع يدى فى الهواء بالتحيه وأنا أقول بالإنجليزية ببساطه:

- هاى، هاو أر يو!

وبما أن الرجل كان متجها ناحيتى بكل جسده، فلم أفهم تماماً لماذا نظر إلى شىء ما بجوارى!
وبينما كنت أحاول تبيان سر المكان الذى نظر إليه، كان يتجه للخارج متمتما ببضعة كلمات غير مفهومه.
بالطبع كان يمكننى بسهوله أثناء خروجه أن أتبين نوع من الحول الواضح فى عينه.
بدايه غير موفقه لا شك!

==============

يبدو أن الرجل ميئوس منه تماماً وبصوره فاقت توقعاتى!
لم يكلف نفسه عناء رد التحية أو بيان كيفيه عمل المكتب أو حتى البقاء قليلا. فقط تركنى وإنصرف بمنتهى البساطه.
حاولت رسم صوره سريعة له فى ذهنى. 
ضخم، قوى البنيه، ممتلىء قليلا، يكلل رأسه شعر أملس غزير ناصع البياض.
وهو بالتأكيد أكبر مما توقعت، ربما فى منتصف السيتينيات، 
يمتلك صحه جيده وملامح قويه وغير محايدة.
 ما كان يلفت النظر أيضاً، أنه الوحيد الذى لم يرتدى زى العمل (الأفرول) الأزرق الذى يغطى الملابس، ولم يعتمر حتى خوذة الرأس الإجبارية. بدا مظهره غريبا ببنطلون أبيض، أو بالأحرى كان أبيض يوماً ما، وفانله تنافس لون البنطلون، بل لعلى لمحت فتقاً فى مكانٍ ما فيها!
على كلٍ، تجاهلت الأمر تماماً، وبما أنى كنت أعلم طبيعه العمل وكيفية آداءه بسهوله من خبراتى السابقة، فقد بدأت فى فحص الأوراق والخرائط وتأملت جهاز الكمبيوتر المغلق.
وبينما أقلب فيها، آملا ً أن يأتى ويرانى شرعت فى العمل بالفعل، لفت نظرى هذا الكم الهائل من البيانات والتقارير المكتوبة بدقه وعنايه شديده لا تحتاجها هذه النوعية.
بيانات وتقارير وإقتراحات مكتوبه بلغه إنجليزية راقيه ومرتبه بطريقه إحترافية، 
يبدو أن الرجل غير مخبول تماماً !

فى كل الأحوال، فإنه لم يعد ثانية، فغادرت إلى مدير الموقع، الذى إصطحبنى إلى مقر إقامتى، ثم إلى المبنى الإجتماعى، حيث يلتقى العاملون أثناء وجبات الطعام، ثم ساعات مابعد إنتهاء العمل وحتى موعد النوم.
المبنى لا بأس به، فبالإضافة إلى المطعم، هناك قاعتين، يحتل تليفزيون صدر إحداهما، ومكتبه صغيره صدر الأخرى.
لا ضير من التعرف على أناس جدد، وقضاء أمسيات صاخبه إن أمكن.
ولكنى لم أقاوم إغراء البحث عنه فى المكان، وبسهوله ميزت صوته الغريب قادم من قاعة المكتبه يتحدث مع شخص أخر، عرفت لاحقا أنه طبيب الموقع.

==============


- أنا بشكل شخصى لم أنخدع أبداً فى هذه الجماعة، وأرها جماعه فاشيه ستجنح للإرهاب عند الضروره.
 الحياه السياسية المصريه لن يكتب لها النجاح أبدا ما لم يتم كشف أغراض هذه الجماعة  وأساليبها البعيدة تماماً عن أى حرية أو ديموقراطية.
كان ذلك تقريبا ما سمعته من حديثه وأنا أقترب منهما فى قاعة المكتبه
- والله أنا شايف إنهم ناس طيبين، بس محتاجين فرصه لإثبات كفاءتهم كفايه إنهم منظمين
هكذا علق الطبيب، ولكن ناش قام منصرفاً، وهو يوضح بصوته الجهورى:
- طيبين إيه ياأستاذ، دول تلاميذ "نيتشه" لا يؤمنوا إلا بالقوة ، تصبحوا على خير
رددنا عليه السلام، 

عرفت نفسى بالطبيب الذى بدا بشوشا إجتماعيا، وسألنى بلهجته الريفية :
- وحضرتك رأيك إيه؟
- والله أنا ماليش إهتمام جامد بالسياسة، يعنى متهيألى مش حتفرق قوى.
-إزاى؟ برضه لما البلد يمسكها ناس تعرف ربنا يبقى أحسن كثير.
- أه طبعا أكيد أحسن
كنت قد تعودت منذ فتره على عدم الإنخراط فى مناقشات لا طائل من ورائها، وخاصة إذا كان الجدل سيتخلله تعبيرات من قبيل "ناس طيبين" أو "بتوع ربنا"!
قلت محاولا تغيير مجرى الحديث
- وحضرتك متخصص فى إيه؟
أجاب ضاحكاً:
- أمراض جلديه، 
- طيب عال، ده تخصص ممتاز خصوصا نصه الثانى.
بادلنى الضحك ثم سألنى
- أول مره لك فى الصحراء؟
- لا الحقيقة أنا متعود على شغل المناطق النائية . أنا حكون رديف للأستاذ ناش.

ويبدو أن تلك كانت تلك فاتحه مفيدة، فقد أخبرنى الطبيب تقريبا كل شىء.
إتضح أنه جار قديم لناش، منذ أتى إلى القاهره من أكثر من عشرين سنه مضت لدراسة الطب.
سكن حجره أعلى بنايه فى قلب المدينة كان ناش وعائلته يمتلكونها قديما، وإنتهى بهم الحال الى شقتين بالإيجار.
عرفت أنه ينتمى إلى عائلة النشرتى بالغة الثراء قبل ثورة يوليو، وأن عمه حسن باشا النشرتى كان وكيل لوزارة الخارجيه فى عهد الملك.
كما أخبرنى بأصول والدته الفرنسية، وكيف أن ناش كان قد أتم دراسته الجامعيه فى سويسرا.
وإختتم الطبيب سلسلة المعلومات الغريبة، بإيضاح أن الرجل كان يعمل دبلوماسيا فى بدايات حياته، نظرا لإجادته التامه لأربعة لغات.

كانت معلومات غزيره ومفاجئة ، ولا تعكس أى إنطباع أولى عن الرجل، لذا قبل إن يغادر الطبيب للنوم، قلت معلقاً :

- واضح أنكم أصدقاء
أطرق قليلا ثم أبان بحسم:
- أنا لا أستطيع وصف علاقتى به بالصداقه، 
كلا لا أعتقد أننا أصدقاء!


                                           (٢)

بدأت يومى مبكرا، ورغم أنى لم أحظ إلا بساعات نوم قليله، إلا أننى صحوت فى نشاط بالغ لا مبرر له.
 لم تكن الساعه قد بلغت الخامسة صباحا بعد، لكنى إرتديت ملابس العمل وحذاء العمل الممل، الذى يأخذ عادة وقتاً طويل فى إرتداءه، وغادرت مسرعا إلى المطعم لتناول الإفطار.
كان المطعم خالياً إلا من مدير الموقع وإثنين من العاملين الأجانب. أشرت لهم بالتحيه من بعد، وبدأت إختيار الطعام من الأصناف المتواجدة. 
وبالطبع لم أنسى ملء الماج بالقهوة الساخنة، وجلست أتناول الطعام وأحتسى القهوة بمنتهى الهدوء.
كان أغلب جدار المطعم من الزجاج الشفاف الذى يتيح لك رؤية المنظر الخارجى بسهوله.
 بدا إنعكاس شروق الشمس على رمال الصحراء الممتدة أمامنا مبهج للغايه ،، ولاحت من بعيد الكثبان الرملية المتباينة الإرتفعات بلمعانها الساحر كجزء من لوحه تشكيلية أنستنى مع الإفطار الشهى والقهوة الساخنة، ما الذى أفعله بالضبط فى هذا المكان!

أنهيت إفطارى وغادرت المطعم وأنا أحيى بعض العاملين الذين بدأوا فى التوافد، وإتجهت إلى المكتب وقد إنتابنى الإرتياح لعدم رؤيتى "ناش" منذ الصباح، 
يمكننى الأن بدء اليوم والعمل قبل وصوله.
دلفت يميناً إلى الحاوية التى تضم مكتبنا، وكان غريبا وأنا أقترب أن ألحظ بوضوح "ناش" وهو تقريبا فى نفس هيئته بالأمس، ممسكا مقشه خشبيه، شارعاً فى تنظيف المكتب بكل همه ونشاط!

- صباح الخير
- خير
قالها وكأنه يحادث نفسه أكثر منه يرد تحيتى

لم أفهم سبب وجوده فى هذا الوقت المبكر، من المفترض ألا يبدأ العمل إلا بعد ساعه من الأن، كما أن عمليات التنظيف التى بدا منهمكاً فيها، يوجد مختصون يفترض أن يقوموا بها فى الصباح الباكر كما جرت العاده.
بنظره سريعة، لمحت ثلاجه وموقد صغيريين، وبراد كهربائى بجواره عده أوعيه لأصناف عديده من القهوة والشاى ومشروبات أخرى.
بدا واضحا أنه لا يعتمد كثيرا على مطعم الموقع، وعرفت فيما بعد أنه يتظاهر بتناول العشاء هناك، فقط كى يتاح له التواجد مع المجموعة وقت العشاء وتبادل الأحاديث وإبدا آراءه الواضحة والمميزه فى أغلب الأحوال.

جلست على المكتب الخاص بى، وبدأت فى إعداد بعض التقارير التى يفترض أن نقدمها فى الإجتماع الأسبوعى لممثلى كل الإدارات فى الغد والأربعاء من كل إسبوع.
ألقى نظره سريعة على ما أفعله وهو يواصل بنشاط تلميع الجزء المجاور لى بمنتهى الهمه، ولم يبدى أى ملاحظات أو رد فعل، إلا عندما شاهدنى أشرع فى إستخدام الكمبيوتر. 
كان الكمبيوتر فى ذلك الوقت من أوخر الثمانيات، غير منتشر بنطاق واسع، وبرامجه غير متقدمة ، إلا أنى وجدت برنامج كان يسمى وقتها لوتس ١٢٣مفيدا فى سرعة إنجاز التقارير. 
الواقع أن توجسه الظاهر من الكومبيوتر تحول فى دقائق إلى نوع من الفضول دفعه لأن يخاطبنى مباشرة لأول مره 

- طيب وإيه الفائدة ، أله كاتبه بشاشه
- يعنى مش بالضبط، ممكن نقول إنها برضه أله حاسبه سريعة جداً 
وأضفت محاولا مواصلة الحديث
- وبعدين أنا خطى سىء جداً فطبعا التقارير المطبوعة تنقذنى

لم يهتم كثيراً بإيضاح أن خطى ربما لم يكن بهذا السوء!
 وخشيت أن يتوقف الحديث هنا فخاطبته قائلا :

- أستاذ إحسان ... 
قاطعنى سريعا مستنكرا ً
- أستاذ إحسان مين
- حضرتك
- ناش إسمى ناش
- أه أسف .. أقصد ناش
لكنه لم يمهلنى، وغادر فجأه
بدايه غير موفقه أخرى ليوم أخر!

====================

لا أعتقد أننا تبادلنا الحديث فى الأيام التاليه، إلا عندما طلب منى حضور الإجتماع الإسبوعى مع مدير الموقع وباقى رؤساء الإدارات، موضحاً أنها فرصه لمعرفة باقى المجموعه.
أدهشنى هذا الطلب قليلا، فقد جرت العاده فى دنيا الموظفين، على إستئثار الأقدم والأعلى مرتبه على مثل هذه الإجتماعات، ببساطه كى يظهر دائماً فى الصورة كما يفسرونها.
 والأغرب أنه أعطانى التقارير والبيانات التى أعدها، كى أستعين بها فى الإجتماع.
أما بإستثناء ذلك، فلم نتبادل إلا كلمات مبهمه خلال الأيام الخمسة الباقيه على موعد أجازته المقرر لها الإثنين.

الواقع أنى وجدت فى "ناش" شخصيه لا مثيل لها، وتسليه مريحة تسعفنى من الملل المزمن الذى يلازمنى أينما حللت.
قررت مواصله مراقبه الرجل ومحاوله سبر أغواره وفهم شخصيته، واعتبرت تلك هى اللعبه التى سألهو بها فى فترات وجوده. 
أما أثناء غيابه فيمكننى أن أتمتع بحياه طبيعية إلى حد ما، فطبقا لتقسيم العمل بيننا، لن نجتمع سوياً سوى لإسبوع واحد كل شهر على الأكثر.
وبعد مراقبتى له بضعة أيام، إكتشفت أنه لا يتجنبنى بشكل شخصى أو عدائى، بل هو لا يستريح فى وجود أى شخص فى دائرته الخاصة، حتى لو كانت العمل. 
وقد يفسر ذلك قيامه حتى بأعمال النظافة بنفسه، فهو لا يريد غرباء فى مكان عمله أو إقامته.
وبدا عجيباً هذا التناقض بين حرصه الشديد على النظافة، وبين مظهره الشخصى الذى لا يعكس أى مظهر حقيقى لذلك. 
كما لاحظت أنه لا يستخدم المطعم إلا نادرا، مكتفياً بخضروات وفواكه طازجة.
ومع ذلك، إكتشفت لاحقا أنه طباخ ماهر، ويمكنه إعداد وجبات معقده من كل أنحاء العالم. وحين يكون فى مزاج مناسب يتنافس المصريون والأجانب فى طلب وجبات معينه يعدها بنفسه فى مطبخ الموقع.
ورغم مزاجه المتقلب وعصبيته الزائده، فإنه يبدو فى أحسن أحواله فى التجمع المسائى، خاصة إذا دار الحديث عن السياسه أو الفن وبالتأكيد الفلسفة التى لم أهتم بها كثيرا.
والواقع أنى حرصت فى الأيام الأولى على التواجد قريباً منه فى تلك الأمسيات، ربما لأنى وجدت أراءه مختلفه وغير تقليديه، والأهم أنها تتفق مع توجهاتى الشخصية. 
ورغم ذلك فقد حرصت دائماً على البقاء مستمعا، ولم أحاول التداخل فى مناقشات يكون هو طرفها، حتى أننى إعتقدت أنه لا يلحظ وجودى.
ولكن ظنى بدا فى غير محله، إذ بينما كان مستغرقا فى مناقشه حاده عن "كانت" مع مهندس بلجيكى، فإنه عندما رأنى، حول لغة الحوار من الفرنسية إلى الإنجليزية.
خطوه لا بأس بها..

=====================

 الأثنين صباحا
اليوم المرتقب،
سأستعيد اليوم حريتى.
فى العاشرة سيغادر الأتوبيس الخاص بالشركة، حاملا العاملين إلى أجازاتهم، وسيحمل معه ناش.

حرصت منذ الأمس على ترتيب إجتماع صباحى لا جدوى منه مع إداره أخرى، حتى لا أضطر لقضاء أى وقت معه.
أنهيت الإجتماع فور مشاهدتى الأتوبيس وهو يحمل العاملين، ٍيغادر الموقع مخلفا سحابه من الرمال والغبار.

إتجهت فى إرتياح، نحو المكتب مشعلا سيجارتى بهدوء، دون أن أحرص على إنهائها قبل وصولى، كما تعودت أثناء وجوده.

تأملت الحاويات المصطفه كمكاتب، بنظام ومن خلفها، بدت المخازن الضخمة بأسقفها الزرقاء،
راقبت من بعيد شعله اللهب المنبثقة من الحقل، وأحسست كأنى أشاهد المكان للمره الأولى.

صعدت السلالم مسرعا، وأنا أدندن بأغنيه قديمه، وفتحت باب المكتب وأنا أأخذ نفسا عميقاً
وفاجأنى أخر مشهد كان بإمكانى تخيله.
ناش جالسا على المكتب، وأمامه جهاز كمبيوتر ، بينما يداه تدقان بسرعه فائقه على لوحة المفاتيح!

يبدو أن أثار الصدمة بدت واضحه للغايه على وجهى، حتى أنه قال مفسرا الأمر:

- يعنى أنا قلت أجرب الكمبيوتر، والله مش بطال.

الكمبيوتر؟
يظن أنى مندهش لأنه يستخدم الكمبيوتر!

لم أجد ما أقوله، فإتجهت فورا إلى مدير الموقع،
كان منشغلا فى إجتماع، فأشرت إليه 
ويبدو أن الإنزعاج البادى على وجهى، دفعه للإسراع إلىًًًًًًًًًًًًّ متسائلا،
قلت بصوت متهدج
- ناش!
- ماذا به؟ 
- لم يغادر
- أه،  نعم، 
وأردف بعد فترة صمت قصيره:
- الواقع أن ناش عادة لا يغادر ...
قالها وهو يحاول ألا ينظر إلىّ مباشرة 
أطرقت، وأنا أردد فى سرى هذه العبارة المبهمه
ناش ،،، لا يغادر

يالها من ورطه!



                        (٣)


هناك شئ ما فى رائحة بحر إسكندرية تذكرنى بالطفوله وأيام الصبا.
تناول الإفطار فى التريانون رغم رداءة الطعام والقهوة، متعه لا أستطيع مقاومتها!
هل هو المكان ، أم الإطلاله على البحر، لا أدرى
لعله القرب من محطة الرمل وتمثال سعد زغلول العتيد.
أحيانا يحلو لى تخيل نفسى كأحد شخصيات روايات "نجيب محفوظ" ، 
"ميرامار" على الأغلب، فأحداثها تدور فى الأسكندريه
ولكن من؟
حسنى علام؟ 
لا أظن 
لا أحمل من صفاته سوى النزق، وسرعة الملل.
منصور باهى؟،
 ربما فقط إحساسه الدائم بالذنب دون مثالياته!
سرحان البحيرى؟ 
أتمنى لا! 
ولكن أليس بداخل كل منا هذا البحيرى الطامح للنجاح والمال والمركز ربما بأى وسيله. 
فقط التجربة ما قد تثبت أى شخصيه فى النهايه تكون.
أو لعلى أتوق لحياة السيد أحمد عبد الجواد!
وبينما أنا غارق فى تأملاتى، أرتشف القهوه المالحة، فاجأنى مشهد وكأنه قادم من إحدى تلك الروايات
دخلت المكان سيده أنيقه، بكامل هيئتها، تحمل شنطة لامعه من الطراز القديم. تأملت المكان بعينين  تشعان برأه،  رغم تجاوزها السبعين، 
وتساءلت بعد أن تجولت بهدوء فى أركان المكان بصوت واضح
- فين أعزائى؟ فين أحبائى؟
ويبدو أن تعبيراتها الأتيه من الأربعينيات، وربما الثلاثينيات أثارت الضحك بالإضافة إلى الفضول ولكنها واصلت بمنتهى التصميم وهى تعيد تأمل المكان والزبائن!

- فين أحبائى؟ فين أعزائى؟ .... 
وأردفت ببساطه وهى تتأمل المكان، وتشير على الجالسين بيديها:
-إيه الزباله دى؟!

إكتفى البعض بالإبتسام والبعض بالضحك، بينما السيده تجوب أرجاء التريانون فى ذهول.

أنقذنى من الموقف وصول صديقى، "عارف كمال" الذى أتيت إلى الإسكندريه خصيصا لمقابلته.

==============
                                  
صداقتى ب "عارف كمال" تعود إلى أكثر من عشر سنوات، تعرفت عليه عن طريق صديق مشترك وكان يعمل وقتها فى إحدى السفارات الأجنبية بالقاهرة. 
رغم فارق السن الذى يتعدى العشر سنوات، إلا أننا أصبحنا أصدقاء فورا ومنذ اليوم الأول.  
كنا نقطن سويا حى مصر الجديده، وكانت لقاءاتنا شبه يوميه، إما وحدنا أو مع شله من الأصدقاء.
لم تنقطع هذه العاده، إلا بعد عودته إلى موطنه الأصلى "الإسكندريه" منذ أكثر من خمسة أعوام، لأسباب عائليه.
ولأنى أعلم أن عارف عمل فى بدايات حياته فى شركة مصر الجديده قبل تأميمها، قفز إسمه إلى ذهنى فورا عندما ذكر أحد العاملين فى الموقع، أن ناش كان يعمل فى شركة مصر الجديده!
لم أنتظر ساعتها موعد عودتى، بل توجهت فورا إلى حجرة الاتصالات فى الموقع (لم يكن هناك هواتف خلويه وقتها) وهاتفت "عارف كمال"

- عارف كيف حالك؟
- إيه يا راجل أين أنت؟ إتجوزت ولا إيه؟!
- أسكت كنت حأعملها ولكن الله ستر! أنا فى الصحراء، موقع شركة شل
- طيب عال حأشوفك إمتى؟
- غالبا الأسبوع القادم، قل لى ، إنت تعرف ناش ؟
- ناش!
- أيوه "إحسان النشرتى" شركة مصر الجديده
- ناش،،،، طبعا أعرفه، هو معاك؟ أنا عارف إنه إشتغل فى البترول
- أيوه معايا، وهايل أنك تعرفه، أنا حأكون عندك بعد يومين أو ثلاثه بالكثير ونتكلم

ولابد أن عارف ذهل، لأنى أغلقت الهاتف فورا، ولم أكلف نفسى حتى عناء السلام!

وهكذا كان أول شىء فعلته فى أول أجازة لى أن توجهت للقاء " عارف كمال" فى الأسكندريه، بدلا من مقابلة من تنتظرنى فى القاهره لأكثر من ثلاثة أسابيع!

=================

ربما كان لقائى بعارف كمال هو نقطة التحول فى نظرتى لناش وعلاقتى به.
ومن لا يعرف عارف كمال ( وربما كان ذلك مستبعد، لكثرة معارفه ومحبيه! ) فهو يبدو كأسعد إنسان على ظهر البسيطه! 
دائم المرح، لا تتوقف قفشاته وضحكاته العاليه. يمكنك أن تراه أول مرة فيأسرك بإقتحامه لمفاتيح شخصيتك بقفشه أو ضحكه، فتكره أن تغادر مجلسه، وتصبح من مريديه!
ودائما ما يكون غاية فى اللطف والتفهم لمشاعر الغير بسهوله ودون تكلف.
وهو رغم ذلك، تنطوى حياته على مأساه أو لعلها مأسى تتعلق بفقدان أولاده عبر مرض نادر خطير، لا يمهلهم أكثر من عامين، تنطفئ بعدها أضواء الحياه فى منزله،
 ويعيش بعدهامع زوجته أحزانهم مبتعدين عن الأهل والأصدقاء، لفترات تقصر أحيانا وتطول أحيانا أخرى.
ودائما ما تدهشنى قوة إيمانه وقدرته على قهر الحزن، والعودة الى هذا الشخص المرح السعيد المتسامح.

أبهرنى عارف كمال مره أخرى بقدرته على تحليل المواقف الاجتماعية والسياسيه، وتقليده للأصدقاء ببراعته المعهودة، وكدت أقع على الأرض فعليا وهو يقلد لى ناش صائحا بصوت أجش:

- أوركسترا إيه ياأستاذ؟ بيسموا العك ده أوركسترا

ضحك عارف عاليا وبعد فترة صمت نظر إلى بجديه وقال

- تعرف، أنا زى كل الناس وزيك كنت فاكر ناش شخص معدوم المشاعر جاف، وخصوصا عندما لم يكلف نفسه تعزيتى فى أحد أبنائى.
نظرت إليه بصمت وأنا أعلم مدى حزنه العميق المستمر.

- بس ناش هو سبب حياة إبننا الوحيد.

كان إندهاشى جليا، فأوضح:

- فى يوم وجدت ناش يقتحم على مكتبى، رغم إن علاقتنا لم تكن وطيده، بل ومتوتره عادة، وقال لى بثقه:
   
   - إسمع، انت لازم تاخد الولد وتطلع على فرنسا خلال أسبوعين على الأكثر

- كنت قد فقدت للتو أحد أبنائى، وبقى إبن واحد لم يبلغ السنتين، 

و ناش أمامى يخبرنى بثقه أنه بحث بعمق موضوع هذا المرض وأنه بعد قراءات عديده توصل إلى أنه توجد لهذا المرض النادر عيادة أبحاث متخصصة فى فرنسا يمكنها علاج المرض طالما أنه فى المراحل الأولى.

- ناش اللى عمل كده؟ أعتقد أنك أخبرتنى عن ذلك من قبل ولكن دون تفاصيل
أردف عارف 
- الغريب مش بس كده. 
ناش أعطانى أوراق العياده، والموافقة على إستقبالنا للعلاج دون مقابل، وخطاب رسمى السفاره الفرنسيه بالقاهرة للحصول على التأشيرات.

 وعندما هممت بشكره وأنا مذهول
صاح وهو يبتعد كأنه لا يعرفنى
- أنا لم أفعل شىء ، أنت تعلم أن صديقتى موظفه كبيره فى فرنسا

- نعم يقولون فى الموقع أنه يغادر سنويا لمدة شهر، للقاء زوجه أو صديقه فى فرنسا. وبإستثناء ذلك لا يغادر إلى القاهره، إلا أيام معدوده كل حين وأخر.
- سيده رائعه بكل معنى الكلمه، قامت معنا بدور رائع أثناء وجودنا فى فرنسا.
- سيده رائعه، ويبدو أنه هو أيضاً شخص رائع!
- بأكثر مما تتصور، ..
قالها مطرقا، وبتأثر

وهكذا غادرت عارف كمال والأسكندريه، وأنا أقل قلقا وحيره،،

                                               (٤)


كانت تلك هى نقطة التحول فى علاقتى ب "ناش".
لم يعد بالنسبة لى لغز غامض، عصى على الفهم، بل ربما كان أكثر بساطة من كثيرين من من صادفتهم فى الحياة.
لم يعد القلق والتوجس رفيقاى حين عودتى إلى مقر العمل هذه المرة. 
قررت أن أتجنب ذكر "عارف كمال"، كى لا أكشف له سر تحولى!

فقط أعدت رسم صورة "ناش" فى مخيلتى، فوجدته شخص بالغ الذكاء، مفرط الحساسية، وفوق ذلك خجول إلى حدٍ لا يمكن تصوره..

- إزيك ياناش، عامل إيه؟
رمقنى بنظرة سريعة، وتمتم:
- الحمد لله
أو على الأقل هذا ما إعتقدت أنه قاله. 
مش مهم!
كنت قد قررت تجربة الخطة التى وضعتها أثناء الأجازه. لذلك ودون مقدمات: 

- إسمع يا "ناش" أنا عايز أأقول لك حاجة، 
صحيح أنا بأشتغل معاكم هنا، بس إهتمامى الحقيقى هو بالسياسة والفلسفة والتاريخ.

أعتقد أن تلك كانت هى المرة الأولى التى يتجه بناظريه نحوى ويرانى فعلاًَ!
لذلك لم أدع الفرصة تمر، فإستأنفت:

- والحقيقة أنا كنت طول الفترة الماضية بأتابع حواراتك وآراءك، ولىّ بعض الإستفسارات، لو معندكش مانع يعنى.

بالطبع كنت متأكد أنى أفتح الباب السحرى، وعلىّ أن أعترف أنى لم أندم على ذلك قط.

شهدت الأسابيع والأشهر اللاحقة، واحده من أعمق وأثرى وأجمل المناقشات والمحاورات والمساجلات التى خضتها فى حياتى.
الرجل موسوعة متنقلة بكل ما تعنيه الكلمة.
 معارفه ومعلوماته لا تقتصر على مجالٍ أو تخصص واحد، بل تتشعب وتتوسع لتجمع أطراف معارف متباينه، وعلوم متنوعة.
فتجده يتدارس مع مهندسى الحفر أحدث آلات ووسائل الحفر المائل، أو الحفر البحرى.
ويناقش مهندسى الإنتاج فى وسائل اللحام الحديثة وأخر تقنياتها.
وينبرى فى مناقشات طبية مع الدكتور، وكثيراً ما يعترف الطبيب فى النهاية بصحة آراء "ناش".

أما عن الفلسفة والتاريخ، فحدث بلا حرج!
ولعل البداية كانت "إبن عربى"،
لقد كان يرى فى "محى الدين بن عربى" المثال الأعلى لكل الأديان ، ورغم حبه وتقديره لجلال الرومى" ، إلا أنه كان مفتوناً تماماً بفلسفة "إبن عربى". ويرى بوجوب عدم وضعهما فى مقارنة من الأساس.
والواقع أن إهتماماتى الصوفية كانت ضئيلة فى تلك المرحلة، فلم إتفهم سر تحمسه البالغ، إلا فى مرحلة لاحقة من الحياة.
ولكن معرفتى المتنامية بالرجل، ومناقشتنا المتعددة فى موضوع الأديان، جعلتنى أتعجب من تلك الأقاويل حول إيمانه أو إلحاده!
ومع توطد علاقتنا، صارحته بآرائى فيما يتعلق بمذاهب الشيعه، وأهل السنه والجماعة، غيرها.
فقد كنت أرى أنه من العجيب ألا يرى المعاصرون إرتباط أفول "الحضارة الإسلامية" إرتباطاً واضحاً بالهجمة الساحقة على أهل "العدل والتوحيد"، وصعود أفكار "أحمد بن حَنْبَل".
ولعلها كانت المرة الأولى التى يجلجل فيها ضاحكا وهو يحذرنى فيها:

- خلى بالك، أنت كده تقترب من قدس الأقداس الذى صنعوه لأنفسهم. أهم منك بكثير لم يجاهروا بهذا الرأى.
ثم أضاف بجدية بعد فترة صمت.
- لقد أخطأ "المأمون" حين أعطى قضية خلق القرآن كل هذه الأهمية، لقد وجب أن ينتصر لحرية الرأى والإعتقاد.

والواقع أن مناقشاتنا أظهرت لى جانب مخفى أخر من شخصيته، 
جانب مرح فكاهى، محب للحياة. وهو فوق ذلك حكاء رائع حين يثق بك. 
والواقع أن فضولى دفعنى دوماً إلى معرفة المزيد عن حياته، ولعل شغفى بالتاريخ هو الشفيع لى فى هذا!

فى إحدى المرات، كان يحدثنى عن فترة عمله كدبلوماسى شاب فى فرنسا قبيل العدوان الثلاثى، وكيف أنه تعلم وقتها إتقان إستخدام الأله الكاتبه، بشكل جعله أمهر من أى سكرتيره فى السفارة.
وقد برر ذلك بأنه يجب على الدبلوماسى أن يكتب تقاريره بنفسه، وعدم الإعتماد على أى سكرتارية، لما قد تحويه مثل تلك التقارير من معلومات سرية.
طبعاً كان رأيى أن السبب الحقيقى، هو خجله، الذى ربما يجعله يتردد فى الطلب من أى سكرتيره أن تكتب أى تقرير، إضافة إلى إتساق ذلك مع شخصيته التى يمكن وصفها بال "one man show"
ودفعنى ذلك لسؤاله عن سبب تركه العمل فى "الخارجية".
وقد بدأ رده بهذه الجملة التمهيدية الشهيرة، التى دائماً ما يستخدمها، حين يود شرح شئ هام وشخصى لا يقبل عنده الجدل :
 " إسمع بقى لما أأقول لك"

لذلك قال:
- إسمع بقى لما أأقول لك، أنا عندى عيله، أنا مسئول عنها، ومصاريف، وبعدين جالى عرض ممتاز من "شركة مصر الجديده" أيام ما كان بيديرها البلجيك، معقول أرفض؟
- مش عارف. بس الخارجيه مكان مرموق برضه.
- ماهو علشان كده أنا رحت لعمى أستشيره، قبل ما أستقيل.
- تمام.
- عمى نهرنى بشده، وقال ماينفعش، لازم حد من العيله يكون فى الخارجيه. 
فأنا إقترحت عليه إنه يتكفل بفرق المرتب، وأنا أفضل فى الخارجية.
ضحكت وأنا أقول
- طبعاً لم يوافق.
- لم يوافق إيه، ده شتمنى وطردنى وهو يصيح،، روح يا إبن ال ...... إعمل اللى أنت عايزه.

والغريب أنه طوال فترة معرفتى به، لم يشير من قريب أو بعيد إلى إنتمائه لعائلة أرستقراطية مصريه، أو إلى أصول والدته الفرنسيه، بل كان يشير إلى نفسه دائماً بأنه ذلك "الصعيدى" الساذج الذى وجد نفسه مضطرا للتواجد قسطاً من حياته فى أوروبا.

ورغم هذا التحول الدراماتيكى فى علاقتى ب "ناش"، إلا أن الأمر لم يخلو عادة من مفاجآت!
فأحياناً ينصرف عنى تماماً، ويتجاهل وجودى، وكأنه لا يدرى من أنا أصلاً، وأحياناً يقبل بدون تحفظ ويتطوع بإسداء نصائح، غالباً ما أثبتت الأيام صدق حدسها.
إلا أن وجوده وتقلباته أياً كان نوعها، باتت العزاء الوحيد فى تلك الصحراء المترامية .

والغريب أنه أثناء عملى فى تلك الفترة، لا أذكر أنه ترك الموقع الصحراوى فى أيام أجازاته، إلا مرة واحده، وهو ما دفعنى لسؤاله:

- ناش، ألا تشتاق أبدا لأجازه فى القاهرة؟
أجاب ببساطة:
- إسمع بقى لما أأقول لك، أنا بنت أختى تزوجت من عدة سنوات، وأنت عارف أزمة السكن. 
- طبعاً
- طيب هى وزوجها راح يعملوا إيه فى المشكل ده؟
- مش عارف
- أنا شفت إنهم أحسن يقيموا فى الشقة بتاعتى،
- الشقة بتاعتك؟
 - أيوه طبعاً، علشان كده مش لطيف إنى كل شويه بقى أنزل وأحرجهم.
لم أجد رداً مناسبا فقلت ببساطة 
- عندك حق

أعلم مدى تعلقه بأسرته وحرصه عليها، ورغم تنوع ثقافاته، وسفره لأنحاء مترامية من العالم، وإبتعاده المستمر والدائم، فإن الدنيا تبدأ وتنتهى عنده عند حدود تلك الأسرة الصغيرة.
وقد سألته مره فى السر فى عدم زواجه، رغم علمى أن لديه صديقه فرنسية منذ مايقرب من الأربعين عام، 
فنظر إلىٓ، كأنى مخبول وقال بشئ من الحده:

- إزاى؟ أنا والدتى أرملة، ولى شقيقة لم تتزوج، يعنى أسيبهم وأتزوج؟

بالطبع كانت والدته قد جاوزت التسعين فى ذلك الوقت، وشقيقته فى حدود عمره، 
لذا لم أجد بداً من تأييد رأيه بإيماءة من رأسى.

===================

لم تنقطع صلتى به، بعد تركى العمل فى الموقع.
صحيح أنه ورغم توطد علاقتنا، لم يهتم كثيرا بتوديعى عند مغادرتى، إلا أننى لم أغضب.
وعلى مر الأيام بعدها، صادفت نماذج متعددة من البشر فى الحياة والعمل، جعلت "ناش" يمر بخاطرى كثيراً، 
وجعلتنى آتسأل عن سر هذه الشخصية الفريدة، التى لم أصادف مثلها أبداً !
هل كان سعيداً فى حياته ؟ 
هل عد نفسه ناجحاً فى الحياة؟ أم إنه ببساطة لم يهتم بمثل تلك التساؤلات؟
ولماذا إرتبط فى ذهنى دائماً بسيدة التريانون فى الأسكندرية؟!

لقد كان فى نظرىٓ، ذكياً، مثقفاً، متعدد المواهب، يمتلك شهادات رفيعة، ويجيد العديد من اللغات، إلا أنه لم يحصل فى حياته على أى منصب أو تقدير مادى أو أدبى حقيقى، 
ويبدو إنه لم يلحظ ذلك مطلقاً،،

لعدة سنوات بعدها، صادفته كثيرا فى شوارع وسط القاهرة، حيث مقر إقامة عائلته، 
لم تكن رؤيته وسط الجموع عسيره، فهو يطل عليك دائماً بقامته المديده العريضة، ووجه المنحوت كتمثال فرعونى قديم، بشعر ناصع البياض، حليق وأنيق، يعتنى به طالما تواجد فى القاهرة.
يرتدى دائماً وأبداً، بدلة بيضاء تميل للكريم، وقميص أزرق فى لون السماء، فيقبل عليك مصافحاً بحراره، ونمضى بعض الوقت فى أحاديث متنوعة، ونحن نحتسى القهوة، ثم أغادره دون إتفاق على أى ميعاد، مؤقناً أنى سألاقيه لاحقا فى نفس المكان مصادفة.

مرت عدة سنوات قضيتها خارج البلاد، وأثناء سيرى فى شارع "طلعت حرب" فى إحدى المرات، كانت سعادتى بالغة حين وجدته فى مواجهتى فجأة!
صافحته بحرارة وتبادلنا احاديث عابرة سريعة، نظراً لإرتباطى بموعد سابق
 وحين غادرته، إستوقفنى قائلاً
- إسمع أن عايز أسألك على حاجة
- خير ياناش؟
- أنا بأفكر أطلع أشتغل فى الخليج، يعنى أدخر شويه بقى.

 كان فى آواخر السبعينيات من عمره.
ولم أراه بعد ذلك أبدا .....

تمت

ملحوظة: رغم أن الشخصية الرئيسية فى هذه القصة "ناش" مبنيه على شخصية حقيقيه، فإن الأغلب الأعم من هذه القصة من وحى الخيال.
حازم فرجانى